اميركا المنتفخة عضلاتها العسكرية، كما تجلت في افغانستان، تسعى لاستخدامها في أماكن أخرى. ولا تخفي التهديد باللجوء اليها. وقد جعلتها المعيار الوحيد لإعادة صوغ علاقاتها بالعالم. فهي تطالب أوروبا بقبول زعامتها المطلقة وليس مجرد إقرار بزعامة ضمن امتلاك أوروبا حق الفيتو كما هو الحال في حلف شمال الأطلسي الناتو. وتحاول ان تفرض على روسيا ابتلاع اقامة قواعد عسكرية في كل المناطق التي كانت تعتبر جزءاً من أمنها القومي. وكذلك تفعل بالنسبة الى الصين. اما الدول الأخرى، لاسيما العربية والإسلامية، فتسعى الى محو كل هامش استقلال تمتعت به يوماً، بما في ذلك شؤونها الداخلية أو سياستها الخارجية خصوصاً إزاء الدولة العبرية والقضية الفلسطينية. اما المعاهدات الدولية، والقوانين الدولية، والمنظمات الدولية ومنظومة حلف الأطلسي فلم تعد مناسبة وموازين القوى العسكرية التي في حوزة البنتاغون. وبكلمة، تسعى أميركا الآن لضرب كل التوازنات القائمة لتفرض على العالم توازنات جديدة. وتعتمد في هذا على تفوقها العسكري التدميري التقاني التكنولوجي الكاسح. ومن ثم بناء العلاقات الدولية كلها على أساسه. وبديهي أن يتبع ذلك فوراً، في حال تحققه، إعادة توزيع الثروة العالمية، والاقتصاد العالمي، وسائر المجالات الأخرى ومن ضمنها الثقافية، على أساس ميزان القوى العسكري الجديد كما تقرأه هيئة أركان الحرب في أميركا. وبهذا يكون العالم قد دخل لحظة اختلال التوازنات التي عاش عليها ردحاً من الزمان. ضمن هذا الاطار، أو المناخ، يمكن أن يلحظ، من بين كثير مما تتوجب ملاحظته، بروز ظاهرة ميل الدول المعرضة للضغوط الأميركية الى الاستجابة وتجنب المواجهة أو التصعيد مع اميركا. وذلك من خلال تقديم بعض التنازلات، والحرص على التهدئة لامتصاص الهجمة، ولكن مع الهروب من تلبية كل ما هو مطلوب منها. أي المراوغة قدر الامكان، لأن ما تطلبه أميركا من تبعية كاملة فوق ما يمكن أن يُقبل به، أو يُحتمل. بيد أن إدارة بوش مصممة عليه، وهي تقعقع بالسلاح، وقد راحت تفيد من كل تنازل، أو انحناءة، لطلب المزيد. فضغوطها متلاحقة باتجاه الهدف. الأمر الذي يؤدي الى انشغال الدول الكبرى ببعضها، والى اضطراب عام وفوضى عالمية. فالعالم يواجه اليوم معادلة صعبة ومعقدة، ولم يحسم مستقره بعد. ومن ثم لا يحق للتحليل الصحيح ان يرى الوضع العالمي متجهاً الى الاستسلام لأميركا، أو يحسب السياسة الأميركية ماضية من نصر الى نصر. انه وضع عالمي متعرج الاتجاهات يقف عند مفترق طرق، وحمّال أوجه، وله أكثر من خيار واحتمال عند كل منعطف وفي كل حالة. لكن الشيء الأكيد ان في رأس إدارة بوش غلواً، وكل غلو ضعيف. فكيف حين يكون غلواً ما بعده غلو. وكيف حين تتحدى دولة منفردة العالم كله، وبعضلاتها العسكرية، وبلا حكمة ولا اتزان. ومن هنا فإن ثمة فرصاً أمام الدول لتكسر هذه الهجمة اذ يتعاظم الاعتراض عليها. والأهم، ثمة فرص أكبر أمام حركات الاحتجاج الشبابية والنخب الحساسة إزاء الظلم لتنتقل الى ظل هذا الارتباك الدولي، في مواجهة السياسات الأميركية المجنونة التي تريد تغيير العالم والانسان عكس الطبيعة والسنن، أي عكس مصالح الدول والشعوب وتطلعاتها. وها هي ذي الحركات الاحتجاجية الشبابية التي عارضت السياسات الأميركية - الأوروبية - اليابانية تستدرك المتغير الجديد لمواجهة العسكرة التي تنفرد أميركا في فرضها على العالم. فقد أصبح الاعتراض على السياسة الأميركية الراهنة ظاهرة عالمية لدى الرأي العام في أغلب بلدان العالم مما سيتحول، بالضرورة، الى ألوان من الممانعة العملية. وباختصار، وضع دولي مرتبك بانشغالات الدول الكبرى في ما بينها، وبهجمات أميركية على العالم تتفاقم عزلتها، أو تفرّدها، وتزداد الممانعة ضدها بما يتيح الاختراق الفلسطيني باتجاه فرض هزيمة الاحتلال. والى جانب ذلك وضع اسرائيلي مختنق واستراتيجية عسكرية فاشلة قادها ليكود والعمل في آن واحد. أما في المقابل فشعب فلسطيني تجاوز مرحلة الدفاع وانتقل الى الهجوم مصمماً على الانتصار، ويمكن الركون الى صموده مهما كانت قسوة ردة الفعل الأخيرة من قبل شارون - اليعيزر - بيريز - موفاز. اما أميركا إزاء ذلك كله ففي حالة شلل وهي ترى من وضعت كل بيضها في سلته يعاني من سكرات الانهيار. هذه المعادلة هي ما يحسن ان تقرأها القمة العربية القادمة في بيروت وترتفع بقراراتها الى مستواها. فالوضع العربي لا يواجه هجمة تتهدد سيادة دوله واستقلالها وتفترض من قمته التضامن للدفاع عن المصالح العربية العليا فحسب، وانما يواجه ايضاً حالة فلسطينية تريد الانتصار وتخوض حرباً قاسية لا تقبل بعد كل التضحيات بأن تُجهض، والعدو يكاد يلوذ بالفرار. ولذا ما على القمة العربية إلا أن تلتقط الوضع بكل أبعاده، فلا تسمح بأن تُدفع للتصرف بروحية المهزوم، أو العاجز. وما ينبغي لها أن تعامل الشعب الفلسطيني معاملة المسكين الواقع تحت الويلات وانما معاملة الشعب الذي اختار طريق الصمود والانتفاضة والمقاومة، ويريد من القادة العرب ان يدعموه في إصراره على دحر الاحتلال بلا قيد أو شرط. اما العقلانية والاعتدال فلا ينقص الدول العربية منهما شيء حتى تُنصح بهما، وانما النقص يكمن في إدراك مكامن القوة في الوضع العربي والفلسطيني ومكامن الضعف في الوضع الصهيوني والموقف الأميركي. وبهذا يأتي انعقاد "المؤتمر العربي العام الثاني" في 14-15/3/2002، في بيروت، والذي يضم المؤتمر القومي العربي، والمؤتمر القومي - الاسلامي، ومؤتمر الأحزاب العربية، ويشارك فيه عدد كبير من الشخصيات السياسية والعلماء والمفكرين والأدباء والإعلاميين والنقابيين والحركات الشبابية، تحت شعار "من أجل قمة عربية تدعم الانتفاضة والمقاومة وتواجه التهديد والعدوان"، ليسهم من جهة في تعزيز تصميم الشعب الفلسطيني على الصمود والانتصار، ومن جهة أخرى، في التوجه الى القمة العربية لدعم الانتفاضة والمقاومة وتعزيز الموقف العربي لمواجهة ما يتعرض له من تهديد وضغوط وعدوان.