عندما تمتلك الكاتبة ثقة كبيرة في ذاتها كمبدعة، وقدرة بارزة على استبطان العالم الخارجي من خلال رؤيتها الشخصية، ورغبة في امتلاك تاريخها وتاريخ الواقع من حولها للتحرر منه في الدرجة الأولى، فإنها حينئذ تمتلك شجاعة البوح المنقّب بضمير المتكلم من دون أن يعنيها على الاطلاق ما يسقطه القارئ على المؤلف من تجارب أو يسنده من خبرات، تصبح رسالتها الإبداعية كشف ندوب الروح والجسد لأبناء جيلها كلهم. ومنذ أن بدأت ميرال الطحاوي رحلتها الإبداعية وهي تستثير مخزون الذاكرة الطفولية عندها بدهاء ومكر شديدين، وهي تضم الى تلك المرحلة في رواية "الباذنجانة الزرقاء" مرحلة المراهقة والشباب الطلابي المتمرد، وتتقن ذلك الى الحد الذي يوهم القارئ بأنها في كل مرة لا تحكي سوى سيرتها الذاتية، ولأن الحكايات قد أصبحت متفاوتة ومختلفة فلا بد أن لها ذوات عديدة بمقدار ما تتأمل في أعماقها وأعماق من تعايشهم من البنات والأولاد، ولا بد أن طاقتها على الخلق والابتكار نشطة الى درجة كبيرة، حتى لتصبح كل تجاربها بهذا القدر من الصدق. وفي هذه الرواية الأخيرة تدهشنا الكاتبة في صفحاتها الأولى بقدرتها على استحضار أغاني الطفولة وأجاجيها ومنظوماتها وألاعيبها الحلوة، في حوارات شيقة ممتعة، لكنها فجأة تضرب في العمق، تصنع ندوب التاريخ وهي تكشف عن ندوب الجسد، فالرواية تتأرجح أكثر، وفي البلكونة المطلة على الأرجوحة تجلس صويحبات أمها ويضحكن قبل أن يفزعهن سقوطها، لقد أصبح لها في كل ساق أكثر من جرح وكدمة، غرزتان عندما سقطت من على سور البيت، شق طولي في فخذها عندما "تشعلقت" في مزلاج الباب. إلخ، مما يفضي بنا إلى لون من التعارف التشكيلي على خارطة الجسد للنفاذ الى الفؤاد، الى صميم القلب. ويصبح بوسعنا أن نتساءل: هل ترمز هذه الندوب لآثار الخبرات الحية والعواطف الجامحة؟ هل تبرز كعلامات مميزة للشخصية مثلما كان يحدث في الملاحم القديمة؟ تأخذ الكاتبة حريتها في الانطلاق عبر فضاء الحياة، وهي تقوم بتشكيل فصول الرواية، فتدير بعض الفصول حول شخوص قريبين منها، تقصر حيناً حتى لا تتجاوز صفحة وبعض صفحة، وتطول حيناً آخر لتستغرق صفحات، ليس هناك ميزان شكلي يضبط ايقاع الكلام المنهمر في فضاء الصفحة ليعكس أضواء الوجود المتخيل. ومن أطرف هذه الفصول ما يقدم لعبة المزج المتراوح بين الحلم والواقع، وهو بعنوان "منامات" يتراقص على الهامش الفاصل الواصل بين الحالتين، والفصل الذي يتراءى فيه الأخ وهو يدق الطبلة فنسمع في رنينها خفقات العلاقة الحميمة بين الأطراف، مما يتخذ شكل السرد حيناً، وصيغة الرسائل القصيرة حيناً آخر، وتكشف عن أكبر عدد من الشخوص في الآن ذاته، مما يجعل تقنيات الحكي تتمتع بمرونة كبيرة، ويعطي للمادة المروية إمكانات تشكيلية متعددة، ترتكز مرة على الأغاني والأحاجي والحكايات والأساطير، ومرة على الوصف الدقيق لأطوار الحياة وتقلبات المراحل العمرية. لكن شيئاً بارزاً تتميز به كتابة ميرال يتبلور في هذه الرواية على وجه الخصوص، هو قدرتها على تلوين القطع السردية بالمزاج الخاص للرواية في مراحلها المختلفة، فالمراهقة تفصح عن فوضى مشاعرها وأوجاعها ومراقبتها للأب في رسائل ملائمة تماماً للغتها، والنسوة ينطقن بكلمات مشحونة بالإشارات والدالات والامثال المعبرة عن عقليتهن، والأقوال المنسوبة للرجال تأتي بنغم رجولي واضح، أي أن نبرة الأصوات المختلفة تجسد طبائع الأشخاص عمومياً ونوعياً وثقافياً. من هنا تبدو الكتابة وقد حققت بشكل جليّ نموذج الحوارية الذي كان يعنيه باختين، لا بتعدد الأصوات والنبرات اللغوية العامة فحسب، وإنما بتعدد المستويات داخل الصوت الواحد بمنابعه الثقافية في حالاته النفسية المختلفة. الاستقبال وتناسخ الضمائر على أن هناك ظاهرة أسلوبية لافتة ترافق كتابة ميرال في هذه الرواية، فمعظم الأحداث المسرودة في الفصول الأولى مسبوقة بسين الاستقبال ونظيرتها في النفي "لن" بحيث نرى ذلك لازمة في السرد مثل "سيضحك البنات فيما بعد" "سيحدث كذا". ولنا أن نتساءل: ما هي دلالة هذه السين الاستقبالية؟ هل ترسم المسافة الفاصلة بين زمن الكتابة وزمن وقوع الحدث؟ فالمفروض أن الفتاة المراهقة الصغيرة ليست هي التي تكتب حينها، فلم تكن حينئذ تمتلك قدرات الكتابة الفنية ولا آلياتها، ما يجعل هذه السين تخفف من وهم الفورية الساخنة الذي يصنعه فعل القص ذاته. أما أنها مجرد طريقة عفوية في تنويع الصيغ والعبارات لا تخفي وراءها فلسفة خاصة بالزمن ولا وعياً مستكناً بهذه المسافات بين الحالات الحيوية؟ أم أن الأمر يتعلق بحالة وجودية تتلبسها الكاتبة خلال ممارسة فعل الكتابة، تجعلها تتابع بشكل متسارع الإيقاع ترتيب المواقف والأحداث وتجسدها بتنويعات الأفعال وتبرزها على وجه التحديد بهذه السين الاستقبالية؟. وربما كانت دلالة هذا المنحى في "مستقبل الماضي" مرتبطة إلى حد ما، ولو بطريقة لا شعورية، بما يختزنه وعي الكاتبة بالأنماط اللغوية التعبيرية في غير العربية، خاصة الانكليزية التي تألف هذا اللون من صيغ التعبير عن الزمن، ما يطرح طيفه على لغة الكاتبة دون حسبان. مسألة أسلوبية وتقنية أخرى تمس شعرية الرواية تتصل بضمير المتكلم الذي تستخدمه الراوية منذ البداية، ثم لا يلبث أن يتبدل عندما تعيره لصوت آخر لفتاة اسمها "صفاء" مكان الراوية الاصلية "ندى" تختلف عنها جذرياً في نشأتها البيئية وظروفها النفسية والحيوية قبل أن تسترده مرة أخرى. لكن ماذا يحدث بهذا الانتقال المفاجئ في ضمير الرواية؟. إن القارئ يستشعر على الفور بكسر داخلي يصيب تسلسل السرد، فكأنه قد تحول من مشاهدة فيلم سينمائي الى فيلم آخر بأبطال وسيناريو مغايرين. ولا شك أن هذه التجربة في التوالي والانقطاع والمصادر تربك القارئ وتحيره في بداية الأمر، لكنها تحقق وظيفة جمالية وإنسانية عجيبة، إذ تنسف للحظات الحدود والفواصل بين الشخوص والمستويات، تحاول إجراء لون من النتائج في أشكال الحياة المختلفة، تقوم بتطعيم الخيال الفردي والجماعي بنتائج مغامرة المزج والتماهي مع المختلف. تطرح افتراضاً طريفاً مؤداه: ماذا لو كنت غيري؟ لا شك أن حياتي ستصبح أكثر خصوبة وثراءً مما هي عليه الآن، إذ أنني سأجرب مشاهد ومشاعر وخبرات لا عهد لي بها، سأراجع منظومة قيمي كما أظن، وأختبر ما في أنساق أخرى من القيم من حلاوة ومرارة". إن تناسخ الضمائر يفضي الى هذا الفتح الجمالي في الخبرة الروائية. يقوم الفصل الخاص ببيت الطالبات بتقديم تجربة الفارق الطبقي والأيديولوجي بين البنات، وكيفية تشكل المواقف والاتجاهات من دينية الى يسارية ومحايدة بطريقة حيوية مدهشة. لم أكن أتصور نقدياً أن "منظور المرأة" في القص قادر على التقاط هذه التفاعلات ورصد نموها وتفاقمها بهذا الزخم والدقة من قبل. فليست مشاركة المرأة المعاصرة في حركة الحياة العامة مجرى صدى ثانوي لأوضاع الرجال وحركتهم، بل إن مجرد ما تضعه المرأة على جسدها من ملبس يتراوح بين النقاب أو الحجاب من جانب و"البلوزة" الملتصقة بالصور مع بنطال "الجنز" من جانب آخر أقدر على تجسيد مفارقات الايديولوجيا من كثير من الأفكار والكلمات المجردة المتلاطمة. فالفكر هنا يتحول الى سلوك ومشاعر ومشاهد وأسرار أقرب الى المذاق الفعلي للواقع. ميرال الطحاوي تخوض في هذه التجربة أرضاً شديدة الحركة والحيوية تقبض على جمرة ساخنة من حياة الشباب المصري المعاصر، لنقرأ هذه الفقرة من حياة "صفاء": "كلما خرجت من المبنى الرابع لبيت الطالبات مطرودة كنت الى هناك في بار الشيخ علي لأجده مع بقية الرواد يتحدثون عن فترات اعتقالهم بفخر، ويتابعون أخبار الأشباح التي تكتب عنهم التقارير، وينتظرون مداهمات منتصف الليل. في بار الشيخ علي صممنا مجلات كثيرة للحوائط واحدة لرسومات ناجي العلي، وأخرى عن مقاطعة السلع الاميركية ورابعة عن الصهيونية. ونظمنا تظاهرات عارمة من حرم الجامعة حتى مبنى السفارة الاسرائيلية. ساعتها كانوا يتحدثون عن عبقرية في صياغة الهتافات وارتجالها، قبل أن تسوّر الجامعة بحصون الأمن المركزي وقبل أن يفوز الإسلاميون باتحاد الطلاب، وقبل الصدام الأخير. بعده صار يلقب في الجامعة باسم الشيوعي بغرض شتيمته. وبعدها صار يطردني كثيراً في ليالٍ مظلمة فأقضي الليلة في الشارع مع المجند الحارس لسميراميس الذي يسعل مثلي، صار بعد أن عرف طريقه الى المناطق التي يرغبها في جسدي يسمح لي بالرؤية من قرب بقضايا الكافيار والنبيذ والدينارات التي يلصقونها على أفخاذ الراقصات فأحدثه عن الاحباطات والضياع.. ويضحك معي على أشياء لا يفهمها". وإذا كنا قد عجبنا من اختزان ميرال لأغاني الطفولة وأهازيج الريف والبادية فإنها هنا تفاجئنا بقدرتها على امتصاص لهب التمرد الشبابي وصبه بهذه الصرامة في كلمات نموذجها الخطير "صفاء" وهي تقدم صورة للوعي الفكري المعاصر، الغريب أن هذا الفصل بأكمله يخلو تماماً من سين الاستقبال، هل يشير ذلك الى أنه تمثيل مركز مكثف للوضع الذي ما زال حالياً للشباب؟ التعلق الأخير بطوق الحمامة الفصل الاخير من الرواية بعنوان "طوق الحمامة"، وهو مقدم بمقطع مثالي لابن حزم يتحدث عن حب لم يوجد ولم يحدث أبداً في الدنيا لحبيبين يخلو لهما وجه الكون وتتوقف عندهما عجلة الزمن، لقد وصفه المؤلف كصفحة بيضاء ليرسم على هامشه احوال المحبين وطقوسهم وخبراتهم. السؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا تتعلق كتابة ميرال بهذا الطوق؟ هل تتحول الباذنجانة إلى حمامة؟ ماذا تفعل الراوية في هذا الفصل؟ انها تبوح بسر طفولتها المنكر، بعقدة إليكترا في عشق الأب واشتهائه وهي المحصنة بدروع التقاليد العائلية، ومنافستها لأمها. ولكن اية صلة تربط ابن حزم بهذا البوح المثير سوى صلة التضاد والمفارقة، من مثالية لم تشهد الحياة يوماً نظيراً لها الى مادية قاسية عارمة تخترق حجب الطهارة المرغوبة ومزق التفازات البيضاء. على ان هناك مفارقة اعمق تقوم في بداية ممارسة الفتاة للعبة الحب، لقد ملأت خيالها وذاكرتها بالخبرات المكتوبة في النصوص التراثية، وتوجست خشية من الخبرات الغريبة عنها، حفظت قصة الحب من نظرة واحدة في طوق الحمامة، وحفظت روايات العشاق والزهاد، وملأت رأسها بالنماذج المثالية، غاضة بصرها عن تلك النماذج الاخرى المنتمية الى ثقافات مغايرة، تدهشها كلمات "اولجا" رفيقتها في السكن من ان الحب هو خبرة الحواس التي تمارس وظائفها الحيوية، ثم تطرح كل ذلك جانباً لتستجيب لموعدها الاول. وتقدم الراوية لغتها التي تقلع هنا ايضا عن استخدام سين الاستقبال، ربما لانها وصلت الى الحال التي تضعها في بؤرة الرؤية، لتجسد بهذه الكلمات المفارقة التي تبرز في وعي الانسان بذاته، بين ذكريات الطفولة، وندوبها الظاهرة والخفية من جانب، وزخم الحياة ونبضها المتجدد في خلايا الجسد والروح من جانب آخر، طاوية صفحاً من تلك الصورة المثالية التي كانت تحتل المخيلة البريئة الساذجة عند مواجهتها للواقع المادي الملموس بتفاصيله الثرية. لعل الكتابة تعبر حينئذ عن التئام ما انشطر من شخصيات الصوت في انقسامه الى ممارس ومراقب، وتدخل تاء الخطاب الموجهة الى الذات لتقوم بالوصل الحميم بين هذين الشطرين، وحينئذ يصبح اسلوب الرد مرآة مضاعفة لهذا الوعي بالذات في توترها الموصول، وفي سعيها نحو التحرر والتخلص من آثار القمع الروحي المضاعف. فإذا ما عدنا إلي سؤال الوظيفة الجمالية لاستخدام فقرات "طوق الحمامة" في هذه الرواية، ادركنا انه ليس بوسعنا ان نعرف بدقة ايهما قد فرض نفسه على الآخر، هل هي التجربة الحيوية المؤطرة لحب فاشل هي التي صنعت نهاية الرواية وتدثرت بفصول مختارة من طوق الحمامة في تسلسل يبدأ بماهية الحب واشكاله العديدة حتى ينتهي الى الهجر والغدر والسلوان، ام ان تلك الفصول ذاتها هي التي لعبت الدور الحاسم في قولبة المتخيل الروائي ورسمت للكتابة مسيرتها به؟ ومع ان استخدام ضمير المتكلم في الرد الروائي يعد من احدث التقنيات الشعرية التي تتيح فرصة الغوص في حميمية الذات، واستشعار أدق ذبذباتها وهواجسها الداخلية، غير انه يرسم صورة احادية للواقع الموضوعي الخارجي، مهما كانت نافذة وعميقة، لكنها ليست مجسدة الابعاد، فنحن لا نعرف مثلا رؤية الاخر لهذه العلاقة الفاشلة بين "ندى" وصديقها، ننظر بعين واحدة لا ترى سوى احد الاطراف الفاعلة في صراعات الحياة، فهل اختزل هذا الشكل الحداثي للسرد امكان التكوير الحقيقي للعلاقات والمواقف بكل دراميتها وتوترها وتعارضها وتشابكها؟ هل انتهت الرواية، باتكائها على ياء المتكلم وحده حتى النهاية، وتوديعها السريع لياء متكلم آخر، لإمرأة مناقضة فقط، لا لرجل آخر، الى افقار الامكانات الحقيقية لتجسيد صراع الحياة وحجم المشاعر وعالم المفارقات التي تتولد من اصطدام قواها ورموزها المختلفة؟. تتراءى هذه الاسئلة عند الوصول الى نهاية الرواية حيث تؤدي العلاقة المحبطة الى فهم مسنون لأحد الاطراف، وتعاطف تام معه، ورؤية للواقع من منظوره، مع غياب الجانب الاخر للطرف المقابل ونقص امكان التصور للواقع الموضوعي في التجربة. إن ما كسبته الرواية من تعدد المستويات اللغوية وحوارية الاصوات قد انحصر في خاتمة الامر الى تعميق الرؤية الذاتية للانثى في مقابل عالم الرجل، ولعل التعلق بطوق الحمامة ان يكون الشرك الذي قيدها بدلا من ان يحررها ويطلقها لفضاء الابداع الفني والفكري الرحيب، لكن الحمامة على أية حال قدمت رقصتها الرشيقة بمهارة فائقة وشعرية جميلة. * ناقد مصري.