يطلُّ غوستاف فلوبير 1821 - 1880 في سيرة جديدة. سيرة بقلم جيوفري وول مترجم "مدام بوفاري" الى الانكليزية. لكنها سيرة لا تضيف معرفةً برجلٍ عاش وغامر وسافر ثم تنسك في بيت أمه في سبيل الكتابة: يكتب ويمزق أوراقه ويبدأ الكتابة من جديد. * قبل أن يبدأ تأليف "مدام بوفاري" 1857، روايته الأولى ومنبع شهرته، ركب فلوبير البحر الابيض المتوسط الى أفريقيا. رحلته صاعداً في النيل سنة 1849 نقرأ تفاصيلها في "رسائل من الشرق". يصف المراكب والناس ونجوم الليل وبقعاً تخلفها الطيور على الأهرامات. يصف العالمة كشك هانم، الراقصة المغنية بائعة الهوى، ويصف جيفة جمل في الصحراء، مجوفة، عظامها تبرق مصقولة في نور القمر. فلوبير الفرنساوي كتب عن رائحة النيل. ياقوت الحموي الرومي وصف التماسيح في هذا النهر. ابن بطوطة الطنجي ذكر قرى على ضفافه يُصاد فيها السمك الحوت، تنمو في بساتينها أشجار الرمان، وتتوزعها مساجد بيضاء الرخام. كان فلوبير يقترب من الثلاثين، ولم يكن نشر شيئاً بعد. زار بلاد الشام بعد مصر. كتب في رسالة الى باريس انه التقى في بيروت رساماً فرنسياً يُدعى كامي روجييه "صيته ذائع في اسطنبول". هذه التفاصيل ليست بلا قيمة. تأليف الرسائل خلال الرحلة الطويلة في الشرق، فتح امام فلوبير باباً الى النثر الواقعي والى دقة العبارة وبلاغتها. انظر المقال اسفل الصفحة عن انتعاش "ادب الرحلات"، والعلاقة بين هذا الادب ودقة الاسلوب. عند عودته الى باريس سنة 1850 باشر الكتابة: "مدام بوفاري" استغرقته 7 سنوات. وحين اتُهمت الرواية بخدش الحياء العام، وجد فلوبير نفسه على درب الشهرة. * عام 1858 بدأ رواية أخرى. هذه المرة اختار مسرحاً غريباً: قرطاجة القديمة. لماذا رحل فلوبير في "سالامبو" 1862 الى ذلك الزمن والمكان البعيد؟ ما الذي أتعبه في الوطن الفرنسي؟ هل أصابه الضجر في باريس؟ ادموند غوس كتب في الطبعة الحادية عشرة من "الموسوعة البريطانية" 1910 عن تعبٍ نفسي سيطر رويداً رويداً على فلوبير. موت الأب، ثم حرب 1870، ثم رحيل الأم في 1872. جيوفري وول في السيرة الصادرة أخيراً "فلوبير: حياة"، يختار ألا يلقي ضوءاً قوياً على السنوات الأخيرة من حياة فلوبير. هذا فشل لم يصب هرشل باركر في سيرة هرمان ملفل ظهرت في مجلدين، الأول عام 1997، والثاني هذا العام. هكذا لا نرى الرجل الذي وصفه معارفه عند انتصاف القرن التاسع عشر ب"الاغريقي الشاب"، يواجه في عقده السادس كآبة حلَّلها قديماً الطبيب أبو بكر الرازي، ثم يكتب كالجامعة بن داود ان كل شيء باطل، وان المعرفة البشرية أيضاً هباء. * رحلة فلوبير الشرقية سنة 1849 أعطته أسلوباً جديداً في الكتابة. كان يصعد النيل جالساً على ظهر المركب، والأوراق البيضاء بين يديه. بعد "مدام بوفاري" والشهرة المباغتة، هرب الى "سالامبو" وقرطاجة. هروب موقت كَرَسَهُ بالخروج من باريس الى بيتٍ في الضواحي. بيت عند منحدرٍ يهبط الى السين. بعد النيل اختار نهراً قريباً. عند ضفة النهر جلس وكتب ومات.