خلال جولة الرئيس الأميركي بوش الابن على المانياوروسيا وفرنسا وايطاليا عادت إلى البروز، بعد أن توارت خلال السنتين الماضيتين، تلك الموضوعات التي انتشرت قبل عشر سنوات اثر انهيار الاتحاد السوفياتي لتؤكد من جديد أن روسيا وأوروبا أعلنتا الاستسلام. ولكن لماذا الاستسلام مرة أخرى إن كان قد تحقق منذ عشر سنوات وخلالها؟ والغريب أن هذا النَفَس لا تلمسه في ما يكتب في أميركا نفسها أو في أوروبا عن العلاقات الأميركية الأوروبية مثلاً. ففيما حسمنا عندنا أن أوروبا "عاجزة" وغير قادرة على معارضة أميركا، نجد ثلاثة تعليقات في "الهيرالد تريبيون" وفي صفحة واحدة بتاريخ 27/5/2002، ومع زيارة بوش لفرنسا، تتحدث كلها عن أزمات في العلاقات الأميركية - الأوروبية، وبعضها وصل إلى حد التشاؤم من إمكان التوصل إلى حلول، بل حتى مادلين أولبرايت، وزير الخارجية الأميركية السابقة، راحت تحذر من عواقب السياسات الأميركية الراهنة ازاء العلاقة بأوروبا. حقاً تكشفت زيارة بوش لروسيا، وما وقع من اتفاقات، عن تراجعات روسية، خصوصاً بالنسبة إلى الإقرار بمصالح أميركية في بلدان آسيا الوسطى مع بقاء التحفط في موضوع القواعد العسكرية. ولكن هذا لم يحصل إلا بعد مدافعة وممانعة دامتا عشر سنوات، ومن ثم لا يمكن القول ان شهر العسل الحالي سيدوم طويلاً، أو القطع باستسلام روسيا وانتهاء دورها، أو ان الصراع داخل روسيا حسم في مصلحة الاتجاه "المؤمرك والمتصهين"، وان الاتجاه الآخر، أو الاتجاهات الأخرى، فقدت إمكان العودة مرة رابعة أو خامسة لمراعاة مصالح روسيا. لعل السؤال الأهم بعيداً من التفاصيل هو كيف يمكن قراءة العلاقات الدولية على ضوء تجربة العشر سنوات الماضية، وحتى على ضوء التجربة خلال عهد بوش الابن، بما في ذلك بعد 11 أيلول سبتمبر حتى اليوم؟ أولاً يجب أن نفرق بين كون أميركا أقوى دولة اذا قورنت ثنائياً مع اية دولة اخرى، وكونها المتحكمة في ما يجري من صراعات دولية او اقليمية، أو القادرة على فرض املاءاتها. والدليل أنها منذ 1995 لم تعد قادرة على فرض ارادتها في مجلس الأمن في أغلب الأحيان، أو كانت تحتمي فيه بالفيتو، وهذا لا يعني القدرة على الاملاء، وإنما القدرة على التعطيل والتخريب. أما على مستوى المؤتمرات الدولية، فكان حالها ولم يزل أقرب إلى العزلة والضعف. فانسحابها مثلاً من مؤتمر ديربان لمناهضة العنصرية أو من الاتفاقات الدولية المتعددة، أو التهرب من مواجهة الجمعية العامة لهيئة الأمم تشكل دلائل قاطعة على وضع دولي لا ينطبق مع موضوعات "أميركا المتحكمة في العالم وصاحبة القول الفصل"، بل هو أكثر انطباقاً على الموضوعة القائلة: "أميركا المتمردة على الإرادة الدولية"، والمخربة لعالم يمكن أن يصل بالحوار والطرق المتمدنة إلى اتفاقات دولية تحافظ على البيئة والسلم والأمن العالميين والتعاون المثمر بين الدول والشعوب. ثانياً، يجب أن نفرّق بين علاقات دولية معقدة ومركبة تتداخل فيها الصراعات والمدافعة والممانعة بالمساومات والتفاهمات والتوافق والتصالح، كما هو الحال في أغلب علاقات أميركا الدولية من جهة، وعلاقات مرحلة الحرب الباردة من جهة أخرى، ذات المسارات المتناطحة أو المتواجهة مواجهة خنادق من دون كل منها الحواجز الشائكة. ولهذا فإن كل قراءة للوضع الدولي عموماً ولعلاقات أميركا بأغلب دول العالم يجب ان تنطلق من ملاحظة التعقيد والتداخل وتبتعد عن التبسيط والأحكام القطعية التي ترى الدول، كبيرها وصغيرها، تحت امرة أميركا. إن الإشكال الحقيقي في تحليل الأوضاع منذ انتهاء الحرب الباردة ينشأ من التبسيط في إصدار الاحكام حول "العجز" عالمياً أو عربياً في مواجهة أميركا. فيعامل العجز بصورة مطلقة أو شبه كاملة، ولا يرى اليه ضمن نسبية معينة. أي إما نرى قوة عظمى تتحدى أميركا وتسدد لكمة بلكمة، وإما ان تكون مستسلمة تُركل بالأقدام الأميركية. فأين الحالات التي بين بين، أو الحراك وفق ظروف متغيرة. فعلى سبيل المثال، كيف نفسر حالة ديك تشيني "صقر الصقور" عندما جاء إلى المنطقة ليأمر "الدول العاجزة" أن تدعم ما يُعد لحرب ضد العراق، فعاد بخفي حنين، عدا قرار الاجتياح الذي اتفق عليه مع شارون - اليعيزر - بيريز، وهو دليل آخر على مواجهة أوضاع افلتت من اليد، وراحت تتهدد الاحتلال بهزيمة شبيهة بتلك التي واجهها في جنوبلبنان. عشر من السنوات مرت وتلك الموضوعات تتلقى الصدمات والفشل وصولاً إلى اضطرار أميركا الى اعلان الحرب على العالم على أمل اخضاعه بعد أن أفلت وعجزت عن التحكم في مساراته. لكنها عادت بعد 11 أيلول لتتحدث عن متغيرات كلها في مصلحة أميركا، وتدعو دولنا وشعوبنا إلى الرضوخ والتسليم. ووصل الأمر إلى التشديد على أن الشعب الفلسطيني هزم، ويجب على الفلسطينيين أن يقروا بالهزيمة ويوقعوا على شروط الاستسلام كما يقتضي "العقل والعقلانية وموازين القوى". أما العجيب فترديد هذا الكلام في منطقة أفشلت تسوية رعتها أميركا ووضعت كل ثقلها لانجاحها. ولم تقلع "شرق أوسطية" شحنت بطاقة دفع أقوى من الطاقة التي يقلع فيها صاروخ متجه إلى المريخ، بل ها هنا تلقت أميركا هزيمة سياسية قاسية، وهي ترى الجيش الإسرائيلي ينسحب بلا قيد أو شرط من جنوبلبنان. كيف يمكن أن يحدث هذا لو كان العالم كله والوضع العربي بأجمعه طوع بنان أميركا، أو لو كانت أميركا متحكمة فعلاً في مجريات الصراع؟ ثم كيف يمكن أن تندلع الانتفاضة وتتصاعد المقاومة ويرتفع مستوى الصمود في فلسطين وينتفض الشارع العربي والإسلامي بما يشبه ثورة في الوعي والحراك والتحدي واندفاع الأجيال الصاعدة حول قضية فلسطين وبطولات شعبها وتضحياتهم، وكيف تهتز صورة أميركا والدولة العبرية أمام التظاهرات التي عمت العالم، وكيف اهتز الرأي العام الغربي في نظرته إلى الدولة العبرية إذا كانت أميركا والمتغيرات العالمية بعد 11 أيلول على تلك الصورة التي يرسمونها؟ لقد احتاجت أميركا بعد 11 أيلول إلى إعلان حرب على العرب والمسلمين والفلسطينيين والاسلام، ولن تجد لذلك تفسيراً أبداً في موضوعات العجز والاستسلام، أو أميركا المتحكمة في العالم والوضع العربي، وإنما التفسير الممكن هو في الفشل الأميركي والسعي لاستعادة زمام المبادرة ومنع انهيار الاحتلال في الضفة والقطاع الفلسطينيين وتدهور نفوذها وهيبتها في المنطقة حتى انتشرت مقاطعة بضائعها انتشاراً يجب أن يذهلها. وإلا كيف تفسر الحرب الإعلامية التي شنت على السعودية ومصر، والتهديدات ضد سورية ولبنان والإعداد لضرب العراق وتشديد الضغوط على اليمن والسودان والصومال؟ ثم لماذا حرب الاجتياح على المدن والقرى والمخيمات؟ فهذه الحرب إن دلت على شيء، فإنما تدل على ما هو عكس تلك الموضوعات. فالحرب لا تشن على خاضع ومستسلم، ولا تشن إلا بهدف تكسير رؤوس "حامية" أو نصف أو ربع "حامية". على أن أخطر ما يجتاحنا من ذلك النهج أنه عاد بعد الاتفاقيتين البائستين اللتين عرفتا باتفاقية فك الحصار عن الرئيس الفلسطيني وكنيسة المهد، ليشدد على أن "الشعب الفلسطيني هزم" وحلت "كارثة جديدة" بسبب الانتفاصة والمقاومة والصمود ومواجهة الاجتياح، ومأثرة مخيم جنين، وتهيؤ قطاع غزة لقتال عنيد فبدلاً من أن يُرى الاجتياح في طريقه إلى الفشل، ما استمر الصمود الشعبي وبقيت المقاومة ولم ترفع راية الاستسلام، وبلا حاجة إلى هزيمة جيش الاحتلال عسكرياً، كما هو الحال في الحروب التقليدية، وبدلاً من نقد الوضع القائم الذي نجم عن الاتفاقيتين المذكورتين، وهو الدعوة إلى وقف المقاومة والغرق في موضوع "اصلاح السلطة"، فيما جيش العدو يواصل الاجتياح والاغتيالات والاعتقالات وهدم البيوت ومصادرة الأراضي وإقامة المعازل واذلال الناس على الحواجز. بدلاً من هذا وذاك، تصرفت قيادات فلسطينية وعربية بعقلية المهزوم من دون أن تقع هزيمة. وبنفسية المأزوم فيما الأزمة عند شارون واليعيزر وبيريز في مواجهتهم لشعب لا يستسلم، وفيما أميركا ارتكبت أمام العالم ما ارتكبت في شهر نيسان ابريل الماضي. فالشعب الفلسطيني لم يهزم وليس بمأزوم وإن حرم من أن يجترح نصراً كاد يقع بين يديه. ومن يشك في ذلك فليراجع سلسلة من المقالات في الصحف الإسرائيلية ذهبت إلى الحديث عن هزيمة الاجتياح، وبمعان متعددة. إنها القيادة الإسرائيلية وحدها التي تحاول اقناع نفسها بجنها "انتصرت" وهي تعلم أنها لا تستطيع أن تتحدث عن "انتصار" وغزة ما زالت صامدة وكل الضفة قادرة على الوثوب من جديد، في ما لو صُحح الموقف، وتم الايماء بإشارة ولو من دون حاجة إلى قرار. هذا ولا يحق لبوش أن يتغطرس حين يرى مخيم جنين الواقف بين الانقاض يرد عليه معونته ويستقبل ممثليه بالبيض الفاسد. بكلمة، كل حديث عن "هزيمة الشعب الفلسطيني" ظلم فظيع وأكذوبة كبرى.