بعد موت جان جونيه في العام 1986، ظل حضوره وطريقة تفكيره يلاحقانني. كنت تعرفتُ أليه في 1979 والتقيتُه مرات، خصوصاً حين كان يتردد على الرباط. كان يتجنب الحديث في الأدب ولم يكن يُطيق الخطابات المستندة الى مفاهيم تجريدية كثيراً ما تقود الى اختزال المعيش، الحيوي، والمستعصي على الوصف، فتؤول الى تبسيط ما هو معقّد. وعندما أفكر في حضوره المشعّ، حتى من وراء القبر، أتذكّر ملاحظاته الذكية تعليقاً على بيت شعري لمالارميه: "وقد استقر داخل نفسه، اخيراً، فإن الأبدية تغيّره". يقول: "... الموت يحوّل كل شيء، والمنظورات تتغيّر. ما دام الإنسان حياً، وما دام قادراً على تعديل فكره، وإعطاء البديل، وما دام قادراً على ان يُخفي شخصيته الحقيقية عبر إنكارات أو تأكيدات، فإننا لن نعرف جيداً بأي شيء يتعلّق الأمر. بعد موته، كل شيء ينفّس ويفقد انتفاخه. يغدو الإنسان مثبّتاً ونرى صورته بكيفية مختلفة...". لكنني، أنا، لم أحس ان جونيه ثبّت الى الأبد. على العكس، لا يكف عن الانبثاق وعن المجيء نحونا. وهذا ما دفعني الى اختيار كلمة "جذرية" لأحاول تفسير حضوره الذي يلاحقني بعد موته. إلا انه يتوجّب ان "أُفرغ" هذه الكلمة من دلالاتها السياسية التبسيطية التي تكتسي، احياناً، معنى تنقيصياً. التحليل التالي، إذاً، سيبرزُ مظاهر من هذه الجذرية التي عبّر عنها جان جونيه في كتاباته وأيضاً في الطريقة التي كان يلجأ إليها ليفكّر في ذاته وفي العالم، انطلاقاً من الهامش. إن ما أعنيه بالجذرية هو التفكير من دون مواربة ولا تنازل، توخياً للوصول الى الحقيقة. ومثل هذا التفكير الذي لا يتبنى المنطق السائد، ولا المقولات المعتادة، هو بمثابة اعادة نظر في الأفكار الموروثة والمقاييس الإيديولوجية المتداولة. ويبدو رهان هذه الجذرية مثل تحد دائم لما هو مؤسس ومستقر. ضد المعايير والتسوية القائمة على التنازلات، يستعمل جونيه النقد والنفي انطلاقاً من المعيش، ليصوغ المسكوت عنه والمكبوت. من هذا المنظور تكون الجذرية حكم قيمةٍ يطمح الى "تغيير" النظام القائم، ولو بواسطة احلال متخيّلٍ لنظام آخر محتمل. مظاهر من الجذرية 1- كتابة الجذرية: باعتماده لغة فرنسية سليمة وجيدة نالت تقديراً واعترافاً من محافل اضفاء المشروعية الأدبية، استطاع جونيه ان يمرر صورة لعالم آخر، مهمّش ومهمل. وقد اعاد تكوين ذلك العالم انطلاقاً من مساره الحياتي ولكن مع ابتداع شكل تعبيري يحرره من السياق الخاص. وعندما بدأ جونيه الكتابة، فإنه كان يتوفّر على مفهوم حداثي للأدب وكان يدرك جيداً ما يريده هو من الأدب. بعبارة ثانية، كان جونيه يندرج ضمن تصور مناقض للأدب البورجوازي المنتشر خلال تلك الفترة، وقد قرر ان يكتب لأنه تبيّن، منذ سن السادسة عشرة، ان ليس بوسعه ان يغير العالم. واتخذ تحويل هذه الجذرية الى تعبير فني ثلاثة اشكال من الكتابة: أ - التخييل الذاتي المهيمن على أشعاره ورواياته الأولى، حيث يستوحي تجاربه ويعيد تكوين مساره كمغامر ومتمرد. ان هذه النصوص لا تقتصر على العناصر السير ذاتية، وإنما تلجأ الى الصّوغ التخييلي لتحويل الوقائع والتشكيك في صدقيتها، وإتاحة الفرصة ل"الأنا" كي تنتج بحرية اسطورتها. في هذه النصوص، وبخاصة "يوميات لص"، نجد عناصر للهدم الذاتي تسمح لمخيلة القارئ بأن تعيد تشكيل النص. من هذا المنظور، يكون جونيه اقرب الى الشاعر رامبو القائل: "أنا هو آخر"، اي ان "الأنا" تعبّر بالضرورة، على مستوى الإبداع، عن آخر او آخرين يتعدون الأنا او الذات المحدودَيْن. وكما يقول دولوز في سياق مغاير، فإن الأدب لا يفرض نفسه إلا عندما يكتشف، تحت الشخوص الظاهرة قوة مبني للمجهول لا شخصي ليس قطعاً شيئاً عاماً، بل هو تفرّد في اعلى درجة ... ذلك ان الأدب لا يبدأ إلا عندما يولد داخلنا شخص ثالث ينتزع قدرتنا على ان نقول "أنا"...". ب - الشكل الثاني، هو مسرحة بعض الإشكاليات التي كانت تشغل جونيه، مثل الشرّ، العنف، السلطة، وذلك من خلال كتابة متدثّرة بالعجاب والتنكّر، لفضح الخطابات الأسطورية المبرّرة للنظام القائم. فالكتابة المسرحية بالنسبة لجونيه هي ايضاً وسيلة لشعرنة العالم: "ليس لأن مسرحيتي تمرّ في ماخور عليها أن تكون مبتذلة ... ما معنى حدث مأخوذ من بين احداث اخرى؟ إذا لم يبلغ، وهو يتحوّل، الشعر، فلا قيمة له". ولأن المسرح، بحسب جونيه "هو مكان من العالم حيث التمسرح لا يُخفي اي سلطة"، فإنه اختاره ليستعيد الحقيقة ويحرّرها من سطوة الصور المغلوطة المفروضة من لدن مجتمع الفرجة. وقد شرحت ماري رودوني جيداً مشروع جونيه المسرحي: "عندما يغدو العالم اللامتحقّق لمجتمع الفرجة مجرد سراب ضخم، فهل يكون للمحاكاة المسرحية من معنى بعد؟ وما دام العالم قد اصبح هو نفسه محاكاة فإن جونيه يبتكر في مسرحه صورة جديدة ليست مطلقاً محاكاة للواقع بل إبداع له". ان المظهر الأساسي لتجربة الجذرية في مسرح جونيه، هو ان تعرض على الخشبة كل الحقائق والخرافات مهما كانت معقّدة، مع اعطائها وجوداً شعرياً: "هناك حقائق لا ينبغي قط ان تطبّق؟ وهذه هي التي يتحتم علينا ان نحييها من خلال الأنشودة التي صارت إليها تلك الحقائق". كتابة الذاكرة ج - في "أسير عاشق"، يعود جونيه الى العنصر الحكائي "دم التخييل" بحسب تعبير ادموند وايت، إلا انها عودة مرفقة بحضور كبير للعالم الخارجي، فالإحالة على حركة الفهود السود وعلى الثورة الفلسطينية هي بمثابة "مادة خام" لإعادة ابتداع فترات اقامته بين هؤلاء الثوار المتمردين المحتاجين الى مساعدته. لكن الأمر عنده لا يتعلق بسرد ذكريات او وصف فضاءات اميركية وعربية. إنها بالأحرى، مواجهة عنيفة يخوضها جونيه على امتداد صفحات "أسير عاشق" مع ذاكرته برمتها، ذاكرته المتدفقة بأسئلة ثاقبة ومعقّدة اختزنتها منذ الطفولة. وفي مقابل الذكريات، هناك علاقة جونيه باللغة وبمتخيله وبجراحاته السرية، بالنسيان والموت، بالخيانة والتفرد... كتابة الذاكرة هي ايضاً التفكير في شعرية الذاكرة مناقضة لشعرية المحاكاة التقليدية. من ثم تلك البنية المفتوحة، غير الخطية، ذات التشابكات مع الأزمنة والفضاءات المتباعدة. شعرية الذاكرة تعني كذلك ميتا- خطاب عن الزمن وارتياب الذاكرة، وعن الطابع المتداخل بين الحدث والتعبير الشعري الذي يعطيه قيمته... غير ان ذلك يقتضي ايضاً قبول عدم صدقية هذه العلاقة كما يفهم من كلام جونيه "... كتاب ذكريات هو ايضاً اقل صدقاً من رواية". من ثم فإن "أسير عاشق"، وقد تحوّل الى رواية تتجاور داخلها عدة اجناس، لا يكفّ عن "تحطيم كرامة المحكي" ليوطد قرابته بالنموذج الروائي الدوستويفسكي ذي الدلالة المزدوجة والذي يوحي بتفسير وبنقيضه في الآن نفسه. وهناك مؤشرات عدة تسمح بأن يُقرأ "أسير عاشق" على مستويين متعارضين: فالنغمة المختلفة في القسم الثاني من الكتاب تضع على مسافة لحظات العُجاب والانفجار المشخصة في القسم الأول. ذلك ان عمر الثورة قصير، لأن الرؤية الجذرية لا ترضى بأي تنازل ولا تقبل تأييد اسطورة ما. والإيحاء بتلاشي الخرافة الثورية يقود ايضاً الى محو حياة الكاتب - السارد، على نحو ما يوضح جونيه: "ولأنني لست مؤرشفاً ولا مؤرخاً ولا اي شيء من هذا القبيل، فلعلّي لم أقصّ حياتي إلا لأنشد تاريخاً للفلسطينيين". لا يفترض جونيه حدوداً بين تذكّر حياته وبين تاريخ الفلسطينيين كما سجلته ذاكرته. لكنه مع "أسير عاشق"، لم يعد "هو سيد ما رأى" مثلما كان عليه الأمر عندما كتب نصوصه الأولى داخل السجن. الآن، هو "مضطر الى ان يخضع لعالم واقعي، لكنني استعمل دوماً كلمات قديمة، هي كلماتي أنا". ان الانتقال الى كتابة تلك الذاكرة المضاعفة ليس حركة آلية تعرف كيف تظل وفية للأحداث. وهذا هو مصدر انبثاق الصوغ الشعري وتحويل التاريخي والمعيش الى متخيّل مستقل بذاته. لذلك فإن كتابة الذاكرة بكيفية جذرية لا يمكن ان تكون سوى اعادة كتابة على طِرسٍ منسوج من النسيان، يشخّص ذاكرة "شعب الموتى اللايُحصى" 2- الذات والعالم والهامش يتجلى المظهر الآخر لجذرية جونيه في الطريقة التي اتّبعها لإعادة التفكير في ذاته وفي العالم الخارجي. ذلك ان الأزمات التي عرفها، خصوصاً بعد مغادرته السجن وظهور كتاب سارتر المتعلّق بأعماله، وكذلك موت عشيقه عبدالله، كل ذلك دفعه الى الاقتراب من تلك الجذرية الملتحمة أكثر فأكثر. ويبدو لي، ان افضل طريقة لتلخيص هذه الجذرية في افكاره ومواقفه، هي ان نستعرض بعض ردود فعل جونيه وانتقاداته تجاه جان بول سارتر. وقد كانت انتقاداته المتجذّرة أكثر، تتم انطلاقاً من هامش كان جونيه يحرص على ملازمته لأنه يتيح له من وقفه المتباعد، ان يحافظ على علائقه بالمجتمع في كلّيته. إنه بدون ان يستعمل فهومات وتحليلات فلسفية، على غرار ما كان يفعله سارتر، لجأ بالأحرى الى المعيش وإلى الكثافة الشعرية. فعندما رفض التأويل السارتري للمثلية الجنسية التي اعتبرها هذا الأخير بمثابة اختيار أو "مثل استراتيجية في علائق الفرد بالعالم" ردّ جونيه قائلاً: "... لا أتوفّر على نظرية عن رغبة غير متميّزة. أنني أعاين: أنا لوطي. حسناً، ليست هذه قضية. فمحاولة معرفة لماذا أو كيف اصبحتُ لوطياً، وكيف عرفتُ ذلك ولماذا أنا كذلك هي أُلهِيَة... وهذا امر يشبه قليلاً محاولتي ان اعرف لماذا يوجد في عينيّ اختضاب اخضر". ونجد جونيه في "شذراته" التي نشرها العام 1954، يجذر تفكيره في الشذوذ الجنسي: "تشتمل اللوطية على نسقها الإروسي الخاص، وعلى حساسيتها وشغفها وحبها واحتفاليتها وطقوسها وأعراسها وحدادها وأغانيها: إنها حضارة، لكنها بدلاً من ان توثّق الروابط تعزل، وتجد نفسها متوحّدة داخل كل واحد منا". وعلى رغم ان جونيه يعترف بأن كتاب سارتر "القديس جونيه: ممثلاً وشهيداً" قد عرّاه ودفعه الى اعادة النظر في علاقته بالأدب، فإن هناك ملاحظات كثيرة ابداها جونيه، تجعلنا ندرك انه لم يكن يحترم روايات سارتر وفكره. في حديث له مع الطاهر بنجلون، يقول: "اما عن سارتر، فقد فهمتُ منذ امد طويل ان فكره السياسي مزيف. وفي نظري، فإن ما سمّي بالفكر السارتري لا يكاد يوجد. والمواقف التي يتخذها ما هي إلا احكام متسرّعة لمثقّف سريع التأثر بالبرد، لا يمكنه ان يواجه شيئاً آخر سوى أشباحه...". وأعتقد ان هذه الانتقادات الموجهة الى سارتر تجد مصداقيتها في المواقف الأخيرة المرتبكة والمتناقضة التي لجأ إليها الفيلسوف الوجودي خلال العشر سنوات الأخيرة من حياته. ففي الحوار الطويل الذي اجراه مع بيني ليفي بيير فيكتور سابقاً، زعيم الماويين الذي اعتنق، لاحقاً، الفكر اليهودي والمنشور بعنوان "الأمل الآن"، يذهب سارتر الى حد نكران مجموع فكره، معلناً عن مشروعات تنطلق من الفكر اليهودي ومن فلسفة ليفيناس. ان مقارنة بين المسارين من منظور الجذرية والتناسق، ستُبرز لنا الى أي مدى كان جونيه مفكراً رؤيوياً حقيقياً، بفضل رؤيته الشعرية المتميزة. وفي مجال العلاقة بالأدب، كان جونيه يتوفر على مفهوم مغاير لما عبر عنه سارتر في كتابه "ما الأدب؟". إنه لم يكن يقبل الخلط بين الفعل والكتاب لأنهما لا يوجدان داخل الموجة نفسها ولا يمتلكان الديمومة نفسها. يقول: "يمكن لمعركة من اجل بلد ان تملأ حياة جد غنية، إلا انها قصيرة، وهذا، في ما نذكر، هو اختيار أخيل في الإلياذة". وفي الواقع، فإن جونيه مع دفاعه عن مفهوم "غير ملتزم" للكتابة، يُقرّ بترابط الكتابة وتفاعلها مع الفعل والعالم الخارجي. يقول: "... أكان هوميروس سيكتب الإلياذة لولا غضب اخيل؟ أكنّا سنعرف غضب اخيل لولا هوميروس؟". من ثمّ يمكن القول بأن مساندته للحركات الثورية كانت تستجيب لهذه الحاجة الحيوية التي كانت تغذي جذريته الشعرية وتجعلها دوماً متيقّظة وحذرة. وأظن ان جونيه قد حاول ان يعيش جذريته بوصفها عزاء: ان يتعزّى عن الموت الذي يبتلع كل شيء بما في ذلك الكلمات المكتوبة. وأن يتعزّى عن غياب الله، وعن الظلم الأعمى والمواضعات، والأحكام المسبقة الساحقة. انه، وقد أُخذ في شرك "جراحاته السرية"، يستنجد بجذرية تامة، عنيدة: "الكتابة هي الملجأ الأخير المتوفر عندما نكون قد خُنّا" على حد تعبيره. ومن ثم ضرورة مناهضة المجتمع باستمرار، ومناهضة جميع اشكال السلطة والهيمنة، لا من اجل ان نقترح بديلاً، وإنما من اجل ان نزرع بذرة ثورة شعرية محتملة. بتعبير آخر، فإن هذه الجذرية المتعددة التجليّات، هي اداة لتجذير موقف الإنسان تجاه العالم، وفي الآن نفسه هي بديل بالنسبة لما هو قائم. * روائي وناقد مغربي.