الحائز المخمّس ويروي عروة بن الزبير أن حائط الحجرة سقط سنة 91ه في عهد الوليد بن عبدالملك فأعيد بناؤه، كما أن أمير المدينة عمر بن عبدالعزيز اشترى حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأمره الخليفة الوليد بن عبدالملك بهدمها وتوسعة المسجد بها، ثم بُني حولها حاجز خماسي الأضلاع يأخذ شكل رأس المثلث من الشمال مرتفع عن أرض المسجد بستة أمتار ونصف، دون أن يكون له باب أو سقف. وأرجع السمهودي سبب جعل البناء مخمّسًا بدلًا من المربع إلى الخوف من أن يشبه الكعبة المشرفة، وحتى لا يستقبله الناس إذا صلوا خلفه. ولقي هذا الحاجز المخمّس عناية السلاطين والخلفاء بالترميم والإصلاح كلما اقتضى الأمر، ولا يزال موجودًا حتى اليوم داخل المقصورة. وفي عهد السلطان قايتباي ظهر شق في جدار الحجرة الشريفة، فجُدّد أحد جدرانها سنة 881ه، وحكى المؤرخ السمهودي مشاركته في ذلك العمل. المقصورة الشريفة لم يكن للحجرة الشريفة حاجزٌ غير «الحائز المخمّس» الذي بناه عمر بن عبدالعزيز، وكان من يريد السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما يقف عند هذا الحائز مباشرة ولا يفصله عن القبور الثلاثة سوى متر ونصف تقريبًا. وفي سنة 668ه أنشأ الظاهر بيبرس سلطان مصر مقصورة من خشب نصبه بين الأسطوانات الموالية للحجرة من جهة الشمال، وزاد فيه إلى موضع تهجد النبي صلى الله عليه وسلم حيث شمل بيت فاطمة رضي الله عنها، وجعل للمقصورة ثلاثة أبواب، وقد أخذ مقاسات المقصورة بنفسه عندما حج في العام الذي قبله ثم أرسل الدربزين من مصر. وفي سنة 694ه زاد العادل زين الدين كتبغا على المقصورة أو الدرابزين المحيط بالحجرة شبّاكًا دائريًّا ورفعه حتى أوصله لسقف المسجد. احتراق المقصورة احترقت المقصورة في الحريق الثاني الذي أصاب المسجد النبوي عام 886ه، في عهد السلطان قايتباي، فأرسل قايتباي شبابيك نحاسية وحديدية سنة 888ه فنُصبت الشبابيك النحاسية في جهة القبلة، ونصبت الشبابيك الحديدية المصبوغة باللون الأخضر في الجهات الثلاث الأخرى. 500 عام لا تزال المقصورة التي بناها قايتباي موجودة إلى اليوم في المسجد النبوي بالرغم من مرور أكثر من خمسمائة عام، حتى إنها صارت تعرف باسم الحجرة الشريفة. كما أنها لم تزل محل عناية السلاطين والملوك، حيث رمّمها السلطان سليمان خان أثناء حكمه. ترميم في العهد السعودي وفي العهد السعودي أجرى الملك عبدالعزيز -رحمه الله- ترميمًا للحجرة الشريفة بعد أن رُفع إليه وجود ما يدعو إصلاحها. وذكر السيد علي حافظ في «فصول من تاريخ المدينة» أنه كان ممن أجرى الكشف عليها فتبيّن وجود تشقق في الدهان واللياسة، وصدر الأمر بإصلاحه فتم ذلك ليلًا. كما لا تزال المقصورة كغيرها من أجزاء المسجد النبوي الشريف تحظى بعناية فائقة ضمن عناية المملكة بالحرم وصيانته المستمرة. سرقة القبر النبوي تعرّضت الحجرة الشريفة لمحاولات عدة لسرقة القبر النبوي الشريف ونقل الجسد الطاهر إلى بلاد أخرى. وكانت الأولى والثانية من هذه المحاولات بين عامي 386 و411ه من قبل الحاكم العُبيدي بمصر الذي زيّن له بعض الزنادقة نقل الجسد النبوي إلى مصر، فأرسل من ينبش القبر، ولكن المحاولتين باءتا بالفشل. أما المحاولة الثالثة وهي الأشهر والأكثر دقة في التخطيط والتمويل فيروي السمهودي نقلًا عن الأسنوي أنها حدثت عندما بعث بعض ملوك النصارى رجلين من المغاربة في هيئة حاجّين قدما إلى المدينةالمنورة، في عهد السلطان نور الدين زنكي سنة 557ه، حيث رأى السلطان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ثلاث مرات وهو يشير إلى رجلين أشقرين، ويقول: أنجدني، أنقذني من هذين، فاستشار وزيره الصالح جمال الدين الموصلي، فأشار عليه بالسفر إلى المدينةالمنورة في تلك الليلة سرًّا. فلما وصل المدينة اجتمع له أهلها في المسجد النبوي، فأخبرهم الوزير أن السلطان قد أحضر معه أموالًا للصدقة، وأمرهم أن يكتبوا أسماء أهل المدينة جميعًا، فكتبوا أسماءهم كلها، وأمر السلطان بحضورهم، وأخذ يتأمل وجوه من حضروا ليجد الرجلين اللذين رآى صورتهما في المنام، حتى أعطى الناس جميعًا ولم يجدهما. فقال السلطان: هل بقي أحد لم يأخذ شيئًا من الصدقة؟ قالوا لا، فقال: تفكروا وتأملوا، فقالوا: لم يبق إلا رجلان مغربيان لا يأخذان من أحد شيئًا، وهما غنيّان، يكثران الصدقة على المحتاجين، فأمر السلطان بإحضارهما، فلما رآهما عرف أنهما اللذان رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يشير إليهما ويقول: أنجدني أنقذني من هذين، فسألهما السلطان: من أين أنتما؟ فأخبراه أنهما جاءا من بلاد المغرب للحج واختارا جوار النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة هذا العام، وصمما على هذا القول، فسأل السلطان عن منزلهما فإذا هو رباط قرب الحجرة الشريفة، فدخل المنزل فرأى مالًا كثيرًا، وكتبًا ولم يرَ شيئًا يثير الريبة، وقد أثنى عليهما أهل المدينة بأنهما محافظان على الصلوات في الحرم وزيارة البقيع كل يوم، ولا يردان سائلًا حتى إنهما سدّا حاجة أهل المدينة ذلك العام المقحط. سرداب تحت الأرض فلما فتش السلطان وجد حصيرًا فرفعه فوجد أسفله سردابًا متجهًا إلى الحجرة الشريفة قد حفره الرجلان لنبش القبر، فاعترفا بأنهما نصرانيّان بعثهما النصارى في زي حجاج المغاربة، مع كثير من المال، فنزلا في أقرب رباط للحجرة الشريفة، وصارا يحفران كل ليلة وينقلان التراب في محافظ جلدية على زي المغاربة، ويخرجان إلى البقيع فيضعان التراب بين القبور، فانكشف أمرهما على يد السلطان نور الدين زنكي رحمه الله. حاجز من الرصاص بعد هذه الحادثة أمر السلطان نور الدين زنكي بتحصين القبور الثلاثة بسور من الرصاص المسبوك تحت الأرض، فحُفر خندق عميق حول الحجرة الشريفة وصُبّ فيه الرصاص بين أحجار كبيرة مربوطة بكتل من الحديد، أي أن هناك ثلاثة جدران: اثنان خارجيّان من الحجارة المتداخلة المربوطة بالحديد، وبين هذين الجدارين صُب الرصاص المُذاب، حتى لا يحاول أحد الوصول إلى أسفل الحجرة الشريفة بحفر سرداب أو نفق. أما المحاولة الرابعة فكانت على يد مجموعة من الروم أعلنوا عزمهم دخول المدينة وإخراج القبر الشريف منها، وفي المحاولة الخامسة حاول جماعة قدموا من الشام إخراج قبري أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من المدينة في منتصف القرن السابع الهجري، وقد فشلت هاتان المحاولاتان أيضًا. وقد حفظت العناية الإلهية رسول الله صلى الله عليه وسلم من كيد الكائدين حيًّا وميِّتًا، ورجع كل من حاول النيل من شخص النبي صلى الله عليه وسلم بالخيبة والخسران. عهد الأمن والأمان وقد أدى استتباب الأمن في العهد السعودي إلى توفير أعلى درجات الأمن في المسجد النبوي الشريف، إذ تعمل الجهات الأمنية على مراقبة المسجد الشريف بأنظمة أمنية متطورة على مدار الساعة، مما أدى إلى تسهيل أداء الزوار للصلاة والزيارة في أجواء من الطمأنينة والسكينة. مقتنيات الحجرة المشرّفة يقول الأستاذ أحمد أمين مرشد المؤرخ والباحث في آثار المدينةالمنورة إن المقتنيات التي أهديت للمسجد النبوي الشريف والحجرة النبوية على وجه الخصوص في مختلف العهود بلغت 390 قطعة تقريبًا، بحسب تقرير عثماني أعد عام 1326ه وما زال محفوظًا في الأرشيف العثماني بإستانبول. ويضيف مرشد أن تلك الهدايا والمقتنيات قُدرت قيمتها بملايين الليرات العثمانية، وشملت الأحجار الكريمة من الألماس والزمرد والياقوت، والمصنوعات الذهبية والفضية، والشمعدانات والقناديل والمزهريات، وغيرها من المقتنيات التي استفيد من معظمها في إنارة الحجرة النبوية والروضة الشريفة. ويوضح مرشد أن تلك المقتنيات كانت من إهداء المسلمين من مختلف البلاد الإسلامية إلى الروضة الشريفة والحرم النبوي، وكان بعضها وأغلاها ثمنًا من إهداء سلاطين عثمانيين وحكام مصر والهند من المسلمين. وقال إن كثيرًا من موجودات الحجرة الشريفة والحرم النبوي قد رُحلت في عهد فخري باشا آخر حاكم عسكري عثماني للمدينة المنورة بين عامي 1334 و1336ه في قطار خاص سُمِّي ب»قطار الأمانات المقدسة». وفي كتابه «المدينةالمنورة في عيون المحبين» يستعرض مرشد نقلًا عن التقرير قائمة بتلك الموجودات، بوصف دقيق لكلٍّ منها، ويعرض صورًا لبعضها. سترة الحجرة ويضيف مرشد أن أول من كسا الحجرة الشريفة هي الخيزران أم هارون الرشيد، ثم كساها ابن أبي الهيجاء بالديباج الأبيض والحرير الأحمر، وكتب عليه سورة يس، ثم كساها الخليفة الناصر بالديباج الأسود، ثم صارت الكسوة ترسل من مصر كل ست سنوات من الديباج الأسود المرقوع بالحرير الأبيض وعليها طراز منسوج بالذهب والفضة. ويصف كسوة الحجرة بأنها نسيج من حرير خالص، أخضر اللون مبطن بقماش قطني متين، ومتوّجة بحزام مشابه لحزام الكعبة المشرفة غير أنه أحمر قانٍ، خُط عليه بتطريز ظاهر آيات قرآنية كريمة من سورة الفتح تشغل ربع مساحته، بخيوط من القطن وأسلاك من الذهب والفضة، وهو بارتفاع 95سم، وهناك قطعة أخرى من ذات اللون الأحمر وبنفس النسج لكنها أصغر قليل مكتوب عليها إشارات تدل على مواقع القبور الثلاثة.