بدت مدينة رام الله وتوأمها البيرة تائهة بعد أربعة وعشرين يوماً من احتلال "تخريبي" عمل الجيش الاسرائيلي بأوامر من المستوى السياسي أقصى ما في وسعه لمحو ذاكرة مجتمع بمكوناتها الاجتماعية والاقتصادية والادارية والمالية، في مسعى الى تأسيس فوضى عارمة تعود بملايين الفلسطينيين الى عهد ما قبل أول سلطة وطنية على الأرض الفلسطينية تمهيداً لإعادتها تحت رحمة سجلات الاحتلال المعروفة باسم "الادارة المدنية" ذراع الحكم العسكري. في كل زاوية وعلى كل ناصية وكل رصيف وفي داخل كل مؤسسة، يتجسد هذا الهدف الاسرائيلي للفلسطينيين الذين لا يزالون يجوبون الشوارع على غير هدى يتفقدون آثار الاحتلال ويؤكدون انه لن يحقق أهدافه "لأننا، ببساطة، ندرك نياتهم". ولم تنج اي مؤسسة ولا وزارة ولا مركز ثقافي ولا مؤسسة مصرفية من أعمال التخريب. في بنك فلسطين الدولي، لم يبق شيء في القاعة المصرفية الا وتم تدميره تدميراً كاملاً. بنادق ال"ام 16" أفرغت نارها في الحواسيب، وفي كل حرف من مفاتيحها. أحرق الأثاث الحديث واقتحمت الخزائن على رغم ان المتفجرات اخفقت في كسر الخزانة الرئيسية. وفي بنك الاسكان، اخترقت قذائف الدبابات الطابق الأول واحرقت كل ما فيه. ولم يسلم اي من البنوك من نهب منهجي من وثائقه وسجلاته وأتلفت الحواسيب بكاملها. ما أدى الى شلل تام لعملها. ووزارة المواصلات، التي لا تشكل في أي حال جزءاً من "البنية التحتية للارهاب"، سلبت كل سجلات تراخيص السيارات والحافلات الفلسطينية وكل ما يتعلق بسيرها على الطرق. ولم تسلم وزارة التعليم العالي الفلسطينية، كما وزارة التربية والتعليم، من قذارات جنود جيش الاحتلال الذين حولوا المباني التعليمية والتثقيفية الى "فنادق" باتوا فيها وأكلوا وشربوا، قبل ان يحطموا موجوداتها. وسرق الجنود من وزارة التربية أوراق امتحانات الشهادة التوجيهية الثانوية العامة قبل ان يفجروا خزانة "الاموال السائلة" وينهبوا 40 ألف شيكل هي كل ما كان في داخلها. وتكرر المشهد في أهم مؤسسة فلسطينية، وهي مركز الاحصاء المركزي الفلسطيني، حيث اصبح عمل 10 أعوام من العمل المضني والدؤوب لتوفير أسس احصائية لكل مناحي حياة ملايين الفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة، مجرد أكوام متراكمة من الاوراق الممزقة أو المحروقة، أو حواسيب انتزع ما في داخلها من معلومات. وفي محطة "اذاعة الحب والسلام" الخاصة وهي الأولى التي انطلقت على الهواء بعد اتفاقات اوسلو، بدا ان الجنود لم يروا ابواب الغرف، أو انهم فضلوا الدخول من غرفة الى اخرى عبر ثغرات حفروها في الجدران ليصلوا الى معدات واجهزة تقدر كلفتها بملايين الدولارات ويحطموها تحطيماً كاملاً. تكرر المشهد نفسه في مختلف محطات الاذاعة والتلفزيون المحلية الخاصة. وطاول التدمير بنايات ومجمعات تجارية بأكملها، مثل عمارة "الميدان" العريقة، ومجمع النتشة، وعمارتي "طنوس" و"البكري" وجميعها في وسط المدينة وتحوي مكاتب وعيادات ومؤسسات اجتماعية وصحية وحقوقية وعمالية اضافة الى المحال التجارية التي خرب ما تبقى في داخلها ولم يتم سلبه. لكن تحول محل بيع الاحذية "توب فاشن" الى كتلة متفحمة، وكان الجنود الاسرائيليون اعتقلوا صاحبه وأوسعوه تعذيباً وضرباً. ومن باب "شر البلية ما يبكي - وليس يضحك" يشهد الفلسطينيون كيف ان الدبابات الاسرائيلية كانت تتجنب السيارات القديمة لكنها تدوس بجنازيرها السيارات الحديثة ومن بينها تلك التي لم يمض على شراء بعضها سوى أيام قليلة قبل الاجتياح. شرع الفلسطينيون في "لملمة" جروحهم وراحوا ينظفون الشوارع من مخلفات الاحتلال، فيما استعصى على أصحاب المحال التجارية دخول محالهم المقتحمة خوفاً من صواريخ وقذائف استقرت في داخلها ولم تنفجر. وعلى رغم ذلك يقول الفلسطينيون انهم سيبدأون البناء من الصفر... من جديد.