كانت هبة الخطيب تبحث في مخيم شاتيلا عن السيدة فاديا سلامة، فهذه الأخيرة لم تر أولادها منذ سبع سنوات، حين قرروا العودة مع والدهم إلى غزة، وهبة تريد الإطمئنان عليهم. لم يتغير الشيء الكثير في المخيم في الأيام الأخيرة، البؤس والفقر والأوساخ المنتشرة فيه على حالها، وحدها أصوات المغنين التي كانت تصدح من عربات باعة أشرطة التسجيل سكتت، لتحل محلها الأغاني والأناشيد الوطنية. هبة مرشدة إجتماعية في العقد الثاني، سمراء جميلة تضج بالحيوية، ومتحمسة جداً لعملها، فهي تؤدي دوراً مهماً في توعية سكان المخيم على مخاطر التلوث والأمراض التي يسببها غياب الخدمات الصحية. "منذ بدء ما سموه بعملية السور الدفاعي لم يعد المشاركون في حلقات التثقيف التي أديرها يهتمون لما أقول، يحملون الراديو معهم، وتلتقط آذانهم تعبير خبر عاجل، أحاول أن أشجعهم على التركيز، لكنهم لا يأبهون، يبتسمون ساخرين ما أهمية المرض مقارنة بالمجازر، لا يشغلهم إلاّ ما يجري في فلسطين، جو من الكآبة والحزن يسيطر"، توقفت هبة لحظة لترد على فتاة عاتبتها لأنها لم تأخذها معها إلى التظاهرة الأخيرة، وعدتها بأنها لن تنساها في المرة المقبلة، وأكملت: "أنا أيضاً مخنوقة، أريد أن أقوم بعمل ما، ما هو؟ ربما مساندة أبناء شعبنا بالقتال، كيف؟ لا أعرف". في مركز مؤسسة "بيت أطفال الصمود" سألت هبة فاديا سلامة عن أولادها، ردت الأخيرة بغصة: "بخير، عايشين". فاديا إمرأة أربعينية، موظفة إدارية في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في مكتب مخيم شاتيلا، إنفصلت عن زوجها قبل سنوات، واختار أولادها العودة معه إلى غزة. "قالوا لي هذه بلادنا، ونريد أن نعود إليها". لا تمل فاديا الحديث عنهم، "أكبرهم دعاء عمره 24 عاماً، تزوج وانجب صبياً، يعمل وعلاء الأصغر سناً في الأمن الوقائي، أما ابنتي ميساء فهي الصغرى، تزوجت أيضاً، وصارت أماً لولدين". أولاد فاديا يعيشون كلهم في بلدة السجاعية في غزة. تحدثهم أمهم يومياً، تبكي كثيراً وتعيش قلقاً دائماً رغم أنهم ليسوا في مدينة أو مخيم تعرض للإعتداءات الكبيرة. قلقها هذا جعلها تعيش بين جهازين: الهاتف والتلفزيون، فنهار فاديا يبدأ باكراً جداً، "أفتح عيني على التلفزيون، أشعر أن الليل كان طويلاً جداً، وربما وقعت أحداث كثيرة". تكره فاديا الصور والأخبار التي تنقل، ويستفزها "صمت العرب، فشعبنا يموت، هؤلاء الشبان والأطفال الذين يحاربون بأجسادهم، الإسرائيليون دمروا جنين ولم يتحرك أحد". تذهب فاديا إلى عملها شبه مكرهة، تحاول قدر الإمكان أن تؤديه على أكمل وجه، تبتسم ابتسامة حزينة كلما سألها زملاؤها عن أولادها، ترد: "الحمد لله بخير"، ثم تشرد، تأخذها أفكارها إلى فلسطين، تحاول أن تتذكر الصور التي شاهدتها صباحاً، "لكن صور الموت والمجازر تتشابه لكثرتها، وتختلط في مخيلتي". تقول إنها تقرر عشرات المرات كل يوم أن تتوقف عن متابعة نشرات الأخبار، تطفئ جهاز التلفزيون لثوان فقط، ثم تستدير بعصبية، ترفع الصوت وتتسارع دقات قلبها. "أخاف في كل نشرة أن تلفظ المذيعة كلمة "السجاعية"، لا أريد أن أسمعها منها أبداً". كانت فاديا مستعجلة وهي تتحدث، فقد كانت ذاهبة إلى مقهى الإنترنت قرب المخيم، تعلمت منذ مدة كيفية استخدام البريد الإلكتروني، وابنها قال لها إنه سيرسل لها صورته، وهي تتلهف لرؤيتها، ثم ستتحدث مع ابنتها، "الإتصالات صعبة لكنني لا أفقد الأمل، سأبقى في السنترال حتى أحدثها". أولاد فاديا يلومونها دائماً، "يقولون لي لماذا تسألين دائماً عن صحتنا، نحن شباب يا أمي، وهذه بلادنا، لا نستطيع أن نتركها، ويضيفون أنهم بخير، لكنني أقلق دائماً، فأنا أم". بعد أن تطمئن فاديا على أولادها تسأل عن أقارب لها في رام الله، فهؤلاء انقطعت أخبارهم لأيام، لكن ابنها علاء إطمأن عليهم أخيراً وأخبر والدته أنهم بخير. "أن يكون المرء بخير في غزة يعني أنه لا يزال حياً، لكنني أعرف أن ظروف حياتهم صعبة جداً، هل يأكلون؟ وماذا يأكلون، كيف يحمون أولادهم، وكيف يلتقون، هل هم فعلاً بخير، لا أعرف". لا تحلم فاديا إلاّ بأمرين، "أن ألتقي أولادي قريباً، بل قريباً جداً، وأن يفك الحصار عن الرئيس أبو عمار"، وهي متفائلة في هذا الإطار، لكن حلمها الثاني يبدو بعيد المنال، إذ تتمنى أن "يقوم الحكام العرب بواجبهم ويساندوا الشعب الفلسطيني".