إلى تانيا، وإلى هالة أيضاً أكلّم تانيا في رام الله. بعد جهد عظيم ها الهاتف يرن وتانيا تجيب. أرفع صوتي عالياً كأهالي الريف وأسأل عن صحتها، عن سلامة أهلها وأحبائها. هل عندكم ماء؟ هل عندكم غذاء؟ هل البيت آمن؟ تبدو تانيا أكثر هدوءاً مني وأقل وجلاً. أخجل قليلاً إذ تجيبني بوتيرة صوتها العادية، مكررة "نحن بخير لا تقلقي فالمعنويات عالية". ثم تسألني تانيا عما يجري عندنا فأجدني منساقة الى افتعال بقية الحديث، فيرتفع صوتي مجدداً كما لو كنت على مسرح كبير مضاء. أقول لتانيا "اننا نقلب الدنيا هنا". أنتم أكثر بكثير مما تعتقدون.. مظاهرات حاشدة وبيانات وتحركات من كل نوع... لا بد أن يكون لكل هذا نتيجة ما.. أنتم أقوى بكثير مما تعتقدون... تقول تانيا: عظيم... انتبهوا فقط ألا يهاجم أحد أماكن العبادة اليهودية، أو مؤسساتهم... سيكون ذلك فظيعاً لنا. آخ... أصلا كنت أريد الاطمئنان فقط. قول تانيا ان "المعنويات عالية" هو ما ورطني في الخطبة التي ألقيتها عليها كأني مرجع مناضل ومسؤول... كيف جرتني الى ذلك وكيف أوحت لها ثقتي بنفسي وبمقدرتي اني الشخص الذي من الممكن أن توكل اليه مسؤولية الدفاع عن أماكن العبادة اليهودية وضبط العناصر غير المنضبطة؟ بدأت اتصالي بتانيا من ذاكرتي البيروتية. للاطمئنان فقط، للسؤال عن الكهرباء والماء والزاوية الآمنة. هكذا ايضاً ارتفع صوتي بالصراخ على الهاتف حيث كانت الخطوط مشوشة جداً في بيروت وكنا آنذاك نطلبها، من خارجها، أحياناً عن طريق تركيا أو نيويورك... ولم نكن نسأل عن "المعنويات" أو نخبّر عنها... أبداً. في ذاكرتي البيروتية تقع "المعنويات" خارج القاموس. وسأنتبه في مكالماتي الآتية مع تانيا للتخفيف من حدة ادعاءاتي. ولو سألتني عن حكاية الدفاع عن أماكن العبادة اليهودية وما شابه، سأجد طريقة... سأتكلم بشكل مبهم... اليمين المتطرف... الشارونيون المتطرفون الذين يريدون القاء التهمة علينا وتحويل الانتباه... ثم في الواقع، لم لا؟! أما بالنسبة الى العناصر غير المنضبطة من أبنائنا فالأرجح أني لن أتكلم عن الجوانب المتخلفة لدى "جماعتنا"... لندع تانيا مع معنوياتها العالية. *** هالة تسكن في الدائرة الحادية عشرة في باريس. سيراً على الأقدام أصل الى بيتها في أقل من عشر دقائق. منذ أشهر لم أرها. ربما منذ سنة أو أكثر بقليل... كنت كلما اشتقت اليها أترك رسالة صوتية على مسجل هاتفها. وهي تجيبني بالمثل، وإذا صدف ان التقى الصوتان تبادلنا الاحتجاج على قلة الوقت وكثرة الانشغالات وتواعدنا على اللقاء القريب، هي تسلم على الأولاد، وأنا أسلم على يوسف ولولو. في الأسابيع القليلة الماضية اشتقت كثيراً لهالة لكني لم أكلّمها. وبعدما استلمت ذات مساء فاكساً منها صرنا نتراسل بالفاكس. كل هذا الكلام الذي يفيض عن حفافي القلب صرنا نخجل من قوله. كل هذا القهر من كل ما يجري لنا وحولنا لم يعد ممكناً تناسيه في أحاديثنا الخفيفة حيث كنت أطلب منها تكراراً وصفتها في إعداد البامية المقددة... تشبهني هالة كثيراً وأشبهها. نتشابه في سقوطنا كذرات الرمل الناشف من سلة المعنويات العالية. نتشابه في احتساب القدرات القليلة التي تبقّت لنا بعدما غادرنا بيوتنا الأصلية وبلداننا. كنا نتمنى، انا وهالة، ان تكون اسرائيل هي من أخرجتنا، وهي التي تمنعنا من العودة الى هناك. كنا سنكون إذّاك شرسات قويات، بقلبين يشبهان قلبي أسدين. صار مخجلاً تكرار الدمع في عيوننا أمام أولادنا وصار مخجلاً ابتلاع هذا الدمع وافتعال الخفّة، وصارت مخجلة أيضاً حيرتنا في صياغة ما جرى ويجري من حكايات ماضينا وماضي بيوتنا البعيدة التي تخسر كل يوم من زخم شوقنا الى الرواية وإعادة الصياغة. بين ابنتينا، ديمة ولولو، تكرار الأسئلة السهلة التي لا جواب لها. تكرار السفر من هناك الى هنا وأيضاً - طبعاً - من هنا الى هناك كمكوك الحياكة الذي يصدر ضجيجاً لأنه من دون خيوط ولا ينسج شيئاً. تتأفف لولو من حكايات هالة القديمة فتنصرف الى الرسم كأبيها. لن يخبرها أحد أن أباها يرسل رسومه الى بلاده وينتظر هنا، ناظراً من نافذة مرسمه الى السماء، ومتخيلاً حركة زوار المعرض في الأروقة البعيدة. في البلاد الممنوعة والتي يقول يوسف انها بلاد عادية لا شك لكنها - ولأنها ممنوعة - أصبح جمالها غير محتمل على قدرة القلب. هكذا تعود لولو من ساحة الباستيل حزينة. يدها في يد أمها، قليلة الكلام وزهقانة، "مالّة"، كما تقول. لو كانت لولو فلسطينية تتظاهر ضد اسرائيل لكانت ساحة الباستيل تشبه ساحات الأعياد، ولعادت الى بيتها مرهقة ربما كولد ينزل عن الأرجوحة. لكن لولو ليست كذلك. ولا أنا ولا هالة. لقد كسروا فينا شيئاً. في العمق. كسروا فينا القدرة على الصراخ عالياً في ساحة الباستيل. وسأستمر في الكتابة الى هالة عبر الفاكس.