أصدر الشاعر الكردي شيركو بيكه س عشرين ديواناً، ترجم منها الى العربية: "مرايا صغيرة"، "سفر الروائح"، "ساعات من قصب"، "أغنية حجرية"، "مضيق الفراشات". هنا حوار معه: منذ ديوانه الأول "ضياء القصائد" الذي صدر في بغداد العام 1968 قدم بيكه س نفسه كصوت شعري متميز. حاز بيكه س جائزة توخو لسكي الأدبية عام 1988 التي يمنحها نادي القلم السويدي، وجائزة "بيره ميرد" في السليمانية أخيراً، وعين كأول وزير للثقافة في حكومة "اقليم كردستان" عام 1991 ثم قدم استقالته احتجاجاً على بعض الاجراءات الادارية "البيروقراطية". أصدر في بداية السبعينات - مع مجموعة من الأدباء الأكراد - بياناً تحت اسم روانكه - المرصد دعا فيه الى الحداثة والتجديد، وهو عضو في اتحاد أدباء السويد ويتمتع بالجنسية السويدية، وهو الآن يدير في السليمانية مؤسسة "سردم - العصر" للثقافة والنشر. لنتحدث قليلاً عن ملامح تجربتك الشعرية ومساراتها، وكيف انعكست حياتك القلقة في القصيدة، سيما وان القارئ العربي لم يطلع الا على أشعارك المترجمة للعربية؟ - البدايات تعود الى نهاية الخمسينات وكانت المحاولات الشعرية الأولى "الساذجة" من دون امتلاك للأدوات الفنية، جاء ديواني الأول "ضياء القصائد" 1968 كتجربة غير مكتملة ومتأثرة بمناخات قصائد الشاعر الكردي عبدالله كوران ولا سيما الرومانسية منها. في الديوان الثاني "هودج البكاء" نضجت التجربة قليلاً، وتطورت أدواتي الشعرية وتنوعت أشكال القصيدة، وفي الدواوين التالية رحت أهتم أكثر بتكنيك القصيدة وبنائها عبر قصائد مركبة ومن خلال صور أكثر قوة واشراقاً، والرجوع الى الذات بما تحمله من هواجس وأحلام، وفي هذه المرحلة كتبت مسرحية شعرية عنوانها "كاوا الحداد" استلهمت فيها التراث الكردي برؤية معاصرة. وفي أجواء الحرية التي سادت بين عامي 1970 - 1974 استفدنا كثيراً - كمثقفين وشعراء - من اللقاءات والندوات الفكرية، ومتابعة ما يصدر في بيروت والقاهرة ودمشق، وأصدرنا حينها بيان المرصد في محاولة لتجديد وتحديث اللغة والصورة الشعرية وتطويرها، وكتبت مسرحية شعرية أخرى بعنوان "الغزالة"، ثم حدثت الانعطافة الحقيقية اثر فشل ثورة أيلول سبتمبر 1974 التي قادها الملا مصطفى البرزاني، ففي تلك الظروف القاسية التي تفاقمت بعد اتفاقية الجزائر في آذار مارس 1975 وتوقف الدعم الايراني للثورة الكردية ذهبت الى ايران ثم عدت مرة أخرى الى كردستان حيث قامت الحكومة العراقية - آنذاك - بإجبار الكثير من المثقفين على العيش خارج كردستان، وكنت بين من تم تهجيرهم الى محافظة الرمادي "قضاء هيت" ومنها ذهبت الى بغداد التي شكلت محطة مهمة كتبت خلالها ديواني "انشودتان جبليتان". فحياتنا لم تكن مستقرة - الا نادراً - حيث الحروب والاقتتال والترحل المستمر على أجنحة الأمل، وكنا كشعراء نشارك في رد المحن والأهوال بالقصائد لذلك جاءت بعضها تقريرية مباشرة من دون اهتمام بالجانب الجمالي والفن، ولم أكن بعيداً عن حياة الثورة فقد شاركت في الثورات الكردية في أعوام 1970 و1974 و1984 وكتبت بعض القصائد للمقاومة من أجل رفع الروح المعنوية في تلك السنوات المريرة. بعد أن هدأت الأوضاع قليلاً ذهبت الى ايران ومنها الى سورية حيث أقمت أول أمسية شعرية بدعوة من اتحاد الأدباء الفلسطينيين عام 1987 ومن سورية ذهبت الى ايطاليا بدعوة من لجنة حقوق الانسان، وعقدت هناك ندوات عدة وأقمت أمسيات شعرية ثم غادرت ايطاليا الى السويد واستقريت فيها لسنوات عدة كانت روحي خلالها هائمة في سماء كردستان بين شعاب الجبال وبساطة الناس وملامح الأمكنة التي تركتها وكان الشعر هاجسي وملاذي الوحيد، وعلى رغم الاقامة الطويلة في استوكهولم أكاد لا أعرف اسم شارع فيها لكنني أعرف كل حجرة أو نبتة أو زهرة أو عصفور في السليمانية مدينة الشاعر. قاومت آلام الغربة، بالقصيدة؟ - بالضبط. لأن الشعر يحررك من جميع القيود ويمنحك مذاقه الخاص للوجود والحياة، وهو نوع من عشق غامض وملتبس لوردة، لجبل، لفتاة، لقضية، لموقف ومشاركة الآخرين في أفراحهم وأتراحهم. ذلك ان الشعر لس مسألة ذاتية صرفة دائماً، فعلى رغم انه يبدأ من الذات الا انه يتخطى هذه الذات الى معانقة الانسانية برحابتها وبكل ما تحمله من مآسٍ وآمال ومخاوف... ومن هنا حاولت دائماً الحفاظ على مسافة بين الشعر والسياسة لئلا تتحول القصيدة الى منشور سياسي، بل ينبغي ان تكون لسان حال البسطاء والمهمشين والحالمين بحياة أجمل وأبهى. كيف تكون القصيدة متألقة: عبر الموضوع المطروح أم من خلال البناء والصيغ والتراكيب؟ - ليس هذا ولا ذاك. المهم هو الخطاب الشعري الجميل في النهاية بصرف النظر عن الموضوع المطروح. فكثير من قصائد الغزل فاشل، وفي المقابل ثمة قصائد تتناول الهم السياسي وتكون ناجحة. فالمسألة ليست مسألة عنوان أو موضوع، المسألة اننا نريد قصيدة، نريد لغة شعرية جميلة سواء كان ذلك عن شجرة أو عن حبيبة أو عن شهيد أو قضية. وهناك الكثير من القصائد التي كتبها المتصوفة لم ترتقِ الى مستوى القصيدة الفنية العظيمة، وهنالك قصائد كتبت للسياسة وفي مناسبات سياسية لكنها مدهشة كقصائد المقاومة الفلسطينية وتحديداً الشاعر محمود درويش. فأنا لا يهمني الموضوع بمقدار ما تهمني الجملة الشعرية المبدعة، فإذا حاول شاعر فاشل الكتابة عن الوطن - كموضوع كبير - فلن يشفع له في كتابة قصيدة ناجحة، لأن الموضوع الكبير لا يخلق بالضرورة قصيدة عصماء وإنما الشاعر المتمرس هو من يصنع قصيدة راقية من موضوع مهما بدا هاشمياً وبسيطاً، فالقصيدة لا تقاس بالمادة المتناولة بل بكيفية التناول. الى جانب قصائدك القصيرة جداً، كتبت القصيدة الطويلة ذات الأصوات المتعددة والأقرب الى ما يمكن تسميته "الرواية الشعرية". ما الذي يبرر مثل هذا التوجه. وما الذي يحدده؟ - لنتفق أولاً على ان حجم القصيدة لا يتحكم في جودتها. فقصيدة قصيرة ربما تكون أقوى فنياً وجمالياً من قصيدة طويلة تشغل ديواناً كاملاً. أما سبب كتابتي للقصيدة الطويلة فهو انها محاولة لتفجير اللغة في اتجاهات عدة داخل النص الشعري، كما ان الإنسان يعيش أحياناً حالات من الوجع والقلق ذات مساحات واسعة من الشجن قد لا تستوعبها قصيدة قصيرة. القصائد الطويلة أشبه بالنهر، أما القصيرة فهي كالنبع، لا تحتمل سوى لحظة ضيقة، وأما الطويلة فتأتي بحجم الكوارث والآلام والأحزان. فيها استرجع الماضي وأقرأ الحاضر وهي متعددة الأصوات اتقرّب من خلالها من الأحداث التاريخية وأمزجها بالحاضر وفق رؤية جديدة، وهي تحمل صوراً كثيرة وروافد غنية الى جانب ذات الشاعر، وهي أقرب الى "الرواية الشعرية" التي تضم شخصيات ووقائع وأحداثاً تتشابك داخل النسيج الروائي المكتوب بلغة شعرية مجازية. ومن ناحية أخرى يمكن القول إن الشعر فقد حيويته وغابت عنه حرارة التواصل على يد بعض "الهواة والمتسلقين". ومن هنا فإن محاولاتي لكتابة القصيدة الطويلة التي تقترب من الجنس الروائي - بسرد مجازي - هي سعي لردم تلك الفجوة، أو بتعبير آخر محاولة تعيد للشعر توهجه حتى لا يسقط في الفراغ من دون القارئ.