الإجتياح الإسرائيلي الأخير لمدن الضفة كشف أو أعاد إكتشاف أمور كثيرة. لاحظ مثلاً أن الشخص محل الخلاف والجدل هو الرئيس ياسر عرفات. هل هو إرهابي؟ هل يدعم الإرهاب؟ هل إتخذ موقفاً حازماً ضد الإرهاب؟ هل تلفظ بما هو مطلوب منه، إسرائيلياً وأميركياً، لشجب الإرهاب؟ هل لا يزال يملك شرعية تمثيل الشعب الفلسطيني؟ هل ينبغي التفاوض معه؟ هل ينبغي السماح له بالإجتماع بأعضاء حكومته؟ بل هل ينبغي لوزير الخارجية الأميركية، كولن باول أن يجتمع معه، أم لا؟ ثم لاحظ أنه تحت الإعتقال، رغم أنه رئيس انتخبه شعبه، وفي إنتخابات أشرفت عليها الأممالمتحدةوالولاياتالمتحدة. وحقيقة أنه يقود شعباً تحت الإحتلال، ويخوض حرباً غير متكافئة من أجل الإستقلال ليس لها موقع من الإعراب في الجدل السياسي الدائر الآن. نعم العرب يرفضون إعتقال عرفات، ولا يقرّون بشرعيته. بل يشجبونه علناً. لكنهم لم يحولوا الموضوع إلى قضية مطروحة للخلاف والإختلاف مع واشنطن. إعتقال عرفات تحول إلى أمر عادي، لأن الولاياتالمتحدة تقرّ بحق إسرائيل في تنفيذ هذا الإعتقال. في الصورة المقابلة هناك شارون. جنرال لا يعرف لغة السياسة، ويبرهن دائماً على أنه يتحلى بكل مواصفات مجرم الحرب. هدفه الإحتفاظ ب "يهودا وسماريا" الضفة الغربية، حتى إذا تطلب ذلك ترويع المدنيين وارهابهم. يعلن هذا الجنرال أنه لا يريد إتفاقاً نهائياً، أي لا يريد السلام، لأن ذلك سيمنعه من الإحتفاظ ب "يهودا وسماريا". سمعته الدموية، وتورطه في جرائم وإنتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان ولمبادئ القانون الدولي، معروفة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية. حربه القذرة حالياً ضد الشعب الفلسطيني ليست إلا إضافة أخرى إلى سجله الطويل. بإسم "الإرهاب" وتحت ظلال أيديولوجيا الهولوكوست تنفذ إسرائيل تحت قيادة شارون المذابح في حق شعب أعزل، وتحت الإحتلال، ولا يملك دولة تدافع عنه. وبإسم الإرهاب يقوّض شارون البنية التحتية للسلطة الفلسطينية، ومعه يقوّض إتفاقات أوسلو التي تم التوقيع عليها في البيت الأبيض. كان المفترض أن يجعل ذلك من شارون شخصاً لا يستحق، بأي معيار من المعايير القانونية والسياسية، أن يكون طرفاً في عملية سلمية هدفها سياسي وإنساني. لكن هذا لم يحدث. على العكس تسمح الإدارة الأميركية لنفسها بمطالبة عرفات، والقادة العرب، بإعلان شجبهم للعمليات الإنتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين. لأن هذه العمليات هي السبب وراء حرب شارون. ماذا عن قتل المدنيين الفلسطينيين؟ أليسوا هم أيضاً أبرياء؟ ماذا عن الإحتلال بإعتباره أبشع صور الإرهاب؟ من ناحيتها، تنغمس الأطراف العربية في دفاع باهت عن عرفات، في الوقت الذي كان يجب أن تضع شارون، وليس عرفات، في موقف دفاعي. لكن الواضح أن فكرة عزل شارون سياسياً، وعدم تأهيله لأن يكون طرفاً في أي عملية سلمية، غير مطروحة عربياً على الإطلاق. وهذا غريب. والحقيقة المرة هي أن مسار الصراع، ولأكثر من ربع قرن الآن، بما في ذلك ما كان يعرف بعملية السلام، تميز بظاهرة مزدوجة وبارزة للعيان. من ناحية هناك مسايرة أميركية ومجاراة للسياسة الإسرائيلية. ومن ناحية ثانية هناك مسايرة عربية ومجاراة للسياسة الأميركية تجاه إسرائيل. وإسرائيل هي الكاسب في كلا الحالين. لأن المسايرة العربية للولايات المتحدة هي في الأخير مسايرة لإسرائيل. الأمثلة على المسايرة من كلا الطرفين أكثر من أن تحصى. لكن خذ أقربها وأبرزها الآن. إختطاف إسرائيل لمفهوم الإرهاب، وتوسيعه كأيديولوجيا تشمل بغطائها بشاعات القوات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. الذي يقود حرب "الإرهاب" الآن هي إسرائيل، وليس الولاياتالمتحدة. ولا تستطيع هذه الأخيرة إعادة صياغة أيديولوجيا الإرهاب كمفهوم عالمي، وإنقاذه من براثن إسرائيل كقوة إقليمية ضيقة الرؤية، عنصرية الهدف. على العكس وجد الرئيس الأميركي نفسه، ومن خلفه الكونغرس والإعلام الأميركي، متحدثاً بإسم شارون يتفهم حربه على الإرهاب، ويتغاضى عما يقترفه من بشاعات تحت هذا المسمى. حاول بوش، تحت إلحاح أوروبي وعربي، إستعادة زمام المبادرة. وطلب من شارون سحب القوات الإسرائيلية من المدن التي إحتلتها أخيراً في الضفة الغربية. لكن شارون رفض ذلك علناً. صحيفة ال "نيويورك تايمز" إعتبرت ذلك إهانة لرئيس الولاياتالمتحدة. لكن يبدو أن الإدارة لها رؤية أخرى. فقبل وصوله إلى إسرائيل أعلن وزير الخارجية الأميركي كولن باول تراجع الإدارة عن إصرارها على سرعة الإنسحاب جملة وتفصيلا. واللافت أن الدول العربية لم تلتقط الخيط وتجعل من الإنسحاب شرطاً، بل تركته أمراً محصوراً بين الأميركيين والإسرائيليين. الطرف الفلسطيني هو الوحيد الذي يتمسك بهذا الشرط بعد تكشف حجم المجازر التي أرتكبت في جنين. الطلب الأميركي، ثم التراجع عنه يشكل مسايرة أميركية للتعنت الإسرائيلي. والموقف العربي لا يقل مسايرة هو الآخر. على الجانب العربي هناك أمثلة على المسايرة يصعب حصرها. هناك مثلاً القبول غير المشروط بالرعاية الأميركية لمفاوضات السلام، رغم أن أميركا حليف إستراتيجي لإسرائيل. بل تجاوز العرب ذلك إلى مسايرة النهج الذي إختارته أميركا في ممارسة هذه الرعاية. وهو نهج المفاوضات المفتوحة بدون جدول معروف، وبدون سقف زمني، وبدون نهاية معروفة. والنتيجة أن "عملية السلام" أختزلت في ورقتين إجرائيتين: مقترحات تينيت، وخطة ميتشل. أما الموضوع الرئيسي فتم تجاهله. هذا نهج يسهل مسايرة إسرائيل في خياراتها وأهدافها من المفاوضات، ثم فرض ذلك على الجانب العربي. السادات كان أول من وضع سابقة المسايرة. ولذا كان أول من أرغم على قبول تحويل مبادرته إلى مجرد آلية سياسية لتحييد مصر عسكرياً في الصراع. والتحييد هدف إسرائيلي قديم. ومن معالم المسايرة العربية أيضاً: قبول فكرة دولة فلسطينية منزوعة السلاح، وبتقديم الإعتراف والتطبيع، وإنهاء المقاطعة، مقدماً ومن دون أي مقابل. والقبول بأن المحور الأساسي لعملية السلام هو الأمن الإسرائيلي. والقبول بالتغاضي عن سياسة التوسع في الإستيطان، والقبول بأن إتفاقات السلام تقيّد الأطراف العربية، إلا إسرائيل. ولذا شكلت عملية السلام غطاءً لإسرائيل في ضرب المفاعل النووي العراقي، وإجتياح لبنان، وإغتيال القيادات الفلسطينية، والإجتياح الأخير للضفة وغزة، وتدمير السلطة، وإعتقال عرفات وعزله، والتحكم في برنامجه اليومي، ومنعه من حضور قمة بيروت، على مرأى من القادة العرب جميعهم. كل ذلك والعرب لا يستطيعون، في ردّهم، تجاوز مستوى الإحتجاج السياسي. وحتى هذا الإحتجاج يتم التراجع عنه بمجرد دخول الوساطة الأميركية على الخط، ليتحول بدوره إلى مسايرة ومجاراة جديدة. والأمر الغريب الذي يتحدى كل منطق أن كل المسايرات العربية وما تطلبته من تنازلات لم تقابل من الولاياتالمتحدة بأي تقدير أو تفهم. على العكس، بمقدار ما يساير العرب ويجارون، بمقدار ما تطالبهم الولاياتالمتحدة بالمزيد. أما إسرائيل فتحضى من الولاياتالمتحدة بالمزيد من التفهم والتقدير، بل والتبرير إذا ما تجاوزت في عنفها وعدوانيتها تجاه العرب، والفلسطينيين خصوصاً كل حد. كيف ينبغي أن نفهم ظاهرة المسايرة والمجاراة هذه، لدى كلا الطرفين العربي والأميركي؟ المقارنة هنا ضرورية. كما هو واضح التشابه بين المسايرة العربية، والمسايرة الأميركية تشابه في الشكل، أو تشابه في الظاهر. الولاياتالمتحدة دولة عظمى تساير وتجاري دولة صغيرة تابعة. لكن الدول العربية دول متخلفة وضعيفة تساير دولة عظمى. ولذا فإن مضمون المسايرة، أو باطنها، عند كل منهما مختلف كل الإختلاف. المسايرة الأميركية آلية سياسية. وهي بذلك لا تتعلق بالأهداف الإستراتيجية، بل بالآليات المرحلية للوصول إلى تلك الأهداف. هنا تعطي المسايرة للولايات مرونة تحتاج إليها. يدعم ذلك أن مسايرة أميركا يفرضها إستعداد الأطراف العربية للإستجابة للضغط، على عكس إسرائيل. إلى جانب ذلك قد تحتاج الإدارة إلى المسايرة لتأكيد مصداقيتها كوسيط. وبما أن المسايرة توحي بالإكراه، فإن الدولة العظمى تلجأ إليها لإنجاح مهمتها في التقريب بين الطرفين من أجل السلام للجميع. من ناحيتها لا تعير الأطراف العربية إهتماماً لحقيقة أن هناك تطابق بين السياستين الأميركية والإسرائيلية في المنطقة. وبالتالي فإن المسايرة هي تعبير عن ذلك التطابق، وليس عن حرص على مصداقية ليست موجودة أصلاً. لكن المسايرة الأميركية تحقق شيئاً آخر، وهو تشجيع العرب على إقتراف الفعل نفسه، لإثبات مصداقيتهم، وتأكيد إلتزامهم بالسلام. في المقابل، المسايرة العربية هي خيار من لا خيار له، أو هكذا يبدو. هي ليست آلية سياسية، بل السياسة ذاتها. المسايرة الأميركية تنطلق من عاملين : تطابق الأهداف الإستراتيجية مع إسرائيل، وضغوط القوى المؤيدة لهذه الأخيرة في الكونغرس، ومن جانب جماعات الضغط اليهودية، إلى جانب الإعلام. هنا تحقق المسايرة أهدافاً سياسية للإدارة محلياً وإقليمياً. لكن المسايرة العربية ليست إلا لكسب شهادة حسن سيرة وسلوك لدى الإدارة. والسبب أن الدول العربية تعتمد في أمنها، وفي إقتصادها على الولاياتالمتحدة. لكنها تختلف عنها في طبيعتها وأهدافها السياسية. من ناحيتها تريد الولاياتالمتحدة من العرب النفط، والأسواق، والممرات التجارية. وتريد الإستقرار الإقليمي في سبيل ذلك. لكن الدول العربية لاتريد من أميركا إلا مساعدتها على تحقيق الإستقرار الداخلي، وعلى حفظ توازن القوى فيما بينها. هذه العلاقة غير المتكافئة كانت ولا تزال هي الإطار الذي تمارس فيه المسايرة من الطرفين الأميركي والعربي. عربياً يبدو أن الإختلاف في طبيعة المسايرة لدى كل منهما فتح مجالاً لعملية نصب واضحة، كما يقول الأمين العام للجامعة العربية، عمرو موسى. للمرة الثانية على الأقل يؤكد عمرو موسى أن العرب تعرضوا أثناء عملية السلام لعملية "نصب كبيرة". عمرو موسى لم يفصل في ذلك كثيراً، لكنه قال أن إسرائيل غير معنية بالسلام، ولا بما وقعته من إتفاقات لتحقيق ذلك السلام. مما يعني أن تلك الإتفاقات كانت مجرد أفخاخ نصبت للأطراف العربية في الوقت الذي تستمر فيه إسرائيل بتنفيذ حربها البشعة ضد الفلسطينيين، وتستمر في سياساتها التوسعية في الأراضي الفلسطينية. وأهمية ما يقوله موسى أنه في حينه كان وزير خارجية مصر، ولعب دوراً بارزاً في التوصل إلى تلك الإتفاقات. وإذا كانت المسايرة في الإطار الذي نتحدث عنه تخل عن المسؤلية، فإن النصب إنتهاك لذكاء الشعوب ولإيمانها. وكلاهما إعتداء فاضح على حق هذه الشعوب في الحياة، والحرية، والأمن. ولايحق لبوش أن يشتكي من العمليات الإنتحارية، لأن سياساته، وسياسات من قبله هي أحد أسبابها. وقد كانت آخر هذه العمليات يوم الجمعة الماضي. وهي تثبت مرة أخرى أن حرب شارون تدفع بالمنطقة نحو الهاوية. فهل تتدارك واشنطن خطورة مسايرتها للحكومة الإسرائيلية ؟ لكن قبل ذلك لابد للدول العربية من التوقف عن مسايرة واشنطن بأي ثمن. * كاتب سعودي.