لم يكن النفي الليبي للعرض المالي السخي الذي قدمته الجماهيرية لأسر ضحايا تفجير لوكربي إلا جملة معترضة عزاها بعض العارفين بالنظام الليبي الى "ظاهرة ثقافية خاصة". فبعد غد تستضيف لندن اجتماعاً سياسياً يحضره أميركيون وبريطانيون وليبيون لمتابعة تفاصيل "الاتفاق المبدئي" الذي أُبرم إثر اجتماعات تقنية مكثفة في فرنسا، والذي يؤذن بطي صفحة سوداء بدأت في 1988 قبل سقوط الاتحاد السوفياتي، وينوي العالم الغربي ضرب صفح عنها بما يتيح اعادة تأهيل طرابلس من جهة وإعطاء مثال للدول التي لا تزال على قائمة تقرير وزارة الخارجية الاميركية المتعلق بدعم الارهاب، بأن العقوبات ليست اجراء روتينياً غير ذي معنى، بل مسألة جدية. ويبدو انها مكلفة ومجدية. وبغض النظر عن الارتياح الممزوج بالحذر والريبة الذي تم عبره تلقف عرض طرابلس مبلغ عشرة ملايين دولار لأسرة كل ضحية من الضحايا ال270، مقسطة بالتزامن مع خطوات رفع العقوبات الأميركية والدولية عنها، فإن ما يجب الاعتراف به، هو ان ليبيا خطت بنجاح الخطوة الأولى في العودة الى الاندماج بالعالم الجديد، بعدما فهمت ما استعصى على نظام صدام حسين ادراكه، معتبرة ان هناك تاريخاً يجب ان تحمل وزره كي تتمكن من الخروج منه. ولحسن حظها، وجدت في الرئيس جاك شيراك، المتعهد الأصلي الموهوب لعمليات "اعادة التأهيل"، ضالتها المنشودة. فحلت عملياً قضية طائرة "يوتا" الفرنسية التي انفجرت فوق صحراء النيجر بالتعويضات، وترى ان التجربة قابلة للتكرار. المال في مقابل الدم. هو طبعاً جزء من الاتفاق. لكن ما يصلح مع فرنسا شيراك لا يمكن استنساخه مع واشنطنولندن. وإذا كان كولن باول يشجع الخطوة الليبية، فإن الادارة الاميركية لا تعتبرها نهاية المطاف. ولا شك في ان ليبيا تعلم ذلك. بل هي أدركت منذ سنوات ان طريق انهاء الحظر ليس جمع التصريحات في الجامعة العربية ولا استثارة "النخوة" القومية. فيممت صوب افريقيا وابتعدت فعلياً من النزاع العربي الاسرائيلي مقترحة حلولاً غير جدية لهذا الصراع مترافقة مع مواقف ملتبسة. لكن الأهم والأكثر جدية كان قطعها حبل الصرة مع تنظيمات كانت تشعل النيران إبان الحرب الباردة. ولولا اتهامات اميركية لها بمحاولة الحصول على أسلحة دمار شامل وبإرسال أسلحة الى الرئيس الليبيري تشارلز تايلور للانقضاض على نظام سيراليون، لكانت كل ملفات الجماهيرية غير طازجة، لا بل قابلة لاعتبارها منتهية الصلاحية والمفعول. فليس مستغرباً، والحال هذه، ان يميز تقرير الخارجية الأميركية ليبيا، ويعتبر انها "أقرب الى فهم ما يتوجب عليها فعله للخروج من التورط بالارهاب واتخاذ اجراءات في الاتجاه الصحيح". ولم تنس واشنطن بالطبع امتداح ادانة ليبيا اعتداءات 11 ايلول سبتمبر وتأييدها الرد الأميركي على بن لادن و"القاعدة". وهي الخطوة البديهية التي انفرد صدام بعدم اتخاذها. انه سياق طويل دفع ثمنه النظام الليبي سياسياً، لكن شعب ليبيا يدفع أضعافه اقتصادياً وتنموياً وخسارة فرص تقدم. ولا تزال بين ليبيا والرفع النهائي للعقوبات مسافة لا بد من قطعها. فصحيح ان تسليم المتهمين الليبيين الى محكمة العدل الدولية والحكم على احدهما بالسجن مدى الحياة أتيا في مقابل تعهد بعدم توجيه التهمة الى المسؤولين الليبيين، وصحيح ان ليبيا جاهزة لمقايضة المال برفع العقوبات، لكن واشنطن لن تمنحها "صك البراءة" ولا تزال تنتظر منها الاقرار بالمسؤولية عن تفجير لوكربي وتقديم مزيد من التنازلات. انه الضوء في آخر النفق. بدأت تراه ليبيا بعد معاندة دفعت ثمنها غالياً... والعالم لا يزال ينتظر ان يستخلص صدام الدرس ليرى النفق قبل ان يطالب طارق عزيز بالضوء في نهايته. ألم يرَ بعد ان العقوبات هي فعلاً مكلفة ومجدية؟ بشارة نصّار شربل