إرجاء الجيش الإسرائيلي حملته ضد مدينة نابلس الى المرحلة الأخيرة من حرب المدن لم يأتِ من فراغ. نابلس معروفة عند الفلسطينيين ب "جبل النار". عصيت على الاسرائيليين بحجارة أطفالها وشبانها على مدى سنوات الانتفاضة، وتجنب جنود الاحتلال على الدوام التوغل في أزقة بلدتها القديمة "القصبة". وفي جنين المنازل في المخيم تحترق وتجرف، الجرحى ينزفون على بعد خطوات من المشفى ولا يستطيع احد الوصول اليهم... والمقاتلون صامدون رغم "اوامر موفاز الصارمة" بوجوب اقتحام المخيم يوم الجمعة. وكان رئيس الاركان الاسرائيلي قصد امس جبهة "القصبة" في نابلس. مئات المقاتلين تحصنوا داخل "القصبة" التي تحمي حاراتها واحواشها ومنازلها سقوف حجرية مقوصة بنيت منذ عقود بعيدة لتشكل حاجزاً منيعاً أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية ودروعاً طبيعية للمقاتلين الذين يتمتعون ب "تفوق" محدود على القناصة الإسرائيليين. أما الدبابات، فصدتها غير مرة منذ ساعات الصباح ألغام أرضية بدائية صنعت محلياً ولكنها، كما قال المقاتل "مؤيد" ل "الحياة" تؤدي المهمة ولو مرحلياً، فيما تستكمل أزقة البلدة القديمة والمنازل المتلاصقة بقية هذه المهمة. وإزاء هذا الوضع، أمطرت المروحيات الحربية السوق الشرقية المكشوفة من الحي بالقذائف وأحرقت الحوانيت والمحال التجارية واكشاك الخضار والفاكهة وحولتها الى كتل سوداء. وفي المنطقة ذاتها، اقتنص رصاص المروحيات خمسة مقاتلين فلسطينيين، فيما سقط اربعة شهداء آخرون ثلاثة في مخيم بلاطة ورابع في مخيم عسكر الجديد. اصيب العشرات بجروح ولم تتمكن سيارات الاسعاف المفروض عليها منع التجول تماماً كباقي ال 180 الف مواطن في شوارع المدينة. وأكد مقاتلون ل"الحياة" انهم سيواصلون القتال والصمود في وجه القوات الاسرائيلية محذرين من ان هذه القوات تستعد لتنفيذ "مجازر للبيوت" التي تقف عائقاً بينها وبين المقاتلين. وحذروا من الدمار الذي يلحقه القصف الجوي بمعالم وآثار حضارة عقود للبلدة القديمة التي عملت مؤسسات ثقافية من بينها منظمة "اليونيسكو" على ترميم اجزاء كبيرة منها خلال السنوات القليلة الماضية. وتهاوى اول معلم حضاري تمثل في "الحمام التركي" القديم جراء القصف وسقطت حجارته على المنازل الملاصقة. أبعدت كاميرات الاعلام عن المشاهد المروعة في مخيم جنين وضاحيتي المراح ووادي عز الدين. طفلة المواطن عايش فريحات لم تتجاوز الثامنة، خرجت تحت وابل رصاص المروحيات بحثاً عن "قطرة حليب" في منزل الجيران المجاور بعدما علت صيحات الاطفال جوعاً وبعدما عجز الاب عن الوصول الى غرفة "المطبخ" لجلب أي شيء يروي به ظمأ صغاره. بيوت تحترق بفعل القصف أمام انظار طواقم الاسعاف المدني واطفاء الحرائق الممنوعة من الوصول اليها. خطوط الهواتف الارضية والخليوية مقطوعة ولا يدري الجار ما الذي آل اليه جاره المباشر. ومن موقعه المطل على "طلعة العطاري" المحاذية لمشفى الرازي في المنطقة الشرقية لجنين، اكد عدنان الصباح رئيس قسم الطوارئ في بلدية جنين انه يرى بعينيه ثلاثة جرحى ينزفون منذ ساعات الفجر "ولا نتمكن من الوصول اليهم". أكد انه تم الاتصال بالصليب الاحمر لمرافقة سيارات الهلال الاحمر الفلسطيني لإنقاذ الجرحى غير أن سيارته لا تزال محتجزة منذ يومين على مداخل المدينة ويرفض الجنود الاسرائيليون السماح لها بالمرور، و"هناك ثلاثة جرحى على الاقل داخل البلدة القديمة ومقاتلون اصيبوا واتصلوا بقسم الطوارئ يطالبون باخلائهم، ولكننا لا نستطيع الوصول اليهم، حاولنا الاتصال بأطباء لتوجيه تعليمات عبر الهاتف لانقاذ الجرحى، ولكن لا توجد ادوات ولا مواد طبية. أما مشفى الرازي نفسه فقد قصف الطابق العلوي فيه ودمرت محوّلات الكهرباء والماء فيه. ويعمل المشفى بطاقته الادنى مستمداً طاقته من محوّلات ضعيفة تقطع عن باقي اقسام المشفى في كل مرة يضطر فيها الاطباء الى اجراء عمليات جراحية. وقال الصباح: "بشقّ الانفس وصل 15 جريحاً، عدد منهم بترت ارجلهم او ايديهم، رأيت احد الجرحى وقد بترت ساقه واصيب برصاصة في رأسه ولكن تمكن الاطباء من ابقائه على الحياة حتى الان. أما حال مشفى جنين الحكومي فليست بأفضل بعدما دمرت امدادات الاوكسجين التابعة له. ومع اقتراب "ساعة الصفر" التي حددها رئيس اركان الجيش الاسرائيلي شاؤول موفاز لجيشه بضرورة اقتحام مخيم جنين، تصاعدت الحرب الضارية على مشارف المخيم وازقته الخارجية. وقال شهود ل "الحياة" ان جرافات الجيش الاسرائيلي شرعت بجرف المنازل على مشارف المخيم لتمكين الدبابات من الدخول. واكد مقاتلون فلسطينيون أنهم صدوا هجمات متواصلة ووقع ثلاثة شهداء على الاقل. واعترف الجيش الاسرائيلي بإصابة خمسة من جنوده في محيط المخيم وصفت حال اثنين منهم بأنها "بالغة". وقال الصباح ان الجيش الاسرائيلي يقوم "بتدمير منهجي لمدينة جنين ومخيمها" في محاولة اخيرة لتنفيذ اوامر قائده.