أغلب الظروف والمعطيات الراهنة، اسرائيلياً وفلسطينياً وعربياً ودولياً، تلوح بأن من الممكن للشعب الفلسطيني ان يجترح نصراً بدحر الاحتلال، بلا قيد أو شرط، ولو جزئياً: عن قطاع غزة بأكمله، وأجزاء من الضفة الغربية عدا منطقة القدس وبعض النقاط العسكرية مذكرة الجنرالات السابقين، ومن بينهم ايهود باراك. أما الدليل فيكمن في الوقائع التالية: فشل استراتيجية شارون - اليعيزر - بيريز - موفاز، ومن ورائهم دعم الادارة الاميركية، في "تحقيق الأمن لاسرائيل" أو القضاء على انتفاضة الشعب الفلسطيني ومقاومته وصموده، ثم بداية الزعزعة في نظام الجيش من خلال تفشي ظاهرة امتناع ضباط وجنود من الاحتياط عن الخدمة في الضفة والقطاع، ثم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية العامة: الركود الاقتصادي، هروب الاستثمارات، زيادة البطالة، تجنب الأماكن العامة، ارتفاع منسوب السياحة الى الخارج والهجرة المضادة. فالقاعدة التي تقول ان الصراع لا يحل بالقوة العسكرية انما تنطبق على جيش الاحتلال، ولكنها لا تنطبق على مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال. وكان ذلك هو القانون في كل حالات الاحتلال ومقاومته. فالقوة بالنسبة الى قوات الاحتلال تستهدف نصراً ميدانياً - أمنياً، فإذا لم تنجح تصبح حرباً عابثة، فيما القوة بالنسبة الى مقاومة الشعب تستهدف القدرة على البقاء، وجعل استمرار الاحتلال والبطش مكلفين من كل الأوجه، وبلا أمل في النجاح. والآن، لنضع كل ذلك جانباً، لكي نناقش سوء تقدير الموقف من قبل الذين يعلقون أملاً على مهمة الجنرال انتوني زيني بتحقيق التهدئة الخادعة، والعودة الى المفاوضات، فأية حجة يمكن ان تدعمهم؟ منذ مؤتمر مدريد حتى اليوم، وعلى رغم تجربة المفاوضات التي فشلت ووصلت الى الطريق المسدود، ما زال قادة اميركا وأوروبا وروسيا، والعشرات من قادة الدول، اقليمياً وعالم ثالثياً، يرفعون شعاراً وحيداً: "وقف العنف من قبل الطرفين والأخذ بخطة تينيت التي املاها شارون والعودة الى طاولة المفاوضات". الأمر الذي يفترض التساؤل: على أي اساس يأملون ان تنجح المفاوضات حيث فشلت في ظروف كانت اكثر مواتاة لها؟ وكيف يسقطون أسباب فشل المفاوضات على المسارين السوري واللبناني، والأهم تناسيهم لتجربة المفاوضات المصرية - الاسرائيلية، حيث كان مصيرها الى فشل محتوم لولا الضغط الذي مارسه الرئيس الاميركي جيمي كارتر على مناحيم بيغن وحكومته حتى أمكن انتزاع اتفاق كانت اميركا بحاجة اليه في حربها الباردة ضد الاتحاد السوفياتي... الأمر الذي يسمح بالقول ان التجربة المصرية في التفاوض اشترطت ضغطاً اميركياً حازماً على الدولة العبرية. وبكلمة، لا يستطيع أحد ان يتهم قادة اميركا وأوروبا وروسيا بأنهم يجهلون هذه الحقيقة. فهم جميعاً يعملون، اكيد العلم، ان المفاو ض الاسرائيلي متطرف في مطالبه، ومغالٍ في اطماعه، ومتغطرس في قوته، وغير عقلاني في المساومة ولا يُنتزع منه شيء الا وأنفه راغم كما حدث في لبنان، ويمكن ان يحدث الآن في فلسطين، أو تحت الضغط الجاد والشديد من قبل اميركا. ومن ثم اذا كانت الحقيقة القائلة ان "العودة الى طاولة المفاوضات" ستفضي الى فشل مؤكد ما لم يصحبها ضغط اميركي يعيد المفاوض الاسرائيلي الى بعض توازنه، ويجبره على تخفيف غلوائه على رغم انه لا يعطي الا مما اغتصب أو احتل، واذا كان هذا الضغط غير وارد، كما دلت تجربة السنوات العشر الماضية، وعلى كل الجبهات، وكما تؤكد التجربة مع ادارة جورج بوش الابن، حتى على مستوى الحد من مجازر ارتُكبت حتى لذاتها، فإن المعنى الأول للاصرار على "العودة الى طاولة المفاوضات" يستهدف كبت مقاومة الاحتلال، واخراج الدولة العبرية من مأزقها الحالي، واستدراج المزيد من التنازلات الفلسطينية والعربية. واذا قُصد التوصل الى "نجاح المفاو ضات"، فالاعتماد على الطرف الفلسطيني والعربي ليقبل بما لم يقبل به من قبل. هذه الحقيقة الأخيرة هي التي يجب ان توضع نصب الأعين، وان يُجبه بها كل من يظن بالعودة الى المفاوضات "خيراً"! اما بالنسبة الى اميركا التي تعرف ماذا تريد فإن الجواب بسيط: المطلوب الآن تهدئة، وبأية وسىلة، والعودة الى المفاوضات من خلال دغدغة الوضع الفلسطيني والعربي بآمال تحملها الرياح لحين تصفية الحساب مع العراق. وبعدئذ سيصفى الحساب مع الجميع بعيداً من كل ما يقال ويشاع. أفلم يحدث مثل هذا الوضع بالضبط، عند التحضير لشن العدوان على افغانستان، وبعده. صُفيت حسابات مع من حولها، وقد نُسيت كل الوعود التي اعطيت لروسيا وباكستان، على سبيل المثال لا الحصر. والكل يمكنه أن يتذكر تلويح بوش بالدولة الفلسطينية، وارسال الجنرال انتوني زيني للتهدئة؟ فهل من يعتبر فلا يُلدغ من الحجر نفسه مرتين. ويعزز ما تقدم اضطرار نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، على غير ما كان في برنامجه، إلى دعم زيني من أجل التوصل إلى وقف النار وتطبيق خطة تينيت، ليؤكد على الأولوية التي تعطيها الولاياتالمتحدة لشن عدوان عسكري على العراق، وهي أساس زيارة تشيني للمنطقة. أما القبول بما أخذ يصدر من نفي لذلك فقد يفسر جولة نائب الرئيس الأميركي. بل لعل تواتر التصريحات من قبل مسؤولين أوروبيين التقوا تشيني وكولن باول أخيراً حول عدم وجود قرار، أو توجّه، لضرب العراق، يجب أن ينظر إليه بحذر شديد، بل هو تثبيت للاتجاه نحو الحرب. وهكذا يلتغي الوقوع، مرة أخرى، في الخداع الذي تحمله مهمة زيني سواء كان على مستوى اجهاض انتصار ممكن أصبح قريباً من متناول الشعب الفلسطيني، أم كان بالنسبة إلى التهدئة المطلوبة فلسطينياً من أجل تمييع القمة العربية، والتهيئة للحرب ضد العراق، مع الوقوع في الوهم الذي يتضمنه التلويح بدولة فلسطينية قرار مجلس الأمن الذي بادرت به أميركا، الرقم 1397، بدلاً من الانسحاب الكامل وتفكيك المستوطنات قبل أي حديث عن "دولة فلسطينية" أو "عودة إلى المفاوضات" أو "حل القضية الفلسطينية". ولا يخفى الفارق الواسع بين تقديم موضوع الدولة واحالتها إلى المفاوضات، وتأخير موضوع انهاء الاحتلال وتفكيك المستوطنات أو اخضاعها للمفاوضات المتعلقة بالدولة، كما هو الشأن بالنسبة إلى حق العودة. هذا، ولا يفكر أحد أن حديث الدولة أو قرار 1397، غائم وغامض ومدغول، ويخضع للمفاوضات والمساومات التي تمس الأرض والحقوق وحتى القدس والمسجد الأقصى، فيما الحديث المدعوم بالانتفاضة والمقاومة وصمود الشعب الفلسطيني والدعم العربي والإسلامي شعبياً ورسمياً من الاحتلال والانتهاء منه، ومن كل تداعياته، باعتباره الأولوية التي تمتاز بالواقعية والراهنية ولا تقبل التسويف، ولا تخضع للمساومة، لأن الاحتلال يجب ألا يكافأ ولا يفاوض على "حقوق" يدعيها، وذلك بكل المقاييس والأعراف والمواثيق والقوانين الدولية، ناهيك عن الثوابت الفلسطينية والعربية والإسلامية. والأهم ذلك الثابت المستجد في مزاج الشعب الفلسطيني، والمكوّن مما قدم من تضحيات وحقن من صمود وانزل من ضربات بقوات الاحتلال وأفشل من محاولات قهره واخضاعه وقد وضع نصب عينيه نصراً يؤكده مأزق الدولة العبرية المتعدد الأوجه والأبعاد. من هنا ثمة حاجة أصبحت أشد الحاحاً من ذي قبل إلى انزال موضوع الدولة الفلسطينية من موقع الأولوية، وإلى تركيز الضوء والتحريض والعمل على إشكالية الاحتلال وقضية الشعب الذي يقاوم الاحتلال. ويبدو أن كثيرين غفلوا عن أهمية إعادة تعريف "الحقوق" التي يمتلكها الاحتلال وحقوق الشعب الذي تحت الاحتلال، أو الميزات التي تتوافر في التركيز على الاحتلال وحق الشعب في مقاومته، لضبط الخطاب وإدارة الصراع، على كل الصعد، وفي اللحظة الراهنة، عند مواجهة السياسات الأميركية من زيني إلى بوش.