قد يختلف العرب والاسرائيليون في امور كثيرة. فأوضاعهم السياسية والاقتصادية والثقافية والاعلامية لا يمكنها تقريب وجهات نظرهم. كذلك ففسحة اللقاء بينهم تضيق يوماً بعد يوم. الذي يجمعهم حالياً، كصورة تنعكس في مرآة الآخر، هو البارانويا العُظام من دون ادنى شك. صورة العالم المتربص بالعرب والمسلمين، هي ذاتها، على رغم بعض اللمسات التجميلية، الصورة التي نشعر بها لدى قراءة وسماع الاعلام الاسرائىلي او الاعلام اليهودي المؤيد لاسرائىل. فقد غدت فرنسا "بلداً لاسامياً"، وفرنسا مقصودة بسياستها وصحافتها وتلفزيونها وحتى بمهرجانها السينمائي في كان الذي لم يتجرأ على اعطاء فيلم الفلسطيني إيليا سليمان "يد إلهية" اكثر من جائزة التحكيم، مفضلاً تقديم السعفة الذهبية لفيلم متوسط لمخرج كبير هو رومان بولانسكي يتكلم عن موسيقار يهودي خلال الحرب العالمية الثانية، وذلك خوفاً من تهم جديدة ومن اعادة المطالبة بمقاطعة المهرجان، كما اقترح المؤتمر اليهودي الاميركي هذه السنة. بعد ذاك اخذ فيروس تهمة العداء للسامية يصيب مؤسسات ومهرجانات اخرى في العالم لم تُظهر يوماً اي جفاء لاسرائىل او لليهود. تجمعٌ لعدد من الحاخامات الاميركيين طالب مؤخراً بمقاطعة بعض الصحف التي تجرأت ونشرت القليل من المقالات المنتقدة للدولة العبرية. بين الصحف المشار اليها بأصابع الاتهام نجد "نيويورك تايمز" و"لوس انجليس تايمز"! وهما صحيفتان اتهمهما العرب مراراً بكونيهما البوق المدافع عن سياسات اسرائىل. حتى ان المفوض الاوروبي المحافظ كريس باتن، الذي قلما خرج عن تحفظه وصمته، نشر مقالة في "واشنطن بوست" يتساءل: هل على العالم ان يصبح عضواً في حزب ليكود الاسرائىلي، لكي تزول عنه تهمة اللاسامية؟ الاتهام الاخير والمضحك هو الذي وجهته صحيفة "هآرتس" المعروفة عادة بعقلانيتها لمهرجان اليوروفيجن الغنائي. فهذا الحفل الذي يقدم كل سنة ويجمع مغنين جدداً من كامل القارة الاوروبية، زائد اسرائىل، لا يدخل الصراع العربي - الاسرائىلي او اي صراع آخر في جدول اعماله. كما ان وعيه السياسي متدن جداً وهو يشبه مستواه الفني! ومع هذا وجدت "هآرتس" ان السويد وبلجيكا في عدائهما لاسرائىل لم تُنصفا المغنية الاسرائيلية التي احتلت في اختتام الحفل المرتبة الثانية عشرة. المضحك ايضاً ان الدولتين المتهمتين بالعداء للسامية: المانيا تاريخياً، وفرنسا تاريخياً ومجدداً، منحتا المغنية الاسرائىلية ارفع العلامات لكي لا يكون التصويت نابعاً من حقد دفين او عنصرية مبطنة او... الله اعلم. لكن لنعد الآن الى العالم العربي وحالاته المرضية التي تجلت في مهرجان كان السينمائي. فالى جانب الفيلم الفلسطيني، عُرض ايضاً فيلم "كيدما" الاسرائىلي للمخرج عاموس غيتاي المشهور تاريخياً بنصرته للحق الفلسطيني، وبانتقاداته اللاذعة للممارسات الاسرائىلية، وللتزمت الديني اليهودي. معظم النقاد العرب انتقدوا الفيلم بلهجة حادة، ولم ارد الغوص في هذا الموضوع في الاسبوع الماضي قبل مشاهدته. لكن الفيلم لم يحصل على اية جائزة ليس بسبب اي ضعف فني، وانما الى حد ما نتيجة رغبة كل من عاموس غيتاي وايليا سليمان عدم تقاسم جائزة مشتركة، مفضلين بذلك ان يظل المهرجان مكرّساً للفن السابع قبل كل شيء، وهذا بدل ان يتحول الى امم متحدة او جائزة نوبل او يوبيل اليونيسيف. كيدما يتكلم عن سنة 1948 وولادة اسرائىل ولقاء بين مشردين يهود قدموا بطرق بدائية الى فلسطين، وبين فلسطينيين بدأوا رحلة تشردهم بسبب قدوم هؤلاء اليهود. فالفيلم على رغم تصويره لمأساة الشعب اليهودي لا ينكر مسؤولية هذا الشعب بما سيحل بالشعب الآخر الفلسطيني. إحدى الناقدات العربيات لم تجد سوى ان تتساءل عن نيات المخرج الخبيثة، الذي فضّل التكلم عن 1948 ليتجاهل احداث الانتفاضة الحالية. وكأن المخرج السينمائي، اذا كان اسرائيلياً، عليه ان يقدم تقريراً سياسياً وعسكرياً، ولا أدري فعلاً اذا كان هذا يكفي. الفيلم في الاخير يُنبئ بحال الجنون والاوضاع اللاعقلانية التي ستنتاب منطقة الشرق الاوسط بعد ولادة اسرائىل. فنحن اليوم امام وضع لا يريد احد فيه فهم الآخر او حتى التطرق لهذا النوع من التساؤلات. قد يكون من الضروري لا بل من الالزامي، للخروج من هذه الدوامة، ان يقدم الاسرائىليون اعتذاراً للشعب الفلسطيني عما ألحقوه به من تشريد وعن كل الاكاذيب التي افتروها بحقه، وكل الجرائم التي سببوها له، لكي يُعاد فتح حوار بين الطرفين. فعدم فهم الآخر لا يقتصر على العرب. وحتى غيتاي لم يستطع كتابة نص للشخصية العربية في الفيلم، فوضع في فم الفلاح الفلسطيني قصيدة لسميح القاسم تبدو لكل من يفهم لغة الضاد جد اصطناعية. يبقى ان الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي اخذ يحول الاسرائىليين والجاليات اليهودية في العالم نحو اليمين واليمين المتطرف، ليس فقط في ما يخص الشرق الاوسط، بل حتى في ما يتعلق بمسائل الحقوق المدنية او التسلح او البيئة، وأخذ يبعد العرب اكثر وأكثر عن الحداثة وحتى عن العالم. في بيروت، يقوم الرئىس النمسوي السابق كورت فالدهايم بزيارة خاصة، والترحيب الاعلامي به يعيدنا الى زمن الخمسينات والستينات عندما كان شعار العرب عدو عدونا صديقنا. فالضابط النازي الاسبق الذي لم يستطع يوماً تكذيب هذه التهمة يُستقبل كبطل معاد لاسرائىل. حتى جريدة "النهار" العقلانية غاصت في ارشيفها واستخرجت صورة له مع صاحب الجريدة الاستاذ غسان تويني!