انجزت الأسماء الجديدة في مصر خلال العقد الأخير من القرن العشرين، ذلك القطع الحاسم والسريع مع تجربة جيل الستينات التي لا تزال تطبع المشهد. وتجلى ذلك الإنجاز - القطع بخاصة في الرواية، على يد الكاتبات، حين - على وفرة الأسماء - يتفرد صوت ميرال الطحاوي منذ روايتها الأولى "الخباء" 1996 وعبر روايتها الثانية "الباذنجانة الزرقاء" 1998، وصولاً الى روايتها الجديدة "نقرات الظباء" 2002. وقد يلتبس ما تحقق لميرال الطحاوي وجيلها من حضور في النقد والترجمة وسواهما، بما بين المصادرة الذكورية - تقزيماً أو مبالغة - وبين افخاخ الخصوصية والعالمية والأكزوتيكية وغواية الآخر. بيد ان ميرال الطحاوي، كمعظم جيلها توالي مشروعها الذي يعقّده ذلك الالتباس، لتنقش شهادتها في شاهدة القبر على ذلك العالم البدوي، وعلى النسوي منه بخاصة. ولعل ذلك يفسر تصدير الكاتبة لروايتها الجديدة بهذه الشذرة الكاوية "على صدري حطيت شهايد/ بلا موت يا علم". ولعل ذلك يضيء أيضاً وأولاً لعبة الرواية في انبثاق عالمها من هذه الصورة أو تلك، مما بقي من العالم الدائل معلقاً على الجدران، ومنداحاً في الشفوي الحكاية والغناء وفي الأثر، لتبدو الرواية في جملتها حفراً في الروح والجسد والطبيعة والثقافة، حيث تغدو الكلمة مسباراً أو فرشاة أو كاشطاً مما يتوسل الأركيولوجي، وحيث تقوم لعبة الرواية على الحساسية البالغة، والحذر، والبحث، وبنبضها الإنساني الحار، سواء كان خافتاً، أم صاخباً، وسواء قامت في الرواية الوشاية بالسيرة أم لا. هكذا تبدأ "نقرات الظباء" مما في الإطار من صورة هند أو انشراح أو سقاوة أو سهلة، ومما هو خارج الاطار. وإذا كانت الصورة الأولى تطلق قصص من فيها وتشبكها حدّ التيه، فإن ذلك سيهدأ رويداً، وباطراد مع انفراد احدهم أو احداهن. بصورة تالية، وبالتالي بقصة واحدة في فصل واحد، تضيء ما تقدم - وما سيلي - وتضيف اليه. ومنذ البداية تلوح الرواية بما لعله مفتاحها الأكبر، مما يتصل بالعنوان "نقرات الظباء"، فهند التي أدخلوها بيتاً طينياً وسدوا منافذه حتى ماتت، تحكي حكاية السهى - الظبية التي ركضت في السماء، ولأنها تركت وليداً صغيراً على الرمال، لا يعرف كيف يهرب من صياده، تركت له نقراتها المضيئة نجوماً تتنبأ بمواضع الخطر. أو/ الجدة النجدية التي تأتي الى الرواية من خارج اطار الصورة، والتي تتخيل يوميات - أسرار هند في الكشكول، مما لم يعرفه أحد، فهذه النجدية تراقب من فتحة السقف نقرات الظباء وهي ترحل: نجمات قليلة متناثرة تركض في السماء. من هذا المفتاح - العنوان تأتي كبرى اشارات الرواية الى الطبيعة والاسطورة والمصائر التراجيدية الفردية والجماعية. وهذا ما سيتوالى في رسم الفضاء البدوي والمديني، بينما تتقلب به عقود القرن العشرين، من العهد التركي والانكليزي والملكي الى عهد جمال عبدالناصر والإصلاح الزراعي، وحيث يتصادم التاريخ بالسيري والتخييلي، وتتلاطم القبلية وأنساب البشر والخيول، وتنم الرواية عن مكنة مذهلة من مفرداتها في الجوارح والخيل والصيد والغناء والحياة اليومية، وسيأتي الكثير من الرواية فيما تنقل الرواية بضمير المتكلم عنها وعن أبيها وأمها وجداتها وأجدادها، لكن الكثير أيضاً سيحمله الضمير الثالث - الغائب. ومن جملة ذلك سينهض الفضاء بين إقطاع البدوان وخليج منازع وعبيدهم والخيام والجبل الأخضر ومصيف مرسى مطروح والقاهرة ومهاوي القنص التي تترامى حتى كندا واستراليا، ومواطن العلم حتى فرنسا وأميركا و... وسيمور هذا الفضاء بحيوات الجد الكبير محجوب والجد منازع والعبد سهم ولملوم الباشا الباسل وابنته سهلة التي سيتزوجها والد الراوية... ومن النساء: العمة مزنة وسقاوة التي أتى عليها الصداع والتشنجات، وانشراح التي فقدت ذاكرتها منذ نجت بالذهب من العسكر الذين جاءوا لتطبيق قرارات الإصلاح الزراعي وتشتيت الملكيات الكبرى المترجرجة بين البداوة والفلاحة والترحال والاستقرار. لكل من هاته الأسماء والأحداث، ولسواها، قصته التي تقدمها رواية "نقرات الظباء" مفردة أو مجزأة، لتبدو متناسلة من سواها، أو أصلاً لسواها، ومتقاطعة مع سواها. وإذا كانت الصور منطلق القصّ، فلها أيضاً صندوقها، كما يليق بالقص الشعبي والشفوي الذي يغالب البهوت المألوف عندما يغدو مكتوباً في رواية، وحيث امتحان الأكزوتيكية الذي تتحول معه الرواية، فيما هو غالب، الى معرض للعجائبي والغرائبي، والى تلمذة غير نجيبة للواقعية السحرية، والى غواية - استخذاء أمام بريق الترجمة والعالمية. لكن ميرال الطحاوي تدير ظهراً لذلك، رواية بعد رواية. ولعلها من أجل ذلك عددت اللعب الروائي، فهند نفسها ما فتئت تعود الى العالم الذي خنقها، صبية صغيرة بضفائر، ولكن في هيئة كعكة، لتتواصل قصتها، ويشتبك عرسها باستقالتها من الحياة، بجنونها وسجنها، بلوحات بيير كام الذي يسمي نفسه سليمان، ويعدد اللعب الروائي منذ أن أخذه العالم البدوي اليه، وراح يرسم عبيد هرر أو هنداً عارية أو مهرات مستكينة، لإحداها عينا هند. ومثل لوحاته يمتلئ صندوقه بمذكراته وحفرياته، ليكون ذلك التصادي مع رواية "خارطة الحب" لأهداف سوف في لعبة الصندوق، ومع ثلاثية إدوار الخراط في الحفريات. لكن أي لعب في راوية "نقرات الظباء" يبدأ من، وينتهي الى لعبة الصور. ففي ختام قصة - فصل انشراح، يأتي طرف الخيط في يدها صوراً غائمة "تحاول استكمال تفاصيلها، وكأن ثمة طريقاً عليها أن تتعقبه، ومصيراً مماثلاً مجبرة على تكراره. كانت هند تأتيها كثيراً، تحدثها أن تغلق ذلك الصندوق، لكنها كانت مصره"، وإذا كان إطار الصورة - اطارات الصور - المذهّب قد أصبح بلون الرمال باهتاً، فلأن الزمن فعل فعله في الأصل، وصارت الصور "مجرد أشياء تعسة تحتاج الى الكثير من الترميم، مثل الحمامات التي تخرج منها صراصير وأسراب نمل، أثاث عليه بقايا سنوات كثيرة أتعبته". وهذا هو المآل إذن: موت ذلك العالم، مما أشّرتْ اليه مغادرة والدة الراوية الى البيت الموروث في منيل الروضة بالقاهرة، تاركة الأب والعمة... أو مما أشَّرَتْ اليه خيبة النداءات لوصل النسب مع الأرومة العتيدة في الجزيرة العربية. لم ينفع في درء هذا المآل ان يكون والد الراوية قد تعلم في فيكتوريا كوليج، أو أن يكون قد وفّر لابنته تعليماً أكبر، أو أنه عاد من سعيه خلف نزاع بني سليم وهلال بديوان من الشعر النبطي، فالحلم بإصدار جريدة باسم القبيلة يكون شعارها البداوة أصل الحضارة قد تبدد، وما بقي إلا سؤال أبو شريك العيادي كلما لاقى حفيداً "ابن من يا ولد؟". لكن الأحفاد الذين سئموا ترداد أنسابهم العتيدة وحكايات العيّادي الظل الأخير للماضي، باتوا يحاولون التخلص منه. والسيرة التراجيدية تنقفل على هسيس خافت ولائب، ترسله هند بخاصة، فيذهب بدداً.