"انها، بعد كل شيء، واحدة من اجمل الصور التي قدمتها الاوبرا عن المرأة في تاريخها" كان هذا هو الرأي الذي أجمع عليه النقّاد والجمهور، بعد تقديم العرض الأول لأوبرا "البوهيمية" في مدينة تورينو الإيطالية في شهر شباط فبراير 1896، تحت قيادة آرتورو توسكانيني. غير ان هذه الأوبرا التي اسهمت في ادخال الزمن الراهن - ذلك الحين - الى فن كان لا يتوقف عن النهل من الماضي البعيد، او من الاماكن البعيدة للعثور على اجوائه وموضوعاته، لم تكن مجرد عمل يقدم صورة لامرأة، بل كان ايضاً عملاً ينقل المزاج الانطباعي الذي كان سائداً في فن الرسم في اوروبا - انطلاقاً من باريس - في ذلك الحين، الى عالم الاوبرا. ومن هنا قال النقاد والمؤرخون دائماً ان جاكومو بوتشيني ملحن هذا العمل الجميل، انما نهل من رينوار ومانيه ومونيه الرسامين اكثر ما نهل ممن سبقه من موسيقيين. من هنا لم يكن صدفة ان تدور احداث "البوهيمية" في باريس، اواخر القرن التاسع عشر، وتحديداً في اجواء فنانيها ومبدعيها "البوهيميين"، ومن حول قصة مملوءة بالعواطف والصداقة والأحاسيس التي كانت جديدة على عالم فن الاوبرا حتى ذلك الحين. ومن هنا ايضاً لم يكن غريباً ان تُقتبس "البوهيمية" كثيراً، بعد ذلك مثلها في هذا مثل "غادة الكاميليا" التي يبدو واضحاً انها وضعت تأثراً بها، اذ من خشبة المسرح، الى فن السينما والتلفزة، مروراً بفيلم "ايامنا الحلوة" لعبدالحلم حافظ وفاتن حمامة، وصولاً الى فيلم باز ليرمان "الطاحونة الحمراء"، حضرت "البوهيمية" مباشرة او في شكل غير مباشر، لتطبع ذهنيات اجيال من ابناء القرن العشرين. وأساليب حبهم وتعاطيهم مع العواطف. تبدأ احداث "البوهيمية" في شقة بائسة تقع فوق سطح احدى العمارات في حي باريسي يقطنه عدد كبير من الفنانين والأدباء والباحثين عن المجد. وتبدأ تلك الأحداث ليلة عيد الميلاد تشع اضواؤها فوق سطوح مدينة النور البادية من خلال الديكور. أمامنا الآن الشاعر رودولفو والرسام مارتشيللو وهما يحاولان العمل. لكن البرد قارص يشل افكارهما والأيادي، والشقة خلت من أي حطب. وهنا يصل الفيلسوف كولين يرافقه الموسيقي شونار، وبهذا يكتمل عقد الرفاق الأربعة، الذين يعيشون هنا، عادة حياة بؤس مطبقة. ولكن في تلك الليلة بالذات كان شونار كسب بعض الدراهم وأتى الى رفاقه بالحطب وببعض المؤن، لكنه يقول لهم انه يفضل لو يذهبون جميعاً للعشاء في مطعم، تاركين المؤن لأيام اكثر بؤساً. ويرحب الجميع بالفكرة طالما ان الليلة ليلة عيد، ويتوجهون الى المطعم مخلفين رودولفو الذي سينجز مقالة له ثم يلحق بهم. وما ان يخرجوا حتى يسمع رودولفو طرقاً على الباب. وحين يفتحه يجد جارتهم الشابة ميمي التي أتت تستعير بعض الحطب وقد بدا واضحاً من سعالها انها، صحياً، ليست على ما يرام. ويقدم لها رودولفو كأس نبيذ لكي تدفئ قلبها به. وتكتشف ميمي فجأة انها اضاعت مفتاح غرفتها. وإذ يسري تيار هواء يطفئ الشمعة يبحث الاثنان عن المفتاح في الظلام. ولكن حين يعثر رودولفو على المفتاح يخبئه. ثم يتعانق الاثنان. وإذ يعلو صراخ الرفاق من الخارج يستعجلون رودولفو يقترح هذا على ميمي ان تنضم اليهم. احداث الفصل الثاني تدور في مقهى مورنوس في الحي اللاتيني حيث يقدم رودولفو ميمي الى رفاقه، ويجلس الجميع الى طاولة للعشاء، فإذا ب"موزيتا" التي كانت يوماً صديقة لمارتشيللو تدخل متأبطة ذراع عشيق جديد لها، هو الثري العجوز السيندورو. وهي تبذل كل ما لديها من حيل للفت انتباه صديقها القديم الذي تنتهي بالارتماء بين ذراعيه تاركة مهمة دفع الحساب لألسيندورو. الفصل الثالث تدور احداثه بعد ذلك بأشهر عند "باب الجحيم"، وهو أحد ابواب باريس. ويبدأ الفصل بميمي وهي تبحث عن مارتشيللو الذي يعيش الآن هناك مع موزيتا في نزل متواضع. وما ان تجده حتى تسرّ اليه بهمومها: ان رودولفو بات شديد الغيرة عليها حيث ان حياتهما معاً صارت لا تطاق. وهي إذ تلمح رودولفو داخلاً المكان تختبئ لئلا يراها. ويصل هو ويبدأ بالشكوى قائلاً لمارتشيللو ان ميمي، في الحقيقة، مصابة بداء السل، وان حياة البؤس التي يفرضها عليها ستؤدي الى موتها ان لم ينفصلا. اذاً، تدرك ميمي الحقيقة .. ولكن لأنها تحب رودولفو حقاً تقرر ان تبقى معه حتى الربيع المقبل. وإذ ينسحب العاشقان تبدأ المعركة بين موزيتا ومارتشيللو، لأن هذه الفاتنة لا تكف عن مغازلة نزلاء المكان جميعاً. وفي الفصل الرابع نعود الى البناية الاولى، لكن الفصل ربيع. وها هما مارتشيلو ورودولفو يتذكران حكايتي غرامهما. وينضم اليهما سونار وكولين. وفجأة يفتح باب العمارة على موزيتا وفي رفقتها ميمي التي تريد مشاهدة رودولفو للمرة الأخيرة .. ذلك انها الآن تحتضر. ويسرع الرفاق للتسرية عنها ويشترون لها معطفاً يدفئها فيما يركض مارتشيللو لاستحضار طبيب لها. وهكذا تبقى ميمي وحيدة مع رودولفو ويتواعد الاثنان على عدم الافتراق الى الأبد ... وبعد هنيهة تغفو ميمي وقد هدّها التعب والمرض. وحين يعود الآخرون، يكتشف الجميع ان ميمي ليست نائمة بل ميتة. وهنا يرمي رودولف بنفسه فوقها وقد هدّه اليأس. أحداث اوبرا "البوهيمية" مقتبسة اصلاً من كتاب "مشاهد من الحياة البوهيمية" كان الكاتب الفرنسي هنري مورغر 1822 - 1861 نشره على حلقات في مجلة "القرصان" خلال اربعينات القرن التاسع عشر. وإذا كان الكتاب يتألف من فصول وحكايات أراد من خلالها مورغر أن يعيد الاعتبار الى مفهوم "البوهيمية" بعد ان صار يرمز الى حياة التشرد والفوضى والتسكع، فإن الاوبرا لم تستعر من ذلك الكتاب سوى صفحات قليلة تروي حكاية واحدة لا اكثر. وكان هذا ملائماً لبوتشيني، الموسيقار الايطالي الذي كانت غايته ان يقدم عملاً معاصراً مكثفاً يتملق، موسيقياً، من حول "ثيمات" اساسية قليلة يجرى التنويع عليها بل يمكن القول ان هذه "الثيمات" من الناحية الموسيقية المجردة ليست بذات قيمة كبيرة. فالهم هنا كيفية استخدامها وقدرتها على التعبير عن المواقف والعواطف، مثلما تفعل البقع اللونية في الرسم الانطباعي .. ما يتيح لبوتشيني، حاذياً في هذا حذو الاستاذ الكبير فاغنر، ان يعيد استخدام "الثيمات" على طول زمن المسرحية، محولاً اياها الى اداة تذكير بالمشاعر والعواطف التي كان سبق ان اوصلها الى الجمهور في مشاهد سابقة. وكان هذا الاستخدام "الوظائفي" للموسيقى - اذا جاز القول - واحداً من الأسباب الاساسية للنجاح الساحق الذي حققته "البوهيمية" حين عرضت اولاً في تورينو، ثم في باريس حيث سرعان ما اضحت جزءاً من "ريبرتوار" المدينة. وأضحت، كذلك، واحدة من اكثر الاوبرات شعبية في تاريخ هذا الفن حتى وإن كان نقاد كثر قد اخذوا عليها دائماً طابعها الاستهلاكي وتوجهها الى "دغدغة" عواطف الجمهور. تعتبر اوبرا "البوهيمية" من اشهر اعمال جاكومو بوتشيني بعد "مدام باترفلاي" و"مانون ليسكو" واخصه "توسكا". وبوتشيني ولد العام 1858 في مدينة لوكي الايطالية. وهو درس الموسيقى باكراً اسوة بأبناء اسرته من اصحاب المهنة. وتقول الحكاية انه حين كان في السابعة عشر من عمره توجه الى مدينة بيزا على قدميه حتى يشاهد اوبرا "عايدة" لفردي. وان مشاهدة تلك الاوبرا كانت الصاعق الذي فجر موهبته إذ انه قرر منذ ذلك الحين ان يكون فن الاوبرا مجاله. وهكذا كان، بعد، في العشرين حين كتب اول اعماله - ولم يكن اوبرالياً بالطبع - بعنوان "مقدمة سيمفونية". وفي العام 1883 كتب "نزوة سيمفونية". اما عمله الاوبرالي الاول "لي فيللي" الدارات"، التي رفضت اولاً ثم حين قدمت اطلقت على صاحبها الذي لم يتوقف مذاك، وحتى وفاته في بروكسلبلجيكا عام 1924 عن كتابة الاعمال الاوبرالية، وصولاً الى كتابته العام 1910 لأوبرا اميركية عنوانها "لا فانشيولا دبل ويست" قدمت في "متروبوليتان اوبرا" في نيويورك، واسبغت على سمعته مزيداً من العالمية. اما اوبرا "توراندوت" التي يعتبرها كثيرون اهم ما انجز، من الناحية الفنية البحت، "فقد بقيت دون انجاز لأنه اصيب بالسرطان الذي قضى عليه، فيما كان يعمل عليها.