وزع على تلاميذه وجيرانه ديوان شعر طباعته متقشفة، وضمّنه قصائد عن نزوحه من فلسطين واستعداده للعودة إليها. والذين اشتروا الديوان لم يهتموا بالمستوى الفني، فالأمر مجرد تعاطف شخصي ووطني، لأن فلسطين قضيتهم ولأن الفلسطيني مواطن ضمير في البلاد العربية الى ان يعود. وفلسطين لم تكن وطناً مستقلاً بالمعنى الحديث للأوطان الشرق اوسطية بعد الحرب العالمية الأولى. هذه حجة يتذرع بها غلاة الإسرائيليين ليجردوا الفلسطيني من حق العودة وليطمحوا الى تجريده من حق الإقامة ايضاً. لكن المواطنية في فلسطين كما في غيرها، ليست مرتبطة بتاريخ ومرحلة إلا في الشكل، اما الجوهر فهو اقامة الإنسان فوق مجال من الأرض، حيث تشكله البيولوجي والمزاجي بتراكم الزمن والعلاقة والخبرة. مئات من الشعراء نبتوا في فلسطين مع ثوراتها في الثلاثينات ضد تزايد الاستيطان اليهودي ومع نكبتها في العام 1948 والنكبة الثانية عام 1967، وكانت القصيدة الفلسطينية إعلاناً لهوية قائلها. وكان المثقف الفلسطيني الذي أنتجه نظام التعليم البريطاني في فترة الانتداب مهيأ لخدمة ادارة هذا الانتداب الحديثة، وانتقل بعد النزوح الى ادارات دولية عاملة في الشرق الأوسط، كما حقق وجوداً طاغياً في قطاعات المصارف والتعليم الجامعي والمقاولات الكبرى ومراكز الأبحاث المعنية بالشؤون العربية الإسلامية. وساهمت الأونروا بعد النكبة في دعم التعليم الفلسطيني وفتحت لأبناء اللاجئين الفقراء فرص الترقي الثقافي والاجتماعي كونهم انكلوفونيين مبكرين قبل ان تعم الأمركة عالمنا او معظمه. تلك النخبة الفلسطينية توزعت في انحاء العالم، تجدهم في بيروت، جامعاتها ومصارفها، وفي الكويت والسعودية وسائر دول الخليج، كما تجدهم في جامعات ومراكز ابحاث في بريطانيا وكندا والولايات المتحدة، نخبة طليعية علماً وأساليب عمل، لكن حركتها العالمية هذه حركة افراد ناجحين ينشطون احياناً في جمعيات فكرية وسياسية. فلسطينيون مثقفون عروبيون وعالميون، لكنهم يهجسون بفلسطينيتهم، يبحثون عن ملامحها في وحدة عربية مأمولة او في يسار يساوي بين القوميات والإتنيات، يبحثون فلا يجدونها بالفعل، على رغم انها موضع اهتمام كقضية جامعة. حين ينتهي الاحتفال، اي احتفال، يعود كل فرد الى هويته الصغيرة الدافئة ويبقى للفلسطيني صقيع المنفى او وحشة الفكر المجرد. قبل العام 1918 كان الفلسطينيون اكثر العرب حضوراً في الإدارة العثمانية، فلما تحطمت السلطنة لم تستطع نخبهم إنهاض هوية فلسطينية صغيرة دافئة، لأسباب، منها توزع المجتمع الفلسطيني بين مديني وفلاحي وبدوي وعالمي حالة مدينة القدس تحديداً التي تستضيف اجانب شبه مقيمين ورجال دين مسيحيين متعددي القوميات، ومن الأسباب ايضاً ضيق الفترة الزمنية 30 عاماً بين انهيار السلطنة العثمانية وإنشاء الكيان الإسرائيلي على ارض فلسطين. هكذا حمل المثقف النازح قضيته أكثر مما حمل وطنه، والتقى تحت لواء هذه القضية قوميون عرب رأوا فيها بديلاً للدولة العربية الجامعة التي يأملون بتحقيقها، ودائماً ارتبط تحرير فلسطين بالوحدة العربية، كما ارتبط لدى جماعات سياسية اخرى بأنظمة اشتراكية في غير بلد عربي. قبل النكبة كانت فلسطين قضية أكثر مما هي وطن، والأمر نفسه بعد النكبة. كان على الشاعر الفلسطيني ان يعبر عن القضية أو لا يكون، وكانت ابيات القصيد الفلسطينية شائعة في عالمنا العربي. من اناشيد ابراهيم طوقان الوطنية التي لحنها البيروتيان الأخوان محمد وأحمد فليفل: نحن الشباب لنا الغد - موطني موطني، وقصيدته في الفدائي: لا تسل عن سلامته - روحه فوق راحته، تلك التي اخذ منها عبدالرحيم محمود بيت قصيده الشائع الآخر: سأحمل روحي على راحتي / وأمضي بها في مهاوي الردى / فإما حياة تسرّ الصديق / وإما ممات يغيظ العدى. ويلحق بالشاعرين معين بسيسو من غزة قائلاً: / أنا إن سقطت فخذ مكاني / يا رفيقي في الكفاح وسينتظر الشعر توفيق الصايغ ليحقق دوراً للفلسطينيين رائداً في الشعر العربي موازياً لريادتهم في إدارة الأحزاب العروبية وشركات المقاولات الكبرى والتعليم الجامعي الراقي. كان توفيق الصايغ منذ الخمسينات مفترقاً في الشعر الفلسطيني، حيث الريادة ذات طابع فني تندرج في مشروع الحداثة الشعرية العربية، وتكتسب خصوصيتها المؤثرة من افتراقها عن حداثة عراقية ذات لغة تقليدية مرسلة وعن حداثة سورية - لبنانية تفيض صياغتها الجمالية عن حدها فتخفي هيكل القصيدة او تهدمه. وسنجد ان توفيق الصايغ سيؤثر بعد وفاته بعقود في الجيل الحالي للشعراء الفلسطينيين، شعراء مرحلة ما بعد محمود درويش. اما درويش فهو جامع متفرد لحساسيات فنية وثقافية واجتماعية، تسير قصائده في موازاة وعي فلسطيني نضالي معقد، فيمكن من خلالها قراءة سيرة شعب يبحث عن التحرر من دون ان يفقد الحداثة، يصارع الآخر من دون ان يفقد رؤيته لما يجمع بين البشر، اصدقاء ام اعداء. الشعر الفلسطيني ذو مسار متعرّج يتواكب مع تعرّج الشخصية الفلسطينية. إننا امام حساسية غريبة تراوح ما بين الوطنية الضيقة الملتهبة والعالمية المنفتحة بلا حدود. وفي مطلق الأحوال، تبدو صورة الفلسطيني العادية في المرآة صورة شعرية، لا تكتمل امام النظر ولا على الورق، صورة تؤشر الى واقع ناقص واحتمالات بلا حدود، كأنها الأكثر تعبيراً عن تراجيديا العيش في هذا العالم.