عرّت تطورات الأراضي الفلسطينية المحتلة الكثير من حقائق الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، على الصعيدين العربي والدولي، والتي جرى حجبها للتغطية على توظيفات أو خطابات معينة. لكن هذه التطورات كشفت، بشكل فجّ، عن الإشكاليات الذاتية التي يعاني منها العمل الفلسطيني في مواجهته للسياسات الإسرائيلية المدروسة، ما وضعه، فجأة، وجها لوجه أمام لحظة الحقيقة المرة والقاسية. وتقف في مقدمة ذلك الإشكالية الناجمة عن تركّز كل السلطات بيد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، فهو زعيم الشعب الفلسطيني ورئيس كيانه السياسي: منظمة التحرير الفلسطينية، وهو رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، وقبل ذلك هو قائد "فتح" كبرى الفصائل الفلسطينية. وبسبب من مواقعه هذه واستئثاره بصنع القرار وطريقته في القيادة، وضع الرئيس عرفات نفسه في موقع المسؤولية تجاه كل شاردة وواردة في العمل الفلسطيني، بسلبياتها وإيجابياتها، من القرارات الكبرى والمصيرية إلى القرارات الصغيرة والهامشية. وقد انعكس ذلك سلبا على العمل الفلسطيني كما على عرفات ذاته، خصوصا وأن هذا الأمر لم يقتصر على تضييق هامش الديموقراطية وتجاوز البنية المؤسسية لصنع القرارات، إذ إن الأخطر من هذا وذاك، أن مكانة عرفات المتعددة الوجوه والأغراض، حرمت الفلسطينيين هامش المرونة المطلوبة للعمل السياسي، بكافة أبعاده وأشكاله وتعقيداته. وهي، أيضاً، سهّلت على الإسرائيليين التركيز عليه لإنجاز عدة أهداف مرة واحدة. لن نعود في هذا الجدل، إلى الوراء، إلى اللحظة التي هيمنت فيها حركة فتح وبالتالي زعيمها، ياسر عرفات، على منظمة التحرير الفلسطينية، التي نشأت ككيان سياسي رسمي للفلسطينيين، لمناقشة الانعكاسات السلبية لهذه الخطوة على المنظمة وعلى حركة فتح ذاتها، إذ يمكن لنا الاكتفاء بالعودة إلى التاريخ الأقرب من خلال المحطات التالية: المحطة الأولى تتمثل في اللحظة التي قررت فيها قيادة المنظمة التفاوض مع الإسرائيليين، مباشرة أوسلو 1993، بدلا من الوفد الفلسطيني الذي كان يضم شخصيات مستقلة، اعتمدتها القيادة نفسها، من الضفة وقطاع غزة المحتلين برئاسة شخصية وطنية بمكانة الدكتور حيدر عبد الشافي. ففي هذه اللحظة، مثلا، كان يمكن لقيادة المنظمة التي كانت توجه الوفد المفاوض أن تحتفظ لنفسها بمكانة المرجعية الوطنية العليا وتترك للمفاوضين مناقشة حيثيات التفاوض من دون أن تورط نفسها باتفاق ناقص تجد نفسها مضطرة لتوقيعه كثمن للاعتراف بها. أما المحطة الثانية فتتمثّل بلحظة الشروع في الانتخابات لرئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل كان ياسر عرفات بحاجة لهذا المنصب إلى جانب مناصبه الأخرى؟ وهل كانت هذه الخطوة حكيمة وتخدم التطور السياسي للعمل الفلسطيني؟ والمعنى من ذلك أنه كان من مصلحة المشروع الفلسطيني ومصلحة عرفات ذاته، عدم الدخول في تفاصيل العملية التفاوضية وعدم الانشغال بمتاهات السلطة ومتطلباتها. ويمكن الذهاب أبعد من ذلك إلى مناقشة جدوى احتفاظ ياسر عرفات بالقيادة المباشرة لحركة فتح، لصالح احتفاظ عرفات بمكانته كزعيم للشعب الفلسطيني وكرمز لنضاله وقضيته. ومثلا، كان بإمكان عرفات الاحتفاظ برئاسته لمنظمة التحرير الفلسطينية وترك موقع رئاسة السلطة لشخصية وطنية مستقلة، لإيجاد هامش مرونة ومناورة بين متطلبات المنظمة والسلطة. لكن ما حدث عكس ذلك تماماً، إذ انشغل عرفات، كرئيس للسلطة، في الاهتمام بمؤسساتها ومتاهاتها وشؤونها الإدارية والمالية الخ، واحتفظ بمسؤولياته في متابعة كل تفاصيل العملية التفاوضية الطويلة والمضنية، على حساب اهتمامه بمنظمة التحرير، خصوصا أنه احتفظ بموقعه كرئيس للمنظمة من دون أن يهتم بتفعيل دورها، حتى كادت المنظمة تدخل حيز النسيان. المهم، الآن، أن التجربة أكدت مخاطر هذه الخيارات التي تكشّفت في لحظة سياسية حرجة يصعب معها إطلاق عملية مراجعة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. إذ بيّنت التجربة مخاطر تركّز القيادة والمرجعية في شخصية معنوية أو سياسية واحدة. والواقع الخطير الذي يقف أمامنا اليوم، وبشكل قاس، هو هذا الارتباط المصيري بين الانتفاضة والمفاوضة، بين السلطة والمنظمة، بين عرفات والمستقبل السياسي للشعب الفلسطيني. وعليه فإن تمثل عرفات للحركة الوطنية الفلسطينية ولمؤسساتها هو الذي يفسّر هذا التركيز الإسرائيلي المحموم على التشكيك بصدقيته وتحجيمه، وصولا لعزله وربما تغييبه، بشكل أو بآخر. والمشكلة أن الإسرائيليين يبدون، وللأسف، أكثر وعيا لخطورة وأهمية مكانة عرفات من بعض المعارضة الفلسطينية. فهو من زاويتهم يلخّص المشروع الفلسطيني ببعده التاريخي والرمزي والسياسي: المبدئي والبراغماتي، وهو حجر الزاوية في السياسة الفلسطينية وفي الشرعية الشعبية والدولية. والواقع ان الفلسطينيين في صراعهم المرير والمعقد والصعب، مع الإسرائيليين، ما كانوا يملكون متعة التشاطرالمعهودة ولا ترف الوقت وقدرة عدم الوضوح، بدعوى الغموض المراوغ. وهو ما وضع القيادة الفلسطينية في الزاوية الحرجة على الصعيدين العربي والدولي. وكل المؤشرات تؤكد أن الرئيس عرفات يقف مع شعبه بين حدود البطولة والمأساة في مواجهة الاستفراد الإسرائيلي المدمر الذي لا يتوخى وقف الانتفاضة، فقط، وإنما تقويض المشروع الوطني الفلسطيني المعاصر، مرة واحدة، في هذه الظروف العربية والدولية القاهرة.