يُزهر المنفى موضوعاته كشجرة، يزهر حنيناً الى الموطن الاصلي، او اغتراباً مأزوماً، او تمزقاً بلا مواربة، او شغفاً وتلذذاً يقومان على الاختلاف، او... ومن كل الاحوال يتأرجح المنفي بين ثقافتين، درى ام لا، ويعالج تأرجحه، تارة بالانكفاء على الثقافة الأم وتحييد ما يدور حوله، وتارة على النقيض، بالذوبان في الثقافة المختلفة، وهذا اهون الحلول، او اصعبها. وفي حال التأرجح المزمن يكمن التساؤل والتأمل والتفكير، ويعبر عنه بأقوال ومشاعر وأفعال، تجد في الدراما الروائية، أداة تعبيرها المثلى، فيستأنس بها الكتّاب باللغة البديلة، حين لا تكفي الابحاث المنهجية الصارمة للتعبير عن احوال انسانية حية. على غرار معظم الكتاب العرب وخصوصاً المغاربة تستخدم الكاتبة التونسية فوزية زواري الرواية للتعبير عن حال كسر المنفى، في وقائع ومواقف صدامية مع الجذور، في لعبة مرايا تبرز فيها ملامح الحداثة والتقليد، عبر حيوات وشخصيات تجسدها روايتها الجديدة الصادرة حديثاً عن دار رامسي - باريس في عنوان "العائدة"، La retournژe. بعد هروبها، في اول صباها مع مدرسها الفرنسي برينو، تاركة قريتها النائية، وايقاعها الرهيب، الغارق في عادات ومفاهيم سلفية، محدثة فضيحة لم تكف السنوات الطويلة لاخماد نارها، تعود "ريم" البطلة - الراوية، الى قريتها ومصحوبة بأبنة فرنسية كعلامة دامغة للمشاركة في دفن امها ووداعها، تنبعث مجدداً رائحة الفضيحة القديمة، وتستعمل كسلاح اضافي، لحرمانها من حقها في الكلام والمجابهة، ولاهانتها في اللحظة المأسوية، التي ارادت فيها اللحاق بموكب الجنازة، واتهامها بالعقوق، بل بالتسبب في موت والدتها واحتضارها الطويل. فهذه الاخيرة لزمت بيتها خوفاً من العار الذي ينتظرها على الباب. الا ان الاستياء والحقد اللذين يضمرهما أهل قريتها وأقاربها لم يفقداها رباطة جأشها ولا رغبتها في استعادة او لملمة تفاصيل حياتها السابقة، كطفلة غير مرغوب فيها، في عائلة فقيرة، تعيش مرارتين، مرارة فقدان الاملاك ومرارة فقدان الذرية الصالحة لديمومة اسم او ميراث العائلة. تأتي ولادة "ريم" بمثابة هزيمة جديدة للعائلة وللأم تحديداً، تعاقبها عليها بحرمانها من حقها الطبيعي في الرضاعة ومن لمسات الحنان. كانت امها تتجاهل تماماً وجودها وتكاد لا توجه لها الكلام. وسعياً الى انتزاع الاعتراف بها، رحلت "ريم" مع مدرسها الفرنسي، الى مدينة الحلم، باريس، حيث اكملت تعليمها وعملت وأنجبت، ونهلت من ثقافة، تعلي، في معظم ادبياتها، من شأن الانسان - الفرد، بغض النظر عن جنسه ولونه ولغته وجذوره. وتدربت على الاستقلال والمجابهة وأخذ الكلام، فلم تتردد في التدخل في التباسات ميراث العائلة، وهو في الخيال العربي الاسلامي، شأن ذكوري، فتصدت لذكور العائلة وحثت النساء حولها على المطالبة بحقوقهن ودفعت اهالي القرية الى اعادة النظر في معتقداتهم وأذكت مناظرة حول احد اوليائها "سيدي ميسوني" وحول استنتاجها ان لديه اصولاً فرنسية، محدثة صدمة هوية لم تهدأ مع نهاية السرد. ولم تغفل الراوية - البطلة الشأن العاطفي فعاشت قصة حب من ابن خادمة البيت السابقة، منصف، الباحث الاركيولوجي، وأحدثت بخروجهما معاً وعلانية، ثورة على نمط العلاقات القائم بين الجنسين في هذه القرية التقليدية. أيقظت "ريم" الابنة الضالة وكذلك قريتها، من السبات، مدفوعة برغبة التحديث، كاشفة الصراع بين ثقافتين ونمطين في التفكير والعيش. وفي باب الاستدلال يجوز القول انها تجرأت على خلخلة بعض ركائز الثقافة الابوية المهيمنة في ما يخص ادوار الرجال والنساء، والمعتقدات المتحكمة بالعقول، مصورة مجتمعاً مشتت الهوية، يغويه الغرب كمثال للرفاهية ويخشى منه على منظومة معتقداته وطقوسه ومفاهيمه. انها الرواية الرابعة للكاتبة التونسية فوزية زواري التي صدر لها عام 1989 "قافلة الاساطير" وتتحدث فيها عن ابنة اخت لامارتين التي اعجبت بالشرق والاسلام ودافعت عن قضايا العرب وماتت في القاهرة عام 1953. وفي كتابها "لننه قصة شهرزا... كان يا مكان" تقدم فوزية زواري بحثاً تدعو فيه الى مزيد من البوح والاعترافات في الكتابات العربية. وفي العام 1999 صدر لها رواية بعنوان "هذا البلد يقتلني" تتحدث فيها عن الصعوبات التي تلقاها الفتيات الجزائريات في الانخراط في المجتمع الفرنسي. تنسج الراوية حكايتها بخيوط الماضي والحاضر، ماضيها وماضي قريتها، وحاضرها وحاضر قريتها، جامعة شتات هويتها، ساردة ما يجري بعين خارجية بل بلغة خارجية. تتغلغل في حياة القرويين وحياتها وتعمل قلمها كما لو انه مبضع الجراح، مبضع خاص لا تعلق عليه دماء النزف، تشكل حال الخصومة المعلنة بينها وبين اهالي القرية والمبنية، على تناقض رؤيتين وثقافتين، حافز السرد الرئىسي وخلفية الوقائع والاحداث والمفارقات. واذا كانت تقنية المزاوجة بين الماضي والحاضر وابتكار مواقف صراعية، حوارية غالباً، عامل تشويق، فإن تشظي الحكاية في كل اتجاه، إضافة الى الاستطرادات المفككة التقريرية وغير المرتبطة بالحكاية، كزيارة سوق القرية، والتحدث عن مغامرات الطفلة مع اولاد القرية، وغيرها من التفاصيل، يحول الرواية الى يوميات "مملة" تسيء الى النبرة العالية والدرامية التي تهيمن على الحكاية وتمنحها بعداً تشويقياً سرعان ما يخفت ما ان يحلو للساردة رصد او توثيق التفاصيل الروائىة.