يسافر هيرفيه جونكور في رواية الإيطالي اليساندرو باريكو القصيرة "حرير" 1996 من بلدة لافيلديو في الجنوب الفرنسي الى "نهاية العالم"... اليابان. يحدث ذلك سنة 1861، بينما فلوبير يكتب "سالامبو"، وبينما "ابراهام لينكولن، وراء المحيط، يخوض حرباً لن يرى نهايتها". رحلة جونكور الطويلة بحثاً عن بيوض قزّ سليمة وقادرة على إنقاذ بلدته التي تعيش من تربية دود الحرير تأخذه عبر بافاريا، عبر النمسا وهنغاريا، عبر السهوب الروسية، ثم بمحاذاة الحدود الصينية الى ان يبلغ مرفأ سابيرك. من هناك يركب سفينة مهربين هولندية الى الساحل الغربي لليابان. لا يعرف هرفيه جونكور اللغة اليابانية. لكنه يحصل على البيوض النظيفة ويرجع الى بلدته. هذه الرحلة بالمراكب، والقطارات، وعلى الأحصنة، ومشياً على القدمين تتكرر أربع مرات. مرة تلو اخرى يرجع الشاب الفرنسي الى اليابان. من اجل بيوض القز، ومن اجل امرأة يتبادل معها نظرات لا تقول شيئاً، وتقول كل شيء. امرأة سوف يفقد أثرها. وسوف يعيش بعد ذلك حياة طويلة. يفقد زوجته ايضاً. ويبقى وحيداً في بيته في لافيلديو وسط حديقة يابانية بناها، ينظر الى الريح، وإلى التجاعيد على وجه مياه البركة، ويفكر انه ينظر الآن الى حياته، حياته الخفيفة المتألقة كهذه الصفحة المتموجة امام عينيه. في رواية الفرنسي جورج بيريك "الحياة: دليلك للاستعمال" 1978 نقرأ عن انتروبولوجي يُدعى مارسيل أبينزل، يسافر عام 1932 من اوروبا الى جزر سومطرة كي يراقب قبيلة من قبائل حضارة الكوبو المندثرة. يحلم ابينزل بالعيش وسط ابناء هذه القبيلة اسلافهم كانوا اصحاب مدنية عظيمة، الى أن هُزموا امام جيش غريب عند ساحل جافا، فتراجعوا الى غابات الداخل الاستوائية. يحلم أبينزل بالعثور على قرية من قراهم، وبالاندماج في حياتهم. يحلم ابينزل ان يصبح واحداً منهم. يترك مارسيل ابينزل بيته وأهله، يترك الحضارة الغربية، ويركب البحر الى سومطرة. يحمل في حقائبه بعض الثياب، ودفاتر وأقلاماً، وهدايا بدائية مفيدة: اكياس شاي وأرز وتبغ، وأساور. حين يبلغ ساحل الجزيرة، في مرفأ يسيطر عليه الهولنديون، يستأجر دليلاً كي يقوده الى أعماق الجزيرة، الى الأدغال الملتفة. الدليل يعرف قرية من قرى قبائل الكوبو. معاً يقطعان الغابات، يقطعان مستنقعات يغطيها البعوض، يقطعان نهراً صاخباً، وبعد ثلاثة اسابيع من السير المنهك يبلغان القرية المنشودة: خمسة أكواخ عند منعطف النهر. لكنهما يجدانها مهجورة. يقنع ابينزل دليله بمواصلة الرحلة، صعوداً بمحاذاة النهر، نحو منبعه. بعد ثمانية ايام من المشي المتواصل يقرر الدليل ان الرحلة فشلت وأنهما سيموتان جوعاً. يقرر الدليل الرجوع. ابينزل من جهته يقرر البقاء. يقدم للدليل نصف زوادته ثم يتابع الرحلة وحيداً. في هذه اللحظة تبدأ رحلته الحقيقية. يختفي ابينزل في الغابات الاستوائية. ولا يظهر من جديد إلا بعد خمس سنوات و11 شهراً. حين تعثر عليه جماعة منقبين، بعد انقضاء كل هذه السنين، تائهاً في البراري، يحسبون للوهلة الأولى انه احد البدائيين. الشعر الذي يغطي وجهه وجسمه. ظهره المحني. اظافره المكسّرة. الجلود التي تغطي عورته. لسانه الثقيل. كل هذا يجعله "خارج الحضارة". لكنه، بين هؤلاء البيض، وفي رحلة العودة الى بيته وأهله، يستعيد رويداً رويداً القدرة على الإمساك بالشوكة والسكين، القدرة على صوغ جمل مفيدة، والقدرة على الجلوس على كرسي... حلاق السفينة يقص شعره ولحيته. والنوم العميق في سرير وثير يرد الى جسمه المظهر البشري! ماذا حدث لأبينزل في الغابات؟ بعد اسابيع من السير بلغ منابع النهر وعثر على قرية. للوهلة الأولى حسب انها مهجورة ايضاً. ثم انتبه الى عجائز ممددين على حصر في ظلال مداخل الأكواخ. اقترب وألقى التحية، أشاحوا بنظرهم عنه. وضع على الأرض قرب الحصر بعض الهدايا: اكياس شاي وتبغ. لم يلمس احد هداياه. ابتعد الى طرف القرية الصغيرة ونصب خيمته هناك. عند المساء تعالى نباح الكلاب وظهر رجال يحملون رماحاً. لم يهدده احد. نظروا إليه من بعيد ثم حدقوا الى الأرض. طوال أربعة ايام راقب ابينزل خروجهم في الصباح الى الغابة ورجوعهم في المساء الى القرية مع طرائدهم. صباح اليوم الخامس استيقظ وسط سكون عميق. خرج من خيمته ونظر الى العجائز في مداخل الأكواخ. لم يجد العجائز. لم ير إلا ضوء الشمس يسقط على قرية مهجورة تماماً. يجمع ابينزل اغراضه سريعاً ويطارد اثر القبيلة. بعد اسابيع يعثر عليهم قرب مستنقع. اقاموا أكواخهم وسط اسراب البعوض. ينصب خيمته قبالة القرية، ثم ينام. في الصباح، حين ينهض، يجد الأكواخ مهجورة. رحلوا مرة اخرى. يطاردهم ابينزل طوال خمس سنوات. يراقب حياتهم ويحاول ان يفهم السرّ الغامض لترحالهم المتواصل. الأغنام القليلة التي يملكونها طعامها موجود في اي مكان من هذه الغابات. لا يحتاجون للانتقال في طلب الكلأ، لا. لماذا يسافرون إذاً؟ بحثاً عن الصيد. الطرائد ايضاً موجودة في كل مكان وسط هذه المناطق. لماذا يسافرون إذاً؟ تدريجاً يكتشف ابينزل السر: يكتشف انهم يسافرون هرباً منه. يكتشف انهم لا يريدونه قربهم! في رواية الألماني باتريك ساسكند "عطر" 1985 نقع على رحلة معاكسة.جان بابتيست غرينووي يفرّ من باريس القرن الثامن عشر، يفرّ من الكثافة البشرية القاتلة، بحثاً عن ارض بلا رائحة، بحثاً عن العزلة الكاملة. لا يبحث غرينووي عن قبيلة ينخرط في حياتها. ما يريده هو عكس ذلك: ألا يرى بشراً بعد اليوم. ألا يشم رائحة البشر. غرينووي يجد ما يبحث عنه في كهف في سفح جبل بركاني خامد وسط صحراء! في هذا الكهف يعيش وحيداً طوال سبع سنوات. في رواية "قلب الظلام" نُشرت سلسلة للمرة الأولى عام 1899، ثم ظهرت في كتابٍ عند مطلع القرن العشرين يُرسل البولندي الإنكليزي جوزيف كونراد، بطله من لندن الى اعماق الكونغو، بحثاً عن كيرتز: رجل ابيض تحول زعيماً غامضاً للقبائل هناك. رحلة البطل مارلو تعتمد على رحلة حقيقية للبحار الذي يدعى جوزف كونراد. رحلة عبر نهر الكونغو. غوستاف فلوبير كان ركب نهر النيل قبل ان يكتب "مدام بوفاري" وقبل ان يكتب روايته الافريقية "سالامبو". رحلة فلوبير في النيل عند انتصاف القرن التاسع عشر اعطتنا - في يومياته ورسائله - وصفاً لأهرام ملطخة بقاذورات الطيور، ووصفاً لعظام تصقلها الرمال وسط الصحارى، ووصفاً لجيف جمال منخورة مجوفة عند الضفاف. الرحلة ذاتها أعطت فلوبير طاقة كان يحتاجها كي يتجاوز عجزه عن الكتابة. الإنكليزيان ادوارد لين وريتشارد بيرتون تولعا بكتاب "ألف ليلة وليلة" قبل ان يسافرا الى افريقيا. الأول وضع كتاباً عن مصر ضمّنه رسوماً جميلة لمنارات الاسكندرية الخمس تتعالى فوق بيوتها، ووصفاً تفصيلياً لحياة اهل القاهرة الأوسع من الخيال، كما كتب ابن خلدون في سيرته. الثاني دوّن أسفاره في افريقيا وحجّ الى مكة وكتب عن الرحلة كتاباً ذاع صيته في لندن خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. والاثنان كل على حدة ترجما "ألف ليلة وليلة" الى الإنكليزية. رحلة الصيني غاو كسينغيان في ارياف بلاده عام 1983 اعطته ان يستعيد الروح من جديد، وأعطتنا رواية "جبل الروح" 1990، التي بدورها وعبر تأثيرها العميق في اعضاء الأكاديمية السويدية اعطته جائزة نوبل للآداب. سافر كسينغيان في انحاء الصين ثم كتب رواية عن أسفاره. الأرجنتيني خورخيه لويس بورخيس 1899- 1986 سافر في المخيلة وكُتُب ادوارد لين وريتشارد بيرتون وروبرت لويس ستيفنسون مفتوحة حوله ثم كتب قصصه القصيرة ومقالاته التي تشبه قصصاً. الرحلة هي الخيال. الخيال رحلة. هذا ما يكشفه الأدب للقراء مرة تلو اخرى. هيرمان ملفيل عرف هذا بينما يكتب "موبي ديك" 1850. ستيفنسون عرف هذا بينما يكتب "جزيرة الكنز" و"المخطوف". وقبلهما بزمن بعيد جعل هوميروس الرحلة حبكة ملحمة كاملة. في "ألف ليلة وليلة" تشكل الرحلة محوراً لتكاثر القصص. اسفار تفضي الى أسفار. الكلمة التوراتية كما ترجمها الأميركي فان ديك الى العربية هي: "التغرب". الكلمة التي يفضلها ابن بطوطة، وابن جبير قبله هي: "سياحة". يكتب ابن بطوطة 1304 - 1377م في مطلع رحلته "تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، انه دخل على "الإمام العالم الزاهد الورع الخاشع برهان الدين الأعرج" يوماً، ايام مقامه في الاسكندرية، فكان بينهما هذا الحوار: "قال لي: أراك تحب السياحة والجولان في البلاد. فقلت له: نعم اني احب ذلك. ولم يكن حينئذ بخاطري التوغل في البلاد القاصية من الهندوالصين. فقال: لا بد لك ان شاء الله من زيارة اخي فريد الدين بالهند، وأخي ركن الدين زكريا بالسند، وأخي برهان الدين بالصين. فإذا بلغتهم فأبلغهم مني السلام. فعجبتُ من قوله وألقى في روعي التوجه الى تلك البلاد، ولم أزل أجول حتى لقيت الثلاثة الذين ذكرهم وأبلغتهم سلامه". رحلة ابن بطوطة تبدأ في المخيلة. كلمات الشيخ ترسم صوراً في خياله. الأسماء تكفي: الهند، السند، الصين... من الأسماء تبدأ الرحلة. والأسماء، كالليالي في "ألف ليلة وليلة"، تبدو كأنها لا تُحصى. وكل اسم يبدأ رحلة. اسماء بلدان وأسماء رحالة قصدوا تلك البلدان. يكفي ذكر حفنة اسماء من تراثنا: المسعودي، المقدسي، ابن فضلان، ابن جبير، محمد الغرناطي، ناصر خسرو، ابن بطوطة... هؤلاء من الأقدمين. ماذا عن الرحلات التي كُتبت في القرن الماضي؟ ماذا عن الرحلات التي كُتبت بالتركية وتُرجم بعضها الى العربية والكثير منها ما زال على الرفوف المظلمة في مكتبات اسطنبول ولم يُترجم بعد. ثم ماذا عن الرحلات التي كتبت بالإنكليزية والفرنسية والهولندية والروسية و...؟ رحلات عن بلادنا تكشف امامنا قصصاً لا تحصى، وترسم جغرافيا تُشبه الخرافة لمدينة كالاسكندرية أو تونس أو بيروت، وتُحرك المخيلة لإبداع أدب جديد. كل هذه الرحلات، ماذا نعرف منها؟ ألف رحلة ورحلة، وسؤال واحد: من يقرأ كل هذه الرحلات؟