عندما كنت في الثامنة من عمري قرر والداي إرسالي، وأنا لم أتجاوز الثماني سنوات من عمري، تلميذاً داخلياً الى مدرسة الفرندز للبنات، لا الى مدرسة الصبيان. ففي ذلك الوقت كان الصبيان في مثل سنّي يقضون السنتين أو الثلاث سنوات الأولى في مدرسة البنات ثم يُنقلون الى مدرسة الصبيان، كما فعلت. وبقيتُ في مدرسة الصبيان حتى سنة 1938، عند انتهاء الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي انطلقت سنة 1936 ودُعيت بالثورة الكبرى. بعد ذلك أرسلني أهلي الى مدرسة الI.C. التابعة للجامعة الأميركية في بيروت. في مدرسة البنات في رام الله كان عددُ الصبيان الداخليين في ذلك الوقت لا يتجاوز الخمسة عشر. كنا نقيم في بيت صغير بجانب الكنيسة الانجليكية الصغيرة بالقرب من الشارع المؤدي الى وسط البلدة. كان المسؤول عنا في المسكن سيدتين، مس حنّوش ومس عصفور. كنا نستيقظ باكراً على جرس تدقه مس عصفور متنقلة من غرفة الى غرفة، فنغتسل ونرتدي ثيابنا ونسير الى المدرسة لتناول الفطور في قاعة الطعام الواقعة في الطابق الأرضي من مبنى المدرسة الرئيس، حيث كانت تسكن الطالبات وبعض المعلمات، وحيث مكتب رئيسة المدرسة مس حنّوش. ما زلتُ أذكر طعم الكاكاو مع الحليب الذي كان يقدّم لنا في وجبة الفطور، وطعم سندويتش الدّبس مع الطحينة أو اللبنة بالزيت أو الزيت والزعتر الذي كان يقدم لنا عصراً قبل مشوارنا اليومي بعد انتهاء المدرسة. في هذه المشاوير كان المكان المفضل لدينا هو المقبرة على رأس التل المطل على رام الله، وكانت في ذلك الوقت تقع خارج البلدة. وقد زُرتُها سنة 1994 عند قدومي الى رام الله على رأس وفد فلسطيني من الولاياتالمتحدة للمساهمة في مؤتمر عقد في جامعة بيز زيت، فلم أتبينُها أو أعرفُها ولا حتى المنطقة المحيطة بها التي اصبحت تعمر بالبنايات والفيلات. ولدتُ في يافا في بيتٍ يقع في حي المنشية بالقرب من شاطئ البحر. بعد التحاقي بمدرسة الفرندز انتقلنا الى بيت أكبر في حي النزهة تحوطُهُ أشجارُ البرتقال من ثلاث جهات ولا يبعدُ كثيراً من مستشفى الدجاني. كانت أسعدُ أيامي في تلك الفترة يوم العودة الى يافا في عطلة الميلاد، عندما يكونُ الشتاء في أوجه، أو في عطلة الربيع، عندما يمتلئُ الهواء بأريج زهر البرتقال، والتلذذ بطعام البيت ثانية، ومشاهدة الأفلام الأميركية المسلسلة بطولة فلاش غوردن يومياً مع رفقائي في الفرندز: عمر ووليد البيطار وياسر السعيد وأخيه صفوح. عطلةُ الصيف كنتُ أمضيها في عكا، حيث كانت تسكن عائلة جدي، في بيت جميل يقع خارج سور البلدة القديمة ويشرف مباشرة على شاطئ البحر حيث كنا نسبح في الصباح الباكر ونصطاد السمك خلال النهار. كانت العطلاتُ تمضي بسرعة، بعكس أيام المدرسة. وكانت أصعب النهايات نهاية عطلة الصيف، عندما يبردُ الهواء ويصبح البحر عميق الزرقة في مطلع تشرين الأول اكتوبر، ويحين موعد العودة الى المدرسة. في تلك الأيام كان السفر بين عكا ويافا، وبين يافا ورام الله من طريق القدس أو اللطرون، يبدو طويلاً على رغم قِصَر المسافات، لضيق الطرق وتعرُّجها، وأيضاً لبطء سرعة السيارات. كانت الطريقُ بين عكا ويافا، مروراً بحيفا، محاذيةً للبحر، وكانت طريقُ يافا - القدس، بعدَ اللطرون، جبلية تمرُّ بين الوديان والتلال الجرداء. في تلك المرحلة لم تَرَ عينا الطفل الذي كُنتُهُ جمالَ بلادي، فبقيَتْ فلسطين صوراً وذكريات تنمُو وتتحوّلُ في حياتي مع مرور الزمن، الى أن عدتُ الى فلسطين عام 1993، بعد غياب 46 سنة ورأيتُها ثانية. مستعمرات أولى دائماً في ذاكرتي وأحلامي كانت فلسطين خالية من اليهود، على رغم أني كنت أعرف تماماً أن اليهود كانوا هناك، يقيمون بجوارنا في يافا. لكن تل أبيب كانت غيتو وأصبحت ضاحية ضمن حدود بلدية يافا، ثم مدينة يهودية ببلديتها المستقلة. كنا نتعامل مع اليهود في شؤون العيش اليومي في شكل طبيعي المربية التي رعتنا أنا وأخي خالد في طفولتنا كانت يهودية من تل أبيب واسمُها راشيل، لكن وجودَهم كان على هامش حياتنا. كانت المنطقة الساحلية من فلسطين بين يافا وحيفا تحوي ربما 90 في المئة من مجموع اليهود في فلسطين، وكان اليهود، على رغم الهجرة المستمرة الى فلسطين، يشكّلون أقلية لا تزيدُ نسبتها كثيراً عن نسبة الأقلية العربية في إسرائيل اليوم. كنا نشاهد مستعمراتهم المنتشرة على جانبي الطريق، وأحياناً كان أفرادٌ من سكانها المرتدي الكاكي يطلبون نقلهم معنا في السيارة الى مستعمرة قريبة. كان السائق لا يتوقف لهم حتى لو كان هناك مكان في السيارة. "إنهم لا يدفعون ويريدون ركوب السيارة ببلاش". كانت غالبية المستعمرات آنذاك مؤلفة من "كيبوتزات" اشتراكية حيث أُلغيت الملكية الخاصة واستُبدلت بملكية جماعية. كنّا ننظر اليهم باستخفاف، ولا نهتم بالتعرف إليهم، كما يفعلون هم اليوم بالنسبة إلينا: ينظرون إلينا ولا يريدون رؤيتنا. لا يريدون، عن وعي أو عن غير وعي، إلا نفي وإلغاء وجودنا بشكل أو بآخر. على طريق حيفا - جنين - نابلس التي كنا نستعملها احياناً في طريق العودة الى رام الله بعد انتهاء الفرصة الصيفية، لا أذكرُ انني شاهدتُ أكثر من مستعمرة أو مستعمرتين، إحداهما كانت بالقرب من مصفاة البترول خارج مدينة حيفا، والأخرى بين حيفا وجنين. من جنين الى رام الله لم أشاهد إلا القرى الفلسطينية الملتصقة بالأرض في السهول وبين الوديان، مكوِّنة جزءاً طبيعياً من البيئة المحيطة بها. عندما شاهدت هذه الطريق سنة 1993 كانت قد تغيَّرت. أصبحت طريقاً عريضة معبّدة كالطرق الأميركية. تنتشر على قمم جبالها المستعمراتُ اليهودية التي اقيمت بعد حرب 1967 أو كما تسمى الآن المستوطنات خصوصاً في منطقة نابلس وفي المنطقة الواقعة بين القدسورام الله ومن القدس غرباً الى البحر الميت. بدت هذه المستعمرات، الى جانب القرى الفلسطينية الهاجعة بأمن واطمئنان تحيطها أشجار الزيتون والتين، قلاعاً محصنة فوق أراض صخرية مزّقتها الجراراتُ تحيط بها الأسلاك الشائكة. في حياتنا اليومية وفي وعينا اليومي لم يشكل اليهود خطراً حقيقياً علينا. كنا ننظر إليهم بمزيج من الشفقة والازدراء. كنا نحن أصحاب البلاد والأكثرية الساحقة فيها لم يزد عدد اليهود في الثلاثينات عن 25 في المئة من عدد السكان، ولم يملك اليهود أكثر من 6 في المئة من أرض فلسطين. لكننا كنا مُغمضي العيون فلم ندرك ما كانوا يبيِّتون لنا. في رسالة أرسلها بن غوريون الى ابنه سنة 1938 قال له: "سنطردُ العرب ونحلُّ محلهم". في الأربعينات حين كان الألمان على أبواب الاسكندرية كانت الوكالة اليهودية تعدُّ الدراسات وتضع المخططات لإبعاد الفلسطينيين الى سورية وشمال العراق. كنا لا نراهم وكانوا يراقبوننا ويجمعون المعلومات عن كل ما يتعلق بحياتنا أفراداً وجماعات ويعدُّون لليوم الذي تُصبح فيه معرفتهم كما هي اليوم أداة لقمعِنا والسيطرة علينا وتمزيق مجتمعنا. لا أظن ان القرن العشرين شاهد نظاماً استعمارياً استيطانياً أكثر عنفاً وقسوة من الاستعمار الصهيوني في فلسطين، بما فيه الاستعمار الفرنسي في الجزائر والاستعمار الإيطالي في ليبيا، على حدّة قسوتهما. ألغى اليهود وجودنا في وعيهم، فأصبحنا بنظرهم مجرّد "سكان" أصليين Natives من دون هوية أو تاريخ أو ثقافة، تلذّ لهم إهانتنا ويحلو لهم تحقيرنا. وصف الكاتبُ الإسرائيلي اليساريُ جف هالبر موقف الإسرائيليين اليوم إزاء الفلسطينيين بقوله: "المناطق المحتلة هي أبعدُ بالنسبة الى الإسرائيليين من تايلند، على الأقل لدى الإسرائيليين فكرة عن بلد اسمه تايلند... أما الضفة وغزة فهما أرض مجهولة بالنسبة إليهم. إنهم يجهلون من هم الفلسطينيون، يجهلون كل شيء عن تاريخهم وثقافتهم. وأهمُّ من ذلك، معظمهم لا يريد معرفة شيء عن الفلسطينيين". News from Within, November, 2000 p.3. تفسير هذا الموقف واضح بلغة سيكولوجيا الجماعات. فبإلغاء وجود "الفلسطينيين" يُلغي اليهود الجرائم التي ارتكبوها ضد الشعب الفلسطيني. وبإرساء صفة الإرهاب على الفلسطينيين، وتجريدهم من صفتهم الحضارية والإنسانية، يبررون سحقهم وإلغاءهم بالفعل. إنهم الآن ينادون بالسبرايشن الفصل حلاً لمشكلتهم مع الشعب الفلسطيني بعد أن أصبح الترانسفير الإبعاد غير ممكن عملياً. حسناً، نحن أيضاً نريد السبرايشن: لينسحبوا من الأراضي التي احتلوها وليدعونا نقيمُ دولتنا المستقلة بحسب قرارات الأممالمتحدة وإجماع الرأي العام الدولي. غير انهم ليسوا في هذا الوارد. فإلى جانب معرفتهم الدموية وتفوّقهم التكنولوجي ليس هناك فقط جهل عميق بحقيقة الشعب الفلسطيني وطبيعته، بل هناك أيضاً موقف عنصري واضح إزاءه. ما يريدونه واضح أيضاً: سبرايشن على نسق الأبرتايد... نظام الانفصال العرقي الذي أقامه الحكم العنصري الأبيض في جنوب افريقيا منذ اكثر من خمسين سنة لعزل الافريقيين السود، نظام يقوم على "ترتيب" arrangement يمنحُ "العرب" حكماً محلياً في مناطق معينة تحت اسم دولة تابعة لإسرائيل. نعرف ان كلمة "عرب"، هنا ليست كلمة بريئة كما تبدو، بل مصطلح عرقي يستعمله الإسرائيليون للتعبير عن احتقارهم للعرب بعامة وللشعب الفلسطيني بخاصة تماماً كما كانت كلمة Yid أو Jew تستعملُ تعبيراً عن الشعور العنصري ضد اليهود في الغرب. هل ننسى ما أراده موشي ديان للشعب الفلسطيني عندما أعلن: "إذا أراد الفلسطينيون البقاء فوق هذه الأرض عليهم ان يقبلوا العيش كالكلاب، ومن لا يعجبه هذا فليرحل وسنرى كيف ستنتهي الأمور". بين بيارات البرتقال... تحية كاريوكا معظمكم لا يعرف مدينتي يافا. ربما البعض قد زار يافا بعد حرب 1967، لكنها هي ليست يافا التي أتحدثُ عنها. غادرتُ يافا في خريف 1947 لمتابعة دراستي في أميركا. وصلني خبر سقوطها في أيدي اليهود بعد بضعة أشهر من وصولي الى شيكاغو. تابعتُ ما حدث يومياً في صحيفة "النيويورك تايمز" من خلال تقارير مراسلها دانا آدم شميث: قُصفت بمدافع الهاون وهاجمتها جماعة الأرغون الإرهابية ثم دخلتها قوى الهجانا وأُجبر سكانها على الهرب براً وبحراً إلى أن أُفرغت المدينة من سكانها. في الصور السياحية الإسرائيلية يطلق الإسرائيليون اليوم على يافا اسماً عبرياً: "يافو القديمة". وصلني في مطلع هذا العام من صديقي فخري جدّي الذي ما زال مقيماً في العجمي في شارع لا يبعد كثيراً من بيتنا، كارت بوستال يحمل هذا الاسم ويظهر صورة ليافا التُقطت من خلف الجامع القديم الذي حوّل الى مطعم ومعرض للفنانين فتبدو مئذنةُ الجامع والبيوت من حولها بسقوفها القرميد البرتقالية وتبرز خلفها تل أبيب ببناياتها الضخمة الحديثة تمتدّ جنوباً الى داخل حي المنشية الذي دُمر في أوائل التسعينات، ولم يُبقِ فيه اليهود إلا بناء واحداً زرته سنة 1993 وهو جامع حسن بك الذي أشاده العثمانيون سنة 1914 بين يافا والغيتو اليهودي الصغير الذي كان يدعى آنذاك ب"تل أبيب". لا أنسى صورة يافا كما شاهدتُها للمرة الأخيرة في خريف 1947 من نافذة الطائرة بعد إقلاعنا من مطار اللد الخاوي. كانت تبدو آمنة مطمئنة وهي تتكئ على شاطئ البحر الأزرق تحيط بها بيارات البرتقال الممتدة شرقاً الى الأفق البعيد. تبيّنت موقع بيتنا في حي العجمي بالقرب من الكنيسة الأرثوذكسية وساحة الساعة ثم الميناء الذي كنا نجرّب في ناحية هادئة منه زوارقنا الشراعية الصغيرة التي كنا صنعناها في صف النجارة بإشراف مس لبّاط. أول يوم وصولي الى يافا في خريف 1993، نزلت الى ساحة الساعة وسرت في شارع بسترس، شارع يافا الرئيس، نحو المفرق المؤدي الى حي المنشية يساراً وإلى حي النزهة يميناً، حيث يبدأ شارع جمال باشا الذي أقامه العثمانيون أثناء الحرب العالمية الأولى، سرت نحو مبنى البريد الذي شيد على الطراز البريطاني اثناء عهد الانتداب، ومقهى أبو شاكوش الى جانبه، حيث كان يجتمع في حديقته الواسعة في الأمسيات الصيفية الجميلة شباب يافا الرياضي والمثقف. ثم نحو سينما الحمراء، أفخم دور السينما في المشرق العربي في ذلك الوقت، حيث كنا نشاهد أحدث الأفلام المصرية والأميركية، وحيث كانت تقدِّم أحياناً على مسرحها العريض فرقة يوسف وهبي مسرحياتها الدراماتيكية، وفرقة نجيب الريحاني مسرحياتها الهزلية، وتقام حفلات ليلى مراد الغنائية وحفلات تحية كاريوكا الراقصة. كانت يافا تنبض بحياة رياضية غنية، وخصوصاً بالفوتبول والملاكمة. كان أخي نظام شرابي كابتن فريق يافا لكرة القدم وبطل التنس في فلسطين. في ذلك الوقت كانت يافا تتمتع بنشاط ثقافي لم تعرفه مدينة عربية أخرى، ربما ما عدا القاهرة. كانت الندوات الفكرية والمحاضرات الأدبية تقام في النادي العربي والنادي الأرثوذكسي ويشارك فيها أبرز الكتاب والمفكرين، أذكرُ منهم طه حسين وعباس محمود العقاد وميخائيل نعيمة بكل تأكيد، كان المجتمع الفلسطيني، ممثلاً بالمجتمع اليافوي، على أبواب نهضة اقتصادية وثقافية عند نهاية الحرب العالمية الثانية. سقوط يافا في 1948 واحتلال اليهود معظم فلسطين كانا بداية كارثة الشعب الفلسطيني ومحنة العالم العربي التي ما زلنا نعانيها. رياء إسرائيل... وخططنا يدّعي اليهود الذين رموا بنا في البحر اننا نريد رميهم في البحر. يتهموننا بما فعلوه بنا ويعزَوْن إلينا ما يضمرون فعله بنا: سحقُنا وإلغاؤنا كشعب. نحن الجلاد وهم دائماً الضحية. إلا أنهم بعد اكثر من خمسين عاماً من القمع والقتل والتعذيب قتلوا في هذه الفترة ما يقدّر ب90 ألف فلسطيني واعتقلوا وعذبوا ما يقدّر ب85 في المئة من كل الذكور الفلسطينيين بين سن 15 و60 عجزوا عن سحق الشعب الفلسطيني وكسر إرادته. ما أقنعَ اليهود بأن الشعب الفلسطيني لن يسحق ولن يستسلم هو الانتفاضة سنة 1987. الحجرُ لم يكن أداة تحد وحسب بل كان ولا يزال رمز ازدراء يعلنه شعب بكامله ضد الغزاة المستعمرين. يقولون الآن بحل يقوم على "السبرايشن" لتحقيق ما يسمونه امنهم وذلك بعزل الشعب الفلسطيني داخل مناطق خاصة كالتي أقامها الأميركيون في القرن التاسع عشر لعزل الهنود الحمر والتي أنشأها في القرن العشرين العنصريون البيض في جنوب افريقيا لعزل السكان السود الأصليين. من اجل تحقيق امنهم يعملون على سحق الشعب الفلسطيني واحتلال أرضه وحرمانه من حقوقه الوطنية. خطتهم في ذلك: العنف والرياء والمماطلة والتمسك بتلابيب الدولة الكبرى التي تدعمهم وتمدهم بالمال والسلاح والحماية العسكرية والديبلوماسية. خطة إسرائيل، في أي مفاوضات مستقبلية قد تجرى، نعرفها جميعاً: إيجاد صيغة اتفاق أو اتفاقات تفرض على القيادة الفلسطينية، وتؤمن استمرار الواقع الراهن وتمنعُ عودة اللاجئين وقيام دولة فلسطينية حقيقية. هذه هي خطتهم في المرحلة المقبلة؟ فما هي خطتنا؟ خطّتنا إفشالُ خطتهم وتحقيق أهدافنا، وهذا بإمكاننا تحقيقه إذا نجحنا في جمع قوانا في الداخل والخارج وإيجاد صيغ تعاون وتنظيم لتحقيق أمرين: الإصلاح الداخلي والدعم العربي والدولي. على الصعيد الداخلي، المتطلبات الأساسية واضحة ولا تحتاج الى كثير من التفصيل: إصلاح نظام السلطة وتأهيل المجتمع، أو إصلاحُ المؤسسات وفي مقدمها المؤسسات المالية والقانونية ومؤسسات الإعلام، وتعزيزُ الحريات العامة وعلى رأسها حرية الرأي والتعبير والتجمع. إن تغيير المجتمع الفلسطيني وإصلاح السلطة الفلسطينية يتطلب تغيير النظام الأبوي القائم وخطابه وأساليبه، أي تغيير النظام والقيم والممارسات الأبوية السلطوية واستبدالها بنظم وقيم وممارسات تقوم على الحرية والقانون والمساواة التامة بين الرجل والمرأة في كل الحقوق والحقول. هدفُنا بناء مجتمع فلسطيني نموذجي نحن قادرون على بنائه، فنحن نملك التجربة العملية والرؤية الفكرية وكل الكفايات اللازمة، مجتمع يكون المثال والقدوة لكل الأقطار العربية. وعلى الصعيد الخارجي، الأولويات ثلاث: أولاً، الدعم المادي بإشراف لجنة فنية أو إدارة فلسطينية عربية، وتأمين آليات تنفيذية بواسطة مؤسسة أو وكالة تقام خصيصاً لمشروع الدعم وتطبيقه على أرض الواقع. ثانياً: الحماية الدولية لردع الأذى الإسرائيلي ولتأمين وصول الدعم المادي الى الشعب الفلسطيني، الأمر الذي تعارضه إسرائيل والولاياتالمتحدة والذي يجب ان يشكل قضية دولية وهدفاً رئيساً لنشاطات الجامعة العربية والأنظمة العربية على رغم الموقف الأميركي السلبي. ثالثاً، النشاط العربي الديبلوماسي الممثل بسياسة عربية موحدة تتخذها دول المجابهة وتدعمها الأنظمة العربية لتأمين المساهمة الدولية، وبخاصة الاتحاد الأوروبي، في القضية الفلسطينية وإنهاء احتكار الولاياتالمتحدة لحل النزاع العربي - الإسرائيلي، وبالعمل الإعلامي لإعادة تدويل القضية الفلسطينية وتحويل التعاطف العالمي مع الشعب الفلسطيني الى دعم سياسي وديبلوماسي فاعل. إصلاح بيتنا العربي صحيح، ان ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، لكن القوة الحقيقية، هي قوة الشعوب، لا قوة الحكومات وجيوشها الحرفية. هذا ما أكدته حركات التحرير في القرن العشرين. من هنا نقول، إن ما أخذته إسرائيل بالقوة سيسترجع بقوة الشعب الفلسطيني مدعوماً بالشعوب العربية والرأي العام العالمي. وذلك ليس بعد مئة سنة كما حصل في حربنا ضد الصليبيين، بل في المستقبل المنظور. هذا، شرط ان نتمكن نحن الفلسطينيين والعرب في المرحلة المقبلة من تغيير مجتمعنا وإصلاح بيتنا الفلسطيني وبيتنا العربي. يقول تقرير صدر عن ال"سي آي اي" في مطلع هذا العام حول وضع العالم العربي سنة 2015، إن العرب سيعجزون في ال15 سنة المقبلة عن تغيير نظامهم السياسي وستبقى حالهم الاجتماعية والاقتصادية على ما هي عليه من ضعف وتخلف، ولن يتمكنوا من تحقيق التعاون المطلوب لتعبئة طاقاتهم البشرية والمادية، وسيستمر تعثُّرهم في الحقول كافة. هذا ما يريد سماعه أعداء العرب في اميركا وفي إسرائيل، وهذا ما يراهنون عليه. فهم يدركون ان الخطر الأكبر ليس في تسلح الأنظمة بل في تغيرهم الاجتماعي. إذ ليس إلا التغيير الاجتماعي ما يمكّن العرب من تعبئة طاقاتهم الهائلة، وبالتالي من تغيير موازين القوى في المنطقة. هل سنتمكن من تحقيق هذا التغيير في العقد أو العقدين المقبلين؟ إن التغيير الاجتماعي عملية موضوعية مستمرة تدفعها مسيرة التاريخ. تصبح هذه العملية مسيرة وقاصدة، اي تصبح عملية تغير وتحرر اجتماعي صحيح، فقط عندما تخضع لرؤية اجتماعية يتمكلها المجتمع وتنفذها إرادة الشعب من خلال الحركات الاجتماعية المنبثقة عن المجتمع نفسه. في الماضي كانت الثورة أداة التغيير الاجتماعي الشامل. الآن، في مطلع القرن الجديد، لم تعد هناك طرق قصيرة أو مختصرة، ثورية أو غير ثورية، لتحقيق مشروع التغيير والتحرر. وسيلة التغيير في عالم القرن الحادي والعشرين هي الحركات الاجتماعية، المؤلفة مما تبقى من الأحزاب الكلاسيكية، والاتحادات والنقابات العمالية المهنية والطلابية والنسائية، والجمعيات والتنظيمات المختلفة المنبثقة عن المجتمع المدني. هناك اليوم تحركات واسعة في المجتمع المدني العربي والفلسطيني تتزامن مع نهوض جيل جديد من المثقفين اكبر عدداً وأكثر ثقافة وأعمق وعياً من أي جيل مثقف سابق منذ عصر النهضة. هناك تغيرات محسوسة في أهداف وأساليب الممارسات الاجتماعية، وبداياتُ ترابطٍ بين شؤون السياسة والاقتصاد والثقافة، وفي معالجة قضية المرأة موضوعاً سياسياً محورياً. لقد اصبحت حرية القول والعمل وقضايا حقوق الإنسان والمواطن قضايا وجودية ترتبط بقضايا العيش اليومي وكرامة الفرد والحق الوطني والقومي. وهناك أيضاً بدايات إعادة نظر داخل الفئات الحاكمة، في عدد من الأقطار العربية في ما يتعلق ببعض نواحي الحياة السياسية وبالاقتصاد وبالإصلاح الإداري والقانوني. فإذا استمرّت هذه التحركات في المجتمعات العربية، وضاقت الفجوة بين الحركات الاجتماعية قوى المجتمع المدني والنُّخب الحاكمة قوى الدولة والبنى الاقتصادية وقامت جسور تواصل وتعاون بينهما، فإن مسيرة التغيير ستقوى وتشتد ويصبح هدف الوفاق الوطني والتضامن القومي الذي عجزنا عن تحقيقه في الخمسين سنة الأخيرة، هدفاً ممكن التحقيق. في نهاية العقد المقبل أو في مطلع العقد الذي يليه، أي في حياة هذا الجيل، سيتعادل عدد الفلسطينيين في فلسطين مع عدد اليهود، أو يفوقه، إن تحوّل اليهود مرة ثانية الى أقلية في فلسطين مرهون بصمود الشعب الفلسطيني وبقائه فوق أرض فلسطين، أي مرهون بتأمين الدعم للشعب الفلسطيني ولحمايته وتطويره اجتماعياً واقتصادياً. في اليوم الذي يعترف اليهود في فلسطين بما فعلوه بحق الشعب الفلسطيني ويتحملون علناً مسؤولية فعلهم تبدأ عملية السلام الصحيحة. لكن هذه العملية لن تحدث في المستقبل القريب وستستمر الغطرسة الإسرائيلية الى أن يصلح الفلسطينيون والعرب ما بأنفسهم، ويسترجعون القوة التي يملكونها ويصبحون قادرين على تغيير موازين القوى في المنطقة. إسرائيل اليوم تعاني عصاب القوة وغطرسة القوة. من هنا فإن قادتها عاجزون عن رؤية ما تراه أقلية بين الإسرائيليين: وهي أن الوضع الراهن Status quo، في فلسطين والعالم العربي، ككل وضع راهن في التاريخ، لا يدوم ولا بدّ من ان يتغير، وأن بقاء إسرائيل في هذه البقعة من العالم لا يمكن ان يؤمَّن بقوة السلاح بل فقط بقبول الشعب الفلسطيني ورضا الشعوب العربية، والتوصل الى صيغة تفاهم وتعايش لا تقوم على التسليم والاستسلام كما تريد إسرائيل اليوم، بل على الاعتراف بالحقوق المشروعة الكاملة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمها حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة الكاملة. * كاتب فلسطيني. والمنشور محاضرة ألقيت في رام الله في 27/5/2001، بمناسبة العيد المئوي لتأسيس مدرسة الفرندز.