وسط الدمار الكبير، وجثث الشهداء ومئات الجرحى، صنع مخيم جنين في يوم صموده الثامن "معجزة" في وجه أعتى جيش نظامي في الشرق الأوسط. عشرات المقاتلين الفلسطينيين لا يزالون محاصرين أرضاً بمئات الجنود الاسرائيليين من وحدات "النخبة"، وجواً بمروحيات الكوبرا والأباتشي. انتفض المقاتلون من تحت أنقاض المخيم الذي سوي بالأرض ل"يحاصروا محاصريهم" ويلتحموا مع جنود الاحتلال في عدد من المواقع، فيما نصبوا مكامن لهم في أماكن أخرى شملت تفخيخ منازل وحقول ألغام، مما أوقع عشرات القتلى والجرحى في صفوف الاسرائيليين. طوال الأيام العشرة الماضية تجاهلت اسرائيل كل المواثيق والأعراف الدولية في شأن اخلاء الجرحى والقتلى من ساحات المعارك التي سقط فيها الفلسطينيون عشرات ومئات، لكنها التمست أمس عبر الصليب الاحمر الدولي الذي شلت حركته في مختلف أنحاء الضفة الغربية السعي لدى المقاتلين الفلسطينيين، من خلال شخصيات في مدينة جنين، الى وقف لإطلاق النار، بغية اخلاء قتلاها وجرحاها، في اجراء اعتبره مقاتلو المخيم "عنصرياً وفوقياً". اعترفت اسرائيل رسمياً بمقتل 13 من جنودها وإصابة تسعة آخرين خلال اشتباكات امس فقط. وتمكنت "الحياة" في لندن من الاتصال بمقاتلين في مخيم جنين، فقالوا إنهم تمكنوا من احتجاز أربعة جنود اسرائيليين واكدوا انهم لن يقبلوا وقف النار إلا بانسحاب الجيش الاسرائيلي من المخيم، وان العنوان الوحيد للمطالبة بوقف اطلاق النار هو الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. واكد شهود ل"الحياة" انه تم اخلاء عشرات القتلى والجرحى الى مشفى ميداني اقامه الجيش الاسرائيلي في "احراش السعادة" القريبة من المخيم، فيما تولت المروحيات وسيارات الاسعاف نقلهم الى المشافي الاسرائيلية. وقال هؤلاء انهم سمعوا صيحات الاستغاثة الصادرة عن الجنود المثخنين بالجراح. وقالت مصادر اسرائيلية ان وزير الدفاع الاسرائيلي بنيامين بن اليعيزر ورئيس اركان جيشه شاؤول موفاز يجدان صعوبة بالغة في اقناع الجنود المرعوبين من حجم المقاومة الفلسطينية واصرارها على الاستمرار في القتال داخل المخيم المدمر في التوغل الى عمق المنطقة التي يحاصرون المقاتلين فيها. وقال بعض الجنود ان التقدم داخل المخيم يسير ببطء شديد وانهم يتحركون "كتفاً الى كتف" بسبب المقاومة الشديدة من الفلسطينيين الذين اتخذوا قراراً بالموت وتفجير انفسهم بالجنود والمقاومة حتى الرمق الاخير. وكان قائد الجيش الاسرائيلي في منطقة جنين اعلن قبل اربعة ايام انه اوشك على القضاء على المقاتلين ثم عاد فتحدث عن استسلام 200 منهم، واخيراً بات الحديث في اوساط الجيش الاسرائيلي يتركز على "العجينة التي جبل منها هؤلاء الفلسطينيون" الذين لا يخشون الموت. وفي ساعات بعد ظهر أمس، سكن المخيم بعدما تمكن المقاتلون من محاصرة اربعة جنود في احد المنازل، وبدأ اركان الجيش الاسرائيلي اجتماعاً طارئاً للتعامل مع المستجدات. وفي مقابل الصمود والتصدي الاسطوري لشباب المخيم، بدأ وزير الخارجية الاسرائيلي شمعون بيريز يعد الرأي العام العالمي لمشاهد المجزرة المفزعة التي ارتكبها الجيش وبدأت تتكشف في المخيم. وفي توضيح بأن قلقه لا يتأتى من وقوع "المجزرة"، كما وصفها هو نفسه، بل من كونها ستضر باسرائيل. وجاء تحذير بيريز بعدما تضاءلت الفرص امام الجيش الاسرائيلي لاخفاء بعض ما اقترفه من جرائم بسبب استمرار المقاومة وسقوط قتلى وجرحى في صفوف الجنود. واعترفت اذاعة الجيش الاسرائيلي بتزايد الاوضاع في المخيم تفاقماً وبوقوع مزيد من القتلى والجرحى "في صفوف الطرفين". وابرق النائب العربي في الكنيست الاسرائيلي محمد بركة الى محكمة العدل العليا في لاهاي مطالباً اياها بايفاد لجنة للتحقيق في المذابح التي تعرض لها مخيم جنين تمهيداً لتقديم رئيس الحكومة الاسرائيلية ارييل شارون للمحاكمة كمجرم حرب. وكانت مصادر اسرائيلية اعترفت بقتل 100 فلسطيني على الاقل في جنين خلال الايام السبعة التي مضت، فيما يؤكد الفلسطينيون صعوبة حصر عدد الشهداء والجرحى في المخيم المنكوب الذي لا يزال يقاوم وسط مخاوف من بشاعات أكثر فظاعة تنتظره.