على مدى سنوات، كان الزميل ثائر صالح يزود "الحياة" حيناً تلو آخر موضوعات متنوعة من مقر اقامته في هنغاريا المجر. ومع انه ركز على الكتابات التاريخية والآثارية والفكرية، الا انه كان يعود في معظم الاحيان الى ترجمة مختارات شعرية وقصصية من الأدب الهنغاري المجهول تقريباً في العالم العربي. بعض هذه الترجمات وجد طريقه الى كتاب صدر أخيراً للزميل ثائر صالح تحت عنوان "لمحات من الأدب المجري" دار المدى دمشق ويتضمن اضافات غنية غير تلك التي نشرت على مدى سنوات في ملحق "آفاق" في "الحياة". واذا كانت عوامل النشر في صحيفة يومية تتأثر بالأوضاع السياسية والثقافية السائدة في حينه، فإن المادة التي جاءت في هذا الكتاب تقدم صورة واضحة الى حد بعيد للأدب المجري قديمه وحديثه. ويذكر صالح في مقدمة الكتاب، وهو أمر حدثني به كثيراً في الماضي، ان الأدب المجري ما زال بعيداً من متناول القارئ العربي "إذ لم ينشر من الأدب المجري باللغة العربية سوى القليل في محاولات تعد على أصابع اليد الواحدة، أبرزها الانطولوجيا التي صدرت في مصر قبل قرابة أربعة عقود، وترجمات عدد من قصائد الشاعرين ايتلا يوجف وشاندور بتوفي التي قام بها الشاعر فوزي العنتيل قبل اكثر من عقدين". وغني عن القول ان ثائر يعتبر ان هذه المحاولات الجادة لم تغطّ سوى "حيز ضيق من عالم الأدب المجري الرحيب". إذاً الترجمات المتتابعة التي قام بها صالح تدخل في سياق جهد واع يهدف الى تعريف القارئ العربي ببعض الملامح من الأدب المجري. ويتأكد هذا الأمر من نوعية القصائد والقصص التي اختارها المؤلف، فهي تغطي فترات زمنية متباعدة تبدأ في القرن الثامن عشر وتستمر حتى نهاية القرن العشرين القرن الماضي. وقد يبدو للوهلة الأولى ان الأدب الهنغاري المجري محلي الطابع ويقتصر على موضوعات متشابهة في صيغ مختلفة. غير ان الواقع مناقض تماماً لهذا التصور الأولي، ذلك ان هنغاريا عرفت تاريخاً عاصفاً في القرون الثلاثة الماضية أهم ما فيه انها كانت جزءاً من الامبراطورية النمسوية - المجرية التي اعتبرت في القرن السابع عشر احدى أهم الدول الأوروبية الكبرى واكثرها تطوراً. وقد عكس الادب المجري منذ ذلك الوقت الاتجاهين الآتيين: إتجاه النضال من اجل التحرر من سيطرة الدولة النمسوية، وكذلك اتجاه استخدام الاساليب الادبية والفكرية التي وفرتها "العضوية" في مثل تلك الدولة الامبراطورية المتطورة. وقد حرص المؤلف على ان يخصص الفصل الأول من الكتاب للحديث عن "تاريخ الأدب المجري"، وهي خطوة ضرورية وناجحة بالفعل لأنه من الصعب على القارئ العربي غير المسلّم بذلك التاريخ العاصف ان يستوعب كل القيم الثقافية والجمالية في المقطوعات المترجمة ما لم يربط كتابها وظروف كتابتها بالأحداث السياسية والاجتماعية الراهنة لها، خصوصاً ان بعض مواضيع القصائد والقصص يعود الى مرحلة الاحتلال العثماني للمجر، وهو الاحتلال الذي يبدو ان بصماته ظلت راسخة في الوجدان الأدبي الهنغاري حتى منتصف القرن الماضي. وفي الختام تبقى ملاحظتان اساسيتان: الأولى انه كان من الافضل لو ان الزميل ثائر عمد الى اعطاء مخطوطة الكتاب الى محرر متخصص كي يحرر النصوص من بعض الاخطاء اللغوية والقواعدية التي، وان لم تقلل من جمالية الترجمة واسلوبها الشعري الرصين، الا انها تسيء الى الجهد المبذول بشكل أو بآخر. والملاحظة الثانية انني كنت أتمنى لو ان ترتيب النشر اعتمد منطقاً زمنياً تصاعدياً يتناغم مع التسلسل الزمني الذي أورده المؤلف في فصل "تاريخ الأدب المجري"، فمثل هذا السرد المتتالي يساعد القارئ في تتبع نمو الموضوعات الأدبية من جهة وتطور اساليب الصوغ التعبيري من جهة اخرى. صحيح انني قرأت القسم الاكبر من القصائد والقصص في وقت سابق عندما كنت أعدها للنشر في "الحياة"، لكن الإطلاع عليها مجدداً مع الإضافات انطلاقاً من الفصل الأول التوثيقي اعطاني مجالاً أوسع للتعرف على الأدب المجري في تطوره الابداعي... وفي علاقته بحركة المجتمع المجري على مدى القرون الثلاثة الماضية.