عندما تحرك الشارع الاندونيسي قبل أربعة أعوام لاسقاط سوهارتو، الذي قدم استقالته في 21 مايو أيار 1998، ونجح في إنهاء حقبة الحكم الشمولي وبدء حقبة الديموقراطية والحريات، توقع المواطن الاندونيسي أن تدخل حياته نمطاً جديداً، وأن يطرأ عليها لون من التغيير، سواء على مستوى الحريات العامة السياسية والصحافية والحرية الشخصية وحق التعبير، أو على المستوى الاقتصادي والحياة المعيشية للمجتمع الذي طحن لعقود عدة بين شقي رحى السياسة الفاسدة والفقر. وبعدما تعاقبت على هذا البلد ثلاث حكومات بحر الدين حبيبي وعبدالرحمن واحد والرئيسة الحالية ميغاواتي سوكارنوبوتري، يتساءل الشارع الاندونيسي عن أي تطور إيجابي طرأ على حياته العامة أو الخاصة خصوصاً أن مرحلة ما بعد سوهارتو سميت مرحلة الاصلاح. فهل نجح هذا الاصلاح في تجسيد تطلعات الشعب الاندونيسي؟ "الحياة" استطلعت رأي سياسيين ورجال أمن وباحثين ومواطنين عن تقديرهم لما أنجز ، وما لا يزال عالقاً على أجندة الحكومة، أو في ذهن الشعب في انتظار التفعيل. إصلاح متعثر يقوّم الدكتور هدايت نور واحد، رئيس حزب العدالة الاسلامي المعارض، هذه المرحلة بلغة عربية فصيحة ويقول: "بدأت خيبة أملنا في عملية الاصلاح من نتائج الانتخابات السابقة 1999، التي فاز فيها الحزبان الكبيران اللذان كانا في عهد سوهارتو وعرفا بالفساد. وكان المأمول أن يصوت الشارع للذي قاد المطالبة بالاصلاح، وحمل همّ هذا البرنامج وأسقط نظام سوهارتو، وهو رئيس مجلس الشعب الاستشاري أمين رئيس. وخيبة الامل جاءت من قانون الانتخاب ومن الناخب على حد سواء. وبعد انتهاء حكم حبيبي حاول السياسيون إيصال عبدالرحمن واحد لما كان يعرف عنه من توجهات إسلامية ودعم للاصلاح إلا أنه أيضاً خيّب ظن السياسيين والشارع من الاشهر الاولى لحكمه، وحتى الناشطين السياسيين من الاكاديميين والمنظمات غير الحكومية، خصوصاً من اليساريين الذين كانوا يملأون البلاد ضجيجاً مطالبين بالاصلاح وانتقاد حبيبي، تساووا في الفساد عندما دخلوا مع عبدالرحمن واحد في الحكومة. أما فترة حكم حبيبي فكانت قصيرة لم تتجاوز السنة ونصف سنة، ومن الصعب الحكم عليها بإنصاف، لكن لا يمكن إنكار دوره في إنجازات إصلاحية قضائية وقانونية مهدت لمزيد من الاصلاحات في ما بعد. لكن مشكلة حبيبي أنه لم يتعامل في فترة حكمه على أنه رجل المرحلة الاصلاحية، وبقي يتعامل الى حد ما على أنه نائب سوهارتو". ويضيف: "يجب ألا ننسى أن فترة الفساد التي يراد إصلاحها تمتد من أواخر حكم سوكارنو الى سقوط سوهارتو، ما يغطي نحو أربعة عقود تقريباً، انتشر فيها الفساد الاخلاقي والاداري والاقتصادي والسياسي، إضافة الى أن الهزة الاقتصادية التي ضربت جنوب شرقي آسيا ومنها إندونيسيا، أثرت في مختلف مناحي الحياة في البلاد. وكل هذا تراكم ، لذا ليس من السهل إصلاح كل هذا الفساد في وقت قصير". وتابع: "لا شك في أن هناك تقدماً كبيراً في قضايا مثل الديموقراطية، فهي تمارس الى حد ما، وحرية التعبير كذلك، وعودة الجيش الى الثكنات، وعدم سيطرته على الحياة السياسية كما كان عهده سابقاً، وتعديل الدستور الاساسي. هذه الملفات حدث فيها تقدم جيد، وإن لم يكن كافياً. لكن تبقى هناك قضايا فشل البرنامج في تحقيقها مثل القضاء على الفساد الاداري والاقتصادي. وأعتقد أن الزمن جزء من العلاج، ونأمل إذا جاء الرئيس القادم نظيف اليدين ومؤمناً ببرنامج إصلاحي حقيقي أن يستكمل برنامج الاصلاح وتحقيق ما تبقى منه". ويخلص رئيس حزب العدالة الى القول: "لذلك نحن نطالب بتغيير بعض القوانين مثل الانتخاب المباشر للرئيس، وهي خطوة أساسية من أجل فرز رئيس يحظى باحترام الشارع، ولا تفرضه المساومات السياسية بين الاحزاب في أروقة مجلس الشعب الاستشاري". الجيش لا كلمة له ويقول الجنرال آغوس وجوجو النائب عن الشرطة في مجلس الشعب الاستشاري: "نفهم أنه في عملية الاصلاح، ينبغي أن يعمل الجيش كجزء من نظام المجتمع، وأنا كجندي، ليس من حقي أن أحدد ما إذا أصبح الوضع اليوم أفضل منه قبل أربعة أعوام، لكن الاهم هو أن يؤمن الشعب بأننا مؤسسة تعمل على حمايته، وهذا مهم لنا حتى نؤدي عملنا في شكل سليم. نحن علينا في مرحلة التحول أن نقاتل من أجل أن نكون أكثر ديموقراطية، وأكثر حداثة، لنتمكن من منافسة الدول الاخرى". صفر كبير أمل الدين 24 عاماً وهو خريج ثانوية عامة يعمل بائعاً متجولاً يرى أن الاصلاح "عملية غير مجدية، فالحكومة تتحدث دائماً عنا، لكنها لم تتحدث أبداً إلينا، وهي لا تعير طبقتنا المسحوقة أي اهتمام، ويكاد ينحصر اهتمامها في محاربة خصومها السياسيين حتى تبقى في السلطة. وفي فترة ما يسمى بالاصلاح، يعيش البسطاء حياة أكثر شظفاً من فترة حكم سوهارتو، على رغم أنه وحكومته كانوا فاسدين، لكن كان في الامكان الحصول على مصدر الرزق بيسر، وكنا أكثر أمناً من الآن. وإذا سألتني عن تقديري لهذه المرحلة ، أقول إنها تستحق صفراً كبيراً". أما تاجر الفاكهة في السوق المركزية مسلم مذكر، فيعتبر أنه لم يستفد شيئاً على المستوى الاقتصادي من عملية الاصلاح، ولم يلحظ أي تحسن في الحال الاقتصادية للبلاد منذ أربع سنوات. لكنه يستدرك أن هناك إيجابية واحدة لهذه المرحلة، يلمسها هو وغيره من التجار، وهي أنه يستطيع أن يشتكي الى نقابة التجار في جاكرتا إذا واجه مشكلة مع محافظة العاصمة أو إدارة السوق، وهذا ما لم يكن يحدث في عهد سوهارتو. وعلى الصعيد السياسي يقول: "لا يزال الشارع السياسي يعاني من ارتباك، لكن علينا أن نستمر في عملية الاصلاح، لان السياسيين سيدركون لاحقاً معاناة الشعب ويعملون على إصلاح الامور". أما سامودرا سوكاردي، وهو رجل أعمال ومدير قسم في الخطوط الاندونيسية، فيرى الامر من زاوية أخرى: "الاصلاح هو التغيير من الواقع الى واقع نحلم به ونتطلع إليه، ودور الحكومة هو ترتيب أولوياتها، وتنظيم العمل، وفي تقديري الاصلاح مفيد للمجتمع، فالمواطن يستطيع أن يعبر عن رأيه بحرية، بلا قيود أو خوف. وعلى الحكومة ألا تركز فقط على تحقيق نمو اقتصادي ، بل عليها أن تستهدف العدل في توزيع الرفاهية ومشاريع التنمية في المجتمع، والاهم هو التركيز على القوة الشرائية التي في يد المواطن". المزمل يوسف، 37 عاماً، مدير مركز دراسات الشرق الاوسط، وناشط سياسي، يقول: "هناك إيجابيات كثيرة تحققت في الاعوام الاربعة الماضية، من أهمها حرية التعبير التي كانت شبه معدومة في عهد سوهارتو، وكذلك الانتخابات الحرة، والتنافس السياسي النزيه بين الاحزاب، ووصول قيادات نظيفة الى مراكز متقدمة في الدولة من دون تخوف أو قلق من غضب الجيش، وهذه تحولات مهمة في الحياة العامة الاندونيسية. لكن في المقابل تراجعت الاحوال المعيشية للمواطن العادي، وهي بالنسبة إلى الانسان الفقير أهم من السياسة وصراعاتها، وأهم من حرية التعبير نفسها. ومن السلبيات أيضًا ضعف الحكومات التي تعاقبت في فترة الاصلاح، ما سمح لدول أجنبية كثيرة التدخل في الشأن الداخلي للبلاد والإضرار بها وهو ما يظهر في قوة الحركات الانفصالية ونشاطها، وتفجر الصراعات العرقية والدينية في مناطق متعددة من إندونيسيا". وبقدر ما تعكس هذه الاراء زاوية النظر الى موضوع الاصلاح ومنجزاته، باختلاف اهتمام صاحب الرأي، إلا أن هناك شبه إجماع على أن المنجزات ما زالت دون مستوى تطلع الشعب الاندونيسي. وإذا كان السياسيون والاكاديميون يقيسون مدى التقدم بالنظر الى مساحة حرية التعبير والعمل السياسي والتعددية الحزبية، فإن المواطن البسيط أو الفقير، الذي يمثل السواد الاعظم من 220 مليون إندونيسي، لا يفهم من لغة الاصلاح سوى ما يتعلق بكم يكسب من دخل وهل يكفيه هذا الدخل حتى نهاية الشهر وكم يتآكل من دخله بسبب ارتفاع الاسعار. ولا تعنيه كثيراً لغة السياسة والصراع الحزبي، وسيبقى الاصلاح في نظره عدماً ما لم يطل لقمة عيشه.