في باكورتها الروائية «بوركيني» (منشورات ضفاف - الاختلاف)، تضعنا مايا الحاج عبر لعبة التناقضات، أو ديالكتيك المرايا المتقابلة، إزاء بطلة تعاني من إشكالية التأرجح بين خيارين: إما ان تحافظ على حجابها، أو تخلعه. وخطّ هذه اللعبة يمتد من العنوان المركّب المنحوت من كلمتين دالتين على ثنائية ساطعة بين البرقع والبكيني - استوحته الراوية كما تقول، من زيّ سباحة صممته اوسترالية مسلمة - وحتى المقاطع الأخيرة من المتن الروائي، حيث تعيش البطلة الساردة لحظات من الوعي الشقي الذي تنوء تحت ثقله، بسبب جسدها المتسربل بأغلاله المرئية وغير المرئية. ويتفاقم شعور البطلة بهذا الشقاء، لتعارضه مع ثقافتها الفرنكوفونية الحديثة التي تنظر إلى الحجاب نظرة سلبية، كما يتنافى مع تربيتها في أحضان عائلتها المتحررة وغير المتدينة. حيث أمها تؤلف مسلسلات تلفزيونية، ويعشق والدها السينما والنساء، ويمتلك ذائقة سينمائية، ومكتبة كبيرة للأفلام. ويزداد هذا الشعور بالازدواجية حدة، حين نعلم أن البطلة تحجّبت، ولم تُحجّب (بضم التاء) وفق تمييز الكاتبة الإيرانية شاهدورت جافان «فلينزع الحجاب». أي انها مارست فعلاً اختيارياً فارتدت الحجاب بمحض إرادتها الشخصية، ولم تُجبر أو يُفرض عليها. لكنّ هذا الاختيار كان مخاضاً مؤلماً ترك تأثيراته وعواقبه النفسية على صاحبته. وتحوّلت هذه العواقب وارتداداتها إلى صراع ثنائي بين عقليتها المتشبّعة بالثقافة الفرنسية والغربية، والبيئة الواسعة التي تغلب عليها الذهنية الدينية الإسلامية، وتمثّلها جدتها المتعلمة التي تمارس طقوسها وفرائضها اليومية بأمانة، وتحبذ ارتداءها الحجاب، بخلاف أهلها الرافضين. وحين تجعل مايا الحاج بطلتها تعيش في ظل الهواجس التي تنتابها، والتسويغات العقلية التي تعمل على استخدامها لإقناع نفسها بصحة ما اختارته، وحين توازن بين قرارها بالتحجب، ورغبتها بالسفور، إنما تحوّل الكاتبة قضية الحجاب موضوعاً سجالياً جذاباً، يُعرض بغير الصورة النمطية الشائعة عنه. بل هو يأتي في سياق منحى معرفي ووجودي، يسعى إلى مصالحة عسيرة بين فهمين للجسد، بين رغبتين متناقضتين، بين أن تُبقي البطلة على حجابها، أو أن تتجرد منه، ان تقبل بالحجاب الذي يحصّنها ويحميها، أو تنبذه لأنه يقيّدها ويربكها، إذاً، بين الرغبة بالتخفي، أو الرغبة بالتجلي، كما تقول الراوية بعبارة لمّاحة. هذا الصراع بين سفورها وحجابها، أو بين الوجه والقناع، يفضي بهذه الشخصية الرئيسة إلى تداعيات ذهنية طويلة، إلى الاستغراق والإيغال في سبر هذه الجوانية الذاتية، والمساءلة الدائمة عن صورتها بالحجاب كما يلتقطها الآخرون. عن معنى أنوثتها «المهدّدة»، وموضع ريبة وامتحان أو محنة دائمة. وعن معنى الرجولة المقابلة للأنوثة التي تفرض وجودها، وتعرّض جسدها المحجوب والمكتوم والمحمي بالثياب، لانتهاك سره، وفضّ غلافه، وتحوّله إلى مصدر رغبة واستحواذ استيهامي. وعن معنى الحجاب الذي هو ضرب من ضروب البتولية المصطنعة لكبح نظرة الآخر، الخطرة والمجلبة للقلق. ورغم كون جسدها محجوباً بالثياب، فهو حاضر دائماً، وموجود في بؤرة النظر، وواجهة المشهد، وأمام الجميع. حاضر بإيحاءاته، وما يبثه من دلالات ومعان ملغزة. الجسد المحجب يصبح في هذا الموقف محل ريبة وخطأ وحيرة. يصبح على حد عبارة المحلل النفساني فتحي بن سلامة، تخييلاً وهواماً، تتصارع فيه الأضداد. محاكمة داخلية تكتب مايا الحاج مونولوغاً طويلاً، أو بعبارة أخرى، تقيم محاكمة داخلية ذاتية لما قررته بطلتها بنفسها، حين عزمت على ارتداء حجابها عن سابق تصور وتصميم. محاكمة ترافع فيها البطلة المنكفئة إلى عالمها المشطور، عن مسؤوليتها عما آلت إليه حالتها من اضطراب يغشى حياتها، ومن تجاذب بين تأنيب ذاتها ورضاها عنها. فهي المدعية والمدعى عليها. هي الضحية والجلاد. مثل هذه البطلة تعيش دائماً على الخط الفاصل بين الأنا وما ليس الأنا، بين الألفة والغرابة، بين الواقع والمتخيل. وهي تشعر بالانعزال حتى وهي بين الناس، أو برفقة خطيبها. وعندما تحاور الآخرين، على ندرة حواراتها، إنما تلتفت إلى حاجاتها الداخلية غير مبالية بما يحدث في الخارج. حوارها أقرب إلى أن يكون مناجاة للنفس وحديثاً للروح، وتأملاً في حياتها الباطنية. حياة تنسج خيوطاً تلتف حول شرنقتها التي تحبس نفسها فيها، وتغذيها الظنون والشكوك. وحتى عندما لا تتنكر لحياة المرح وسماع الموسيقى والغناء ومشاهدة الرقص، إلا أنها لا تمتلك شجاعة خوض غمار أي منها، أو الانخراط فيها. تتمناها لنفسها، لكنها لا تمارسها في الواقع. كما أصابها حينما خلعت حجابها في غرفتها، في لحظة غيرة من غريمتها المرأة السافرة التي كانت تساكن خطيبها، بقصد تحدي نفسها، وإظهار تفوق جمالها عليها. لكنها ما لبثت أن ضعفت وتراجعت عن قرارها بالخروج سافرة في اللحظة الأخيرة، ووجدت ان الحل الأنسب، هو ان تكتب كتابها على خطيبها بشكل مفاجئ. أن يتمتع رجل واحد بأنوثتها المختبئة. أنوثة منطوية وخجولة تعيش استيهاماتها، وتبني عماراتها الخيالية والفنتازية. وعلى رغم ان هذه البطلة ثاقبة النظر، وتراقب الناس بدقة، ولها مقدرة هائلة على تأويل أو تفسير أي حركة أو إشارة، أو حتى إيماءة أو اختلاجة تصدر عن أي شخص، لا سيما إذا تعلق الأمر بغريمتها المنافسة. إلا انها تتخلى عن التواصل الحقيقي مع العالم، لتتواصل مع ذاتها وخيالاتها. اما المرأة التي تنافسها على قلب حبيبها فتشكّل، الوجه النقيض لحياة البطلة وفكرها ورؤيتها لمكامن الفتنة، ولمعنى العلاقة الحقيقية بين الرجل والمرأة. هي الوجه الآخر من فكرة البطلة عن نفسها. هي القرينة، او البطلة - الضد، وفق المصطلح الروائي الحديث، التي تحاول التماهي بها تارة، او الافتراق عنها طوراً. وقد عبّر الحوار العدائي الصامت المتخيّل الذي دار بينهما، عن قدر من التنافر بين الشخصيتين والموقفين. لكنه استنفر عند البطلة نرجسيتها، وغوايتها بنفسها، وتمجيد جمالها الذاتي تحت الحجاب، في مباراة الجمال المضمرة. المنحى المعرفي يتجلى «المنحى المعرفي» في رواية «بوركيني» في سلسلة من الاقتباسات عن الكثير من الكُتّاب والشعراء، بيد ان أهمها تلك الوسائل العقلية من أدوات البرهنة والتحليل والإقناع التي امتلكتها البطلة - الساردة التي تستخدم صيغة ضمير المفرد المتكلم. أي الأنا التي تومئ بطريقة أو بأخرى، إلى استلهام بعض أجزاء من سيرة الكاتبة. وهذا المنحى يضيء على «التيمة» القصصية، ويمنحها بُعداً فكرياً وذهنياً يشكّل أطروحة اجتماعية جديرة بالنقاش، ويحوّل خيار التحجب خياراً عقلياً، بدل أن يكون انعكاساً لحالة اجتماعية أو دينية أو عُرفية، تقوم على التقليد والتماثل مع المحيط. وقد أسعف الكاتبة في تعميق عملها المعرفي أن جعلت من بطلتها فنانة تشكيلية، تهتم في لوحاتها بموضوع الأجساد العارية. وفي هذه المفارقة بين رسامة تجرّد أشخاص لوحاتها من ثيابهم، وتحجب جسدها عن الآخرين، يكمن التجاذب الحاد بين قطبين متناقضين، حيث تحجب مكامن أنوثتها، وتصبّ اهتمامها على أجساد أخرى في لوحاتها، حتى استحقت بجدارة لقب رسامة سكيزوفرينية، على ما وصفها أستاذها. حُملت الفنانة بتعاملها الدقيق مع الألوان والخطوط والأبعاد والكتل، على ان تنعم النظر داخل جسدها نفسه، فأقامت علاقة جدلية بين أجساد الفتيات في لوحاتها، وتمثُل جسدها الخاص ووضعيته في الفضاء المكاني الذي يُملي عليها ما ترسمه. وعلى اعادة تعريف الجمال بما هو في رأيها، معيار غير مادي، يتماشى مع العفة التي يفترضها ارتداء حجابها. وربما يسوّغ عملها هذا، تحوّل الأجساد على قماشة لوحاتها من حالتها الفيزيقية إلى حالتها الميتافيزيقية. حيث الجسد لا يقلّ قيمة عن الروح. «شكل العينين ولونهما لا يعنياني، بل نظرتهما، وحجم الشفتين لا يهمني بل ابتسامتهما. قامة المرأة وتفاصيل الجسد ليست معياري بل تناسقه». ومن موقعها كفنانة، كان من الطبيعي ان تهيمن العين على مساحة الرواية، وعلى موضوع الحجاب الذي تتسلط عليه نظرة الناس، وعلى رؤية المحجبة لنفسها، ولكيفية ظهور جسدها في مرآة الغير، وإحساسها الدائم أمام النظرة المحدقة بها بأنها تنمحي وتتلاشى. وإذا كانت العين تسدد نظرتها إلى الشيء المكشوف والمعروض امامها، فإن الخيال ينشد التحليق عبر اختراق المحجوب «يُشبع عينيه بأجسادهن المكشوفة، ويُلهب خياله بجسدي الممنوع» . في لعبة المرايا يتجلى الاختلاف بين المنظور والمتخيّل، كعملية متكاملة لهوية الجسد الذي تمتلكه البطلة، والذي يتخلّق كل مرة من جديد، لا سيما في فنها ولوحاتها المسكونة بجمالية اللون والضوء. بأوصافها الموحية، تعقد مايا الحاج عُرى هذه الحركة المتبادلة بين العين والمخيلة. بين الحقائق والهلوسات. بين المرئي واللامرئي. وتتغلغل عباراتُها في انسيابية غنائية، لتوقظ أحلاماً أنثوية هاجعة في أعماق بطلتها، المرأة المكبوتة والصامتة، التي يسكنها الخوف والقلق من المجهول. وليس أفضل من الرواية مكاناً تستطيع فيه المخيلة أن تلتمع، أو تنفجر كحلم وفق عبارة ميلان كونديرا.