منذ الحرب العالمية الثانية صارت الولاياتالمتحدة طرفاً ثالثاً يؤثر ويتأثر بالعلاقات الثنائية بين موسكووطهران. ففي زمن الاتحاد السوفياتي اصبحت ايران جزءاً من طوق اقامه الغرب لمنع انتشار النفوذ السوفياتي ولكن نظام الشاه حرص في الوقت ذاته على ابقاء الجسور مفتوحة مع الكرملين عبر صلات اقتصادية وتجارية وحتى سياسية متنوعة. ولكن موسكو ما بعد السوفياتية لم تقبض ثمناً عن معاملتها طهران بجفاء، بل انها اخذت تخسر على طول الخط، سياسياً واقتصادياً. ولذلك بدأت في النصف الأول من التسعينات محاولات من الجانبين لرأب الصدع وانتظمت علاقات على صعد عدة بينها التعاون العسكري. وهنا دخلت واشنطن مرة اخرى على الخط واستخدمت القروض المالية والسلف السياسية الممنوحة لموسكو أداة ابتزاز وأرغمت روسيا عام 1995 على عقد اتفاق شفوي عرف بتفاهم غور - تشيرنوميردين تعهدت موسكو بموجبه بوقف تصدير المعدات العسكرية الى طهران منذ نهاية عام 2000. إلا ان انتقال الرئاسة من بوريس يلتسن الى فلاديمير بوتين ادخل تعديلات على السياسة الخارجية الروسية حيال ايران وأعلنت موسكو تخليها عن الاتفاق مع الأميركيين وبدأ شهر عسل جديد بينها وبين طهران. وبدا ان العرس لم يدم طويلاً، إذ ان موسكو عادت بعد احداث 11 ايلول سبتمبر الى مواقع الولاء الكامل لواشنطن ودعمتها في حملة "مكافحة الإرهاب". وبدأ تقارب شديد التعقيد بين روسياوالولاياتالمتحدة. وكان ذلك ناقوس خطر لإيران التي تعاظمت مخاوفها من تغير في موقف جارتها بعد ان ادرج اسمها في قائمة "محور الشر" الى جانب العراق وكوريا الشمالية. وأرجئت زيارة كان مقرراً ان يقوم بها خرازي الى موسكو في 19- 20 شباط فبراير من دون اعلان اسباب، ولكن التسريبات الصحافية ذكرت ان الجانب الروسي قرر إلغاء لقاء بين الوزير الإيراني والرئيس بوتين تفادياً لإغضاب الولاياتالمتحدة التي كان نائب وزير خارجيتها جون بولتون يزور روسيا لشرح مخاطر "محور الشر". وزاد من انزعاج الإيرانيين تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي ايفانوف عن ان علاقات بلاده مع ايران "تجارية صرف" متجاهلاً الجيرة والصلات التاريخية والقواسم الجيوسياسية المشتركة. واعتقد محللون ان موسكو قررت ان تقدم علاقاتها مع طهران بائنة لقرانها مع واشنطن. إلا ان المصالح الاقتصادية والسياسية اضافة الى خيبة الأمل في الأميركيين دفعت الكرملين الى مراجعة الحسابات ودعوة خرازي مجدداً واستقباله على اعلى مستوى بدءاً من بوتين ومروراً برئيسي مجلسي البرلمان وصولاً الى وزير الخارجية. بل ان الأخير انتقد ابتداع الولاياتالمتحدة مصطلح "محور الشر" ووصفه بأنه "من مخلفات الحرب الباردة" ودعا واشنطن الى "التخلي عن تصورات عفا عليها الزمن". موسكو، إذاً، لم تكتف باستئناف العلاقات مع طهران بل وجهت للمرة الأولى انتقادات سافرة وشديدة الى سياسة "تعليق اليافطات" بالدول الأخرى. ويرى مراقبون ان زيارة خرازي اعادت الحياة الى العديد من الملفات ومنها التعاون في المجالين النووي والعسكري. وأكدت مؤسسة "اتوم ستردي" المختصة ببناء المنشآت النووية انها تجري مباحثات مكثفة لتصدير مفاعل نووي ثان الى محطة بوشهر التي سيكمل الروس انشاء المفاعل الأول وتشغيله فيها نهاية العام المقبل. ولم يبحث وزير الخارجية الإيراني تفصيلات الصادرات العسكرية ولكن مصادر مطلعة اكدت انه طلب توضيحات في شأن ما ذكر عن احتمال رفض موسكو تصدير اسلحة وتكنولوجيات معينة كانت الولاياتالمتحدة وإسرائيل اعتبرتاها انتهاكاً لعدد من المواثيق الدولية. إلا ان موسكو اكدت ان علاقاتها العسكرية مع ايران "شفافة وقانونية" وتحدت واشنطن ان كانت تستطيع البرهنة بالوقائع على اي من التهم التي وجهتها الى الروس. وإلى جانب العلاقات الثنائية بحثت حلقات اقليمية في مقدمها الشرق الأوسط وأفغانستان وآسيا الوسطى والقوقاز. الى جانب مشكلة الوضع القانوني لبحر قزوين. ويذكر ان هناك تطابقاً أو تقارباً في المواقف ازاء غالبية هذه الملفات. فكل من البلدين يخشى النفوذ التركي في آسيا الوسطى، وحذرت طهران القيادة الروسية من التغاضي عن الوجود العسكري الأميركي في هذه المنطقة وفي منطقة القوقاز. وثمة تماثل في التعاطي مع الملف الأفغاني اذ تخاف موسكووطهران من احتمالات سيطرة القوى الموالية للولايات المتحدة على الحكومة في كابول وتحجيم نفوذ الطاجيك والأوزبك والهزارة الموالين لروسيا وإيران. وفي ما يتعلق بالشرق الأوسط جدد خرازي في محاضرة ألقاها في معهد العلاقات الدولية في موسكو التأكيد على ان طهران لا تعترف اصلاً بإسرائيل لكنه لمح الى انها لن تمانع في التوصل الى تسوية يقبل بها الطرفان شريطة ان تحفظ للفلسطينيين حقوقهم في الأرض والسيادة. ويبدو ان الجانبين حققا بعض التقارب حيال تحديد الوضع القانوني لبحر قزوين الذي كانت ايران تطالب بتقسيمه الى خمسة اجزاء بين الدول المطلة عليه، فيما عارضت روسيا هذا المبدأ لفترة طويلة، ورشحت انباء عن احتمال ايجاد حل وسط عشية او اثناء القمة التي سيعقدها قادة الدول الخمس روسيا وإيران وكازاخستان وأذربيجان وتركمانستان في العاصمة التركمانية الشهر الجاري. ويرى المحللون ان زيارة خرازي لم تضع كل النقاط على الحروف اذ ان موسكو لا ترغب في كشف كل الأوراق قبل عقد القمة الروسية - الأميركية في 23 ايار مايو في موسكو وسان بطرسبورغ.