فشلت زيارة ديك تشيني، نائب الرئيس الأميركي، الى تسع دول في المنطقة، وقد استهدفت كسب تأييدها لشن حرب أميركية على العراق. وكلل ذلك بقرار عربي اجماعي في قمة بيروت رفض بجزم أي عدوان على العراق أو أية دولة أخرى. والأنكى على الأميركان ما حدث في القمة العربية من مصالحة سعودية - عراقية، ومصالحة، في الطريق، عراقية - كويتية، وهما أقسى ضربة للاستراتيجية الأميركية. وعلى رغم إشادة الرئيس الأميركي بمبادرة الأمير عبدالله، ولي العهد السعودي، وتبني القمة العربية للمبادرة، إلا أن كل ما ورد في "بيان بيروت" وقرارات القمة عدا بند "إقامة علاقات طبيعية عربية" مع الدولة العبرية بعد الانسحاب الكامل إلى خطوط الرابع من حزيران يونيو 1967 وعودة اللاجئين، مرفوض، وبشدة، أميركياً وإسرائيلياً. والأهم ان الإدارة الأميركية لا تسمح لنفسها أن تُجر في هذه المرحلة إلى احياء مشروع تسوية وتتخلى عن زخم استراتيجيتها التي أطلقتها بعد 11 أيلول سبتمبر 2001، وراحت تهيء للمرحلة الثانية للحرب بعد أفغانستان، أو تهدئ الحملة الإعلامية التي شنتها على السعودية ومصر وسورية ولبنان والوضع العربي عموماً. لأن التحول إلى اطلاق مشروع للتسوية يقتضي كسب التأييد العربي والإسلامي، ومن ثم عدم تحقيق ما استهدفته تلك الحملة. أما من جهة أخرى، فقد اصطدم الجنرال انتوني زيني، الذي تلاعب في أثناء زيارة تشيني للدولة العبرية، بخطة تينيت، عندما لم يوافق على كل ما جاء في الورقة التي قدمها للرئيس الفلسطيني، لأن الموافقة عليها برمتها تعني الاستسلام الكامل. أي تحقيق الهدف الذي سعى إليه شارون - اليعيزر - بيريز - موفاز منذ تشكيل حكومة الائتلاف أساساً بين حزبي ليكود والعمل، أي إقامة سلطة انطوان لحد في فلسطين. ويجب أن يضاف فشل استراتيجية اقتحام المخيمات واحتلال رام الله وتطويق مقر الرئيس الفلسطيني ليس من زاوية اعتقال مطلوبين مهمين فحسب، وإنما، أيضاً، في وقف العمليات العسكرية، أو الحد منها، أو حتى جعلها ضمن الحدود السابقة للهجوم، ومن ثم اخضاع الشعب الفلسطيني واخافته. شكلت كل هذه الوقائع الخلفية التي دفعت أميركا إلى دعم الهجمة العسكرية الإسرائيلية الراهنة، وعلى المكشوف. ولا يغير هذه الحقيقة تلويح الرئيس بوش بضروة إقامة دولة فلسطينية أو عدم اعتبار ياسر عرفات ارهابياً حتى الآن. بل ان هذا التلويح هو في خدمة الحملة العسكرية، كما ان عدم قطع كل الخيوط مع الرئيس الفلسطيني يرمي إلى تسهيل الحصول على توقيعه، وهو تحت التهديد بالقتل أو النفي، على ورقة زيني. ولهذا لم يخطئ من اعتبر الهجمة الجديدة، الأوسع نطاقاً والأشد تدميراً، هي الرد الأميركي على الموقف العربي والفلسطيني من دون أن ننسى مأزق الاحتلال وحاجته إلى الانقاذ. والأهم النظر إلى الحرب الراهنة باعتبارها المرحلة الثانية من الحرب العالمية التي تشنها أميركا على العالم، ابتداء بالعرب والمسلمين. لا شك في أن ما حدث الآن من هجوم عام مضاد على الشعب الفلسطيني، رئيساً وقيادة ومقاومة وانتفاضة، يمثل خطوة غير مسبوقة. من حيث الحجم والكثافة والاتساع، منذ اندلاع الانتفاضة حتى اليوم. فالجيش الإسرائيلي أخذ باستدعاء عشرات الألوف من الاحتياط، وأقحم كل قواته في المعركة. وراح يهدد بتوسيع الحرب إلى لبنان وسورية. ولكن أي نصر يريد أن يحقق، والنصر العسكري لا معنى له ما لم يتحقق "نصر سياسي"؟ ذاك أن المناطق من الناحية العسكرية، في حكم الساقطة، أو تحت متناول الجيش أصلاً. وإذا لم تحتل سابقاً فليس لعدم قدرة عسكرية وإنما لأسباب سياسية قطعاً. فإعادة الاحتلال لا يسجل "نصراً" على التأكيد. أما "النصر السياسي" فيتمثل بفرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني وقياداته في آن واحد، الأمر الذي يعني أنها حرب ارادات ومعركة سياسية قبل أن تكون حرباً عسكرية. ومن ثم ليس المطلوب من الفلسطينيين، والحالة هذه، غير الصمود والعناد وعدم السماح بكسر ارادتهم السياسية. أما من الناحية العسكرية فليس المطلوب انزال هزيمة ميدانية بالجيش الإسرائيلي أو منعه من التقدم شبراً واحداً، وإنما تقليل الخسائر قدر الإمكان من ناحية الاعتقالات، مع استدامة الانتفاضة والمقاومة واثبات القدرة على البقاء، اي الاستمرارية، ولو بحدود، لإبقاء الاحتلال تحت الأزمة والتهديد. وهذا في اليد، وبالطبع ثمة ما هو اكثر منه كما ثبت حتى الآن، الأمر الذي يسمح بالقول ان "النصر الاسرائيلي - الاميركي" غير ممكن مع الشعب الفلسطيني من هذه الزاوية. ولنفترض الأسوأ: احتلت المناطق، وحدث الكثير، أو الهائل، من الدمار والاعتقال والقتل، وبقي الرئيس الفلسطيني مهدداً بالعزل أو النفي، واعتقل عشرات الآلاف ووقعت خسائر في قيادات وكوادر نشطة ومهمة في الانتفاضة والمقاومة. ثم ماذا بعد؟ انتظار رفع العلم الأبيض واعلان "التوبة" من قبل الشعب الفلسطيني؟ وهذا غير ممكن ولم يحصل عندما كان تحت الاحتلال المباشر بعد 1967، وكم قُتل واعتُقل ونُفي من قياداته وكوادره حتى قيل "لم يبق أحد"؟ فالشعب الفلسطيني لا يستسلم وكان ولاّداً للكوادر القيادية وللمقاومين الأشداء، ولم يزل وسيبقى، وبصورة سريعة، واحياناً فائقة السرعة. وثمة سمة رافقت كل استشهاد كبير منذ استشهاد عزالدين القسام الى يومنا هذا، اذ لحقه مدّ أكبر من سابقه. واحياناً كان الوضع في حالة جزر فينتقل الى المدّ والفوران بعد ذلك. ولهذا يجب ان تتوارى عقلية التهويل واثارة المخاوف مما يجري ليحل مكانها أولاً الثقة بفشل هذه الهجمة، وثانياً بإمكان التحول الى انتصار فلسطيني. ولا حاجة الى التذكير بالتحليلات التي قالت مع بداية الانتفاضة ان الشعب الفلسطيني "لا يستطيع ان يستمر بانتفاضته اكثر من اسبوعين"، ثم مددت المهلة الى شهرين ثم نسي الموضوع. ولا ضرورة الى التذكير، بعد ان كثرت اغتيالات الكوادر، بما قيل عن خلو الساحة من القيادات الميدانية المجربة. ولكن النتيجة كانت عكس ذلك حتى أصبح جنرالات الجيش الاسرائيلي يتحدثون عن تحسن الأداء العسكري للمقاومة. ولا تسل عن تحول الظاهرة الاستشهادية من حالة فردية محصورة ببضع عشرات الى ما يشبه الحالة العامة بين الشباب، وقد دخلت عليها الفتيات كذلك. وصحب كل هذا في الساحة الفلسطينية تبدد ما قيل عن موت الشارع العربي، أو لامبالاته بما يجري في فلسطين. فردود الفعل الشعبية العربية التي رآها الجميع وسمعوها من خلال ما نقلته أقنية التلفزة من تظاهرات، وهي أقل بكثير مما حدث فعلاً، اتسمت بالغضب الشديد، واندفعت ليس للتضامن مع الشعب الفلسطيني فحسب، وإنما أيضاً تشاركه في المعركة. ولكم عبر العشرات، فتياناً وفتيات، وشباباً وكهولاً، ممن وصلهم المذياع وسلطت عليه الصورة، عن رغبتهم في أن تفتح الحدود أمامهم، تصدقهم دموعهم في المآقي وحشرجات شهقاتهم في الحناجر. فما العمل مع هذه الأمة يا سيد جورج بوش لو كنت ممن يعقلون؟ وهذا سؤال لا يوجه للقادة الإسرائيليين والتجربة معهم مديدة في اللاعقلانية. ومع ذلك سيظل جورج بوش يصب الزيت الذي يحمله له رامسفليد وتشيني على النار. وهذا ليس بالشيء السيء لمن يريد لأميركا الامبراطورية الاستعمارية أن يكثر اعداؤها، ويقل أصدقاؤها، حتى تنضج للهزائم، أو لمن يريد للعرب والمسلمين صحوة عامة ونهوضاً شاملاً، وللعالم خلاصاً من هذا الكابوس.