الأسابيع الأربعة الأخيرة، وبالذات الأيام التي سبقت عيد الفصح وتلتها مباشرة، شهدت تطوراً نوعياً في خريطة العلاقة الايطالية مع القضية الفلسطينية. وتميز هذا التغير، من جانب، بتجذر القناعة في أن الحل الوحيد لأزمة الشرق الأسط. لا يمكن ان يفضي الى نهايته من دون قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، التي قد تكون بحد ذاتها سبباً لهدف ايطاليا والغرب المنشود أي "أمن اسرائيل" ومن الجانب الآخر تميّز بتحولات في المواقف الكلاسيكية من القضية، ففيما لم تذهب أحزاب اليسار أبعد من اطلاق الدعوات الى المجتمع الدولي لبذل الجهود في حل القضية، أدى وجود اليمين ضمن التركيبة الحكومية الى تغيّر في مواقفها التي بدت محاولة لاسترضاء اسرائيل وتشديداً على الانسلاخ الكامل من "الماضي الفاشي"، بعد أن كانت تميزت مواقفها في الماضي بالانحياز الى جانب الفلسطينيين، لكن ليس من منطلق الإيمان الكامل بحق الشعب الفلسطيني بل من الموقف المعروف للكثير من أوساط اليمين. حدث هذا التطور النوعي سواء داخل الإطار الكلاسيكي للسياسة الايطالية الممثل بأحزاب الحكم والمعارضة، أو خارجه الممثل بالقوى الشبابية، الممثلة بدورها بحركات "مناهضو العولمة" الذين يُطلق عليهم في ايطاليا اسم "جنوى سوتشال فوروم" نسبة الى الأحداث العنيفة والدامية التي وقعت في الصيف الماضي في مدينة جنوى الشمالية إبان عقد قمة الثمانية الكبار في الأرض التي أدت الى مصادمات عنيفة بين الشرطة والأمن الايطاليين. أما التطور الآخر، أو بالأحرى التجذّر الاضافي، فقد حدث في أوساط الكاثوليك الايطاليين، بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية وقناعاتهم السياسية، وجاء ذلك بسبب المواقف الحاسمة والأكثر جلاءً التي اتخذتها حاضرة الفاتيكان والقلق الشديد الذي أبداه البابا يوحنا بولس الثاني في نداءاته وصلواته ولقاءاته مع ساسة الأرض ازاء ما يحدث في فلسطين. وزادت الأحداث الأخيرة والحصار الخانق المضروب على الرئيس ياسر عرفات والمدن والبلدات الفلسطينية ومئات الضحايا الذين سقطوا من هول الفظاعة ما أدى بالحبر الأعظم الى رفع نبرة النداء الى الادانة الواضحة والصريحة معتبراً "اذلال الشعب الفلسطيني وتدمير البنى التحتية" لما كان يشكل أساس دولته "وإهانة زعامته" أمراً غير مقبول "ينبغي وقفه في الحال". أما على الصعيد الرسمي الإيطالي، فأكد رئيس الجمهورية الايطالية كارلو اتزيليو تشامبي في أكثر من مناسبة دعوته الى "ارسال قوة فصل دولية الى الأراضي الفلسطينية للحيلولة دون استمرار الدمار"، مؤكداً "استحالة قدرة الفعل العسكري الاسرائيلي على انهاء الفلسطينيين واستحالة قدرة العمليات الارهابية على انهاء اسرائيل". وترافقت دعوة رئيس الجمهورية مع نداءات ودعوات رئيس الحكومة سيلفيو بيرلوسكوني الى "ضرورة وقف العمليات العسكرية الاسرائيلية والأعمال الارهابية والعودة الى طاولة المفاوضات السياسية واستعداد ايطاليا وأوروبا لإعادة اعمار فلسطين ببرنامج مارشال للتنمية الاقتصادية". "فلسطين"... صرخة الشباب وبصرف النظر عن مصدر النداء الديني فهو لا يحمل في الغرب بالذات للوهلة الأولى سمات التأثير في الفعل السياسي العام ورد فعل الشباب بالذات، لكنه بالتأكيد لا يمر مرور الكرام عندما يتعلق الأمر بالعلاقة بين المرء وضميره. وقد يكون الكثير من "مناهضي العولمة" الشباب من العلمانيين واليساريين والشيوعيين الذين انقطعت صلتهم بالكنيسة الكاثوليكية منذ السنين الأولى من حياتهم الشبابية، إلا ان معطيات وتداعيات من قبيل "الكفاح والنضال ضد الظلم والقهر والجوع واستغلال طاقات وموارد الشعوب وكفاح الشعوب من أجل حريتها ومستقبلها وكرامتها"، وضعت هؤلاء الشباب والكنيسة الكاثوليكية في خندق واحد في الكثير من النداءات والأفعال السياسية. وتزامن هذا التقارب مع مناسبتين دينيتين هما عيدا الميلاد والفصح. وكان منع حكومة شارون والرئيس الفلسطيني من حضور قداس ليلة عيد الميلاد في كنيسة المهد ببيت لحم، وهو الفعل الذي كان الرئيس الفلسطيني يؤكد من خلاله في كل عام حق المواطنة الكاملة لمسيحيي فلسطين وأخوة "الرباط الى يوم الدين" بين المسيحيين والمسلمين "في أرض أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين". وأثار قرار شارون قلق الكثير من الأوساط، ومنها الكنيسة الكاثوليكية ومناصرو الحق الفلسطيني والشباب منهم بالذات. وتأكد هذا القلق من مسار السياسة الشارونية بعد قرار شارون منع الرئيس الفلسطيني من حضور قمة بيروت، الأمر الذي دعا مناهضي العولمة الايطاليين والكثير من رفاقهم الأوروبيين الى اتخاذ قرار عاجل بالسفر الى فلسطين لقضاء عيد الفصح "ضيوفاً على الفلسطينيين المسيحيين والمسلمين"، وذلك "لنكون دروعاً بشرية لحماية المواطنين الفلسطينيين"، كما أكد مسؤولو الحركة، في قولهم: "سنقف بأجسادنا أمام الدبابات والمجنزرات الاسرائيلية". ولم تسقط دعوة "مناهضي العولمة" الى فراغ بل التقطتها مجموعات سياسية وشبابية أخرى ك"الشبيبة اليسارية" المنضوية تحت اطار حزب "اليساريين الديموقراطيين"، اضافة الى "حزب اعادة البناء الشيوعي" و"حركة الخضر". وانطلقت رحلة الشهر الأخير في التضامن الشبابي الايطالي مع فلسطين يوم الرابع من شهر آذار مارس الماضي عندما أعلن عن تنظيم تظاهرة يوم التاسع من الشهر ذاته ل"التضامن مع الشعب الفلسطيني في كفاحه ضد مخاطر الاحتلال الجديد وللدعوة الى فك الحصار عن الرئيس الفلسطيني ومقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله ودعوة المجتمع الدولي الى التحرك السريع لوقف انهيار الوضع أكثر مما بلغ اليه". وفي التظاهرة نفسها أعلن عن رحلة "فعل من أجل السلام في فلسطين" وعن مشاركة 400 ناشط ايطالي وأكثر من ألف أوروبي فيها. وجاء في البيان الذي أصدره "مناهضو العولمة" الايطاليون ان "هذه المبادرة تأتي للاحتجاج ضد الاحتلال الاسرائيلي والعنف المتصاعد ضد المدنيين الفلسطينيين"، وأبلغ البيان ان "وفداً من نشطاء الحركة موجود في اسرائيل للتنسيق مع الشباب الاسرائيليين رافضي الخدمة العسكرية في الأراضي المحتلة". وأكد الناطق باسم الحركة فرانتشيسكو كاروزو قوله: "نأمل ان يكون وجودنا رادعاً ضد تصعيد العنف تجاه الفلسطينيين"، وأضاف: "لا أحد يحلم ان يتحول في يوم من الأيام الى درع بشري قد يودي بحياته لكن، والحال هذه، ليس في امكاننا ان نقف مكتوفي الأيدي غير مبالين، فيما تجري على بعد بضع مئات من الأميال من منازلنا حرب ضروس ضد شعب أعزل مودية كل يوم بحياة العشرات من الأبرياء"، ويعترف كاروزو بضعف "سلاح الردع" الذي تمتلكه الحركة، لكنه يضيف: "ان اجسادنا ورغبتنا الحقيقية في السلام ستكون السلاح الوحيد الذي سنحاول به وقف زحف الدبابات الاسرائيلية". وعلى رغم الاختلافات والتباينات الكثيرة بين "مناهضي العولمة" وحزب "حركة الخضر" فقد حضر ممثلو الحركتين معاً عند الحواجز الاسرائيلية ونقاط التفتيش والمراقبة التي يفرضها الجيش الاسرائيلي ما بين المدن الفلسطينية، وبالذات عند حاجز قلنديا بين القدسورام الله. ومع تصاعد الحملة العسكرية واعادة احتلال المدن الفلسطينية من قطعات الجيش الاسرائيلي، حدث اصطفاف أكثر وضوحاً، ليس في الخطاب السياسي الايطالي بل في الموقف من التضامن مع الشعب الأعزل الذي تعرض ويتعرض الى حرب ابادة جماعية وتدمير لكل مقومات الحياة في البلاد. وأبرزت الشعارات السياسية التي أطلقتها الحركات الشبابية الايطالية والأوروبية التي قاربت ما بين فعل حكومة شارون وجرائم النازية، بدءاً من طبع اسماء المعتقلين والسجناء على الأذرع كما كانت تفعل النازية واطلاق النار على سيارات الاسعاف والأطباء ومنع دخول المواد الغذائية والصحية وأجهزة الإعلام. وتمكن التأثير الصهيوني واليهودي في الإعلام الإيطالي وفي صفوف السياسة الايطالية من "ردع" الكثير من القوى السياسية الايطالية الفاعلة من اتخاذ مواقف حاسمة ازاء ما يجري في فلسطين، ليس على صعيد الموقف المعلن، بل على صعيد الفعل الديبلوماسي الملموس والتأثير في القرار السياسي للدولة والحكومة. تجلى ذلك في موقف الكثير من القوى السياسية الايطالية والنقابات الكبرى بالانسحاب من التظاهرة الحاشدة التي كانت تنادت لاقامتها في العاصمة روما يوم السبت الأول من شهر نيسان ابريل الجاري، وذلك بدعوى وجود بعض الشعارات التي تقارب بين شارون والنازية الهتلرية أو تلك التي تطلق على كل من شارون وجورج بوش الابن لقب "القتلة". واعتبر انسحاب قوى اليسار الايطالي والنقابات من تلك التظاهرة بداية انسلاخ جديد في صفوفها، خصوصاً ان التظاهرة سارت وانتظم فيها عدد هائل من الناس وأعلن الشباب وخصوصاً "مناهضو العولمة" و"حركة الشبيبة اليسارية" المنضوية تحت راية حزب "اليساريين الديموقراطيين" والكثير من زعامات "حزب اعادة البناء الشيوعي" و"حركة الخضر" المشاركة في التظاهرة، ولو تطلّب الأمر القيام بذلك كتعبير عن الموقف الشخصي. وربما كانت لمواقف اليسار التقليدي الجديد ومخاوفه من المقاربة بين حكومة شارون والنازية أسباب عدة من بينها: أحداث الماضي وعقدة الذنب الكبرى التي يعانيها الأوروبيون والألمان والايطاليون بالذات إزاء جرائم النازية" ومخاوف قيادة اليسار من نقل اللوبي اليهودي الايطالي ثقله السياسي لمصلحة تكتل يمين الوسط الحاكم في الانتخابات البلدية الجزئية التي ستجرى في الشهر المقبل، خصوصاً ان جماعات من اليهود المتطرفين تظاهروا أمام مقرات الأحزاب اليسارية منددين بموقفها من اسرائيل وهاجموا مقر زعامة "حزب اعادة البناء الشيوعي" في روما واجتمعوا بزعيمه فاوستو بيرتينوتي متهمين اياه ب"معاداة السامية"، ما دفعه الى الدفاع عن نفسه وحزبه في ختام مؤتمره العام بالصراخ: "نحن كلنا يهود، كما نحن كلنا سود ومهاجرون واسلاميون...". والغريب انه نسي أو ربما تناسى عمداً قول: "كلنا فلسطينيون"، لا سيما انه كان منح كلمة افتتاح المؤتمر الى المندوب العام لفلسطين في ايطاليا نمر حمّاد. اليهود الايطاليون المتطرفون توعدوا أحزاب اليسار بلافتات كتب عليها شعار "اليهودي لا ينسى!"، ما أفقد هذه الأحزاب حتى الجرأة التي اتسم بها بعض اليهود المعارضين لسياسات شارون والداعمين لمبدأ السلام بين الشعبين والذين ساروا في احدى التظاهرت في روما رافعين لافتة كتب عليها: "أيها الأخوة الفلسطينيون اننا نشعر في هذه اللحظة بضرورة الاقتراب منكم أكثر من اقترابنا الى اخوتنا في اسرائيل". وفيما تمكنت الحركات والجماعات الشبابية، بفضل حماستها من الوصول الى تلك المقاربة التي أدتها أنباء المجازر التي وقعت في مخيم جنين بيد قوات الاحتلال الاسرائيلي، فإن زعامات اليسار لا بد من انها تشعر الآن، وستشعر في الأيام القليلة المقبلة، بحرجج أكبر عندما سينكشف هول الكارثة والمجزرة التي ارتكبت في جنين ونابلس والمدن وسائر البلدات الفلسطينية، ناهيك عن الخاتمة المأسوية التي تنتظر المعتصمين في كنيسة المهد في بيت لحم، مقاتلين مسلمين ومسيحيين ورهباناً. ويفرض هذا التطور النوعي والفريد الذي حدث في ايطاليا، على الشعوب العربية والمواطنين العرب والزعامات الإسلامية في الدول العربية وفي فلسطين في شكل خاص، اعادة النظر في تقويم العلاقة وتطويرها، سواء مع قوى المجتمع المدني الأوروبي أو مع أطراف الكنيسة المسيحية بجميع أطيافها. فهذان الواقعان أكدا، ليس فقط صدق الدوافع والمشاعر والرغبة في الصداقة والعمل المشترك مع الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية في شكل عام، بل أكدتا أيضاً قدرتهما على الفعل والتأثير السياسيين والاجتماعيين وخلق حال الضمير اللازمة لكفاح الشعوب العربية. وتقتضي الضرورة الانفتاح على ما ينطلق من هذين الواقعين الشباب والكنيسة ليس من وجهة النظر الدينية أو من خلال منطق صراع الأجيال والحضارات، بل من خلال منطق التلاقي في الأهداف والعمل المشترك. وليس أدل على الدعوة الى الحوار مع هذين الواقعين الأساسيي من الجملة التي قالها والد الشاب كارلو جولياني الذي صرعته رصاصة شرطي شاب مذعور خلال أحداث جنوى حين قال في تأبين ولده: "لقد علمني ولدي، وموته، أن استمع الى الشباب والى ما يقولونه من دون ان ينصرف ذهني بالنظر الى بنطال الجينز الممزق الذي يرتدونه او الى طريقة تصفيف الشعر أو اللهجة التي يتحدثون بها. لقد علمني كارلو، وموته ان استمع الى كنه ما يقوله الشباب". ومرة قال أحدهم: "ليس صحيحاً ما يقال من أن الآباء يعلمون الأبناء فقط، بل ان الآباء يتعلمون الكثير من أبنائهم...".