تخيل أن تكتب رواية ثم بعد ثلاثين عاماً من نشرها تفوز بجائزة عالمية كبرى مثل جائزة المان بوكر الدولية، هذا تحديداً هو ما حدث مع الروائي لاسلو كراسناهوركاي ومع وروايته (تانغو الخراب) التي ترجمها مؤخراً المترجم السوري الحارث النبهان ونشرتها دار التنوير، الجدير بالذكر أن لاسلو كراسناهوركاي روائي هنغاري من مواليد 1954م، كان لنا معه هذا الحوار الذي هو الأول مع صحيفة أو وسيلة إعلام عربية.* هذه المقابلة -كما أعرف- هي أول مقابلة لك مع صحيفة عربية ما الذي تود قوله لقرائك العرب؟ * أجل هذا صحيح، هي أول مقابلة بالعربية، أما ما أود قوله للقراء العرب فقد قلته في الرواية، وأنا على ثقة أن القراء العرب يفهمونه. * هل تنبأت روايتك بسقوط الشيوعية؟ وهل هي ابنة تلك المرحلة وحدها؟ * سقوط الشيوعية السوفيتية كان متوقعاً من قبل الشيوعية السوفيتية نفسها، يمكنني استنباط هذه الحقيقة من واقعنا في الثمانينيات، لكن روايتي (تانغو الخراب) لم تكن تتحدث عن النظام الشيوعي الهنغاري، وإنما عن العالم، تناولت حالة الطبيعة البشرية الميتة، حينما كتبت هذه الرواية ظننت أنني كتبت كتاباً للجميع وعن الجميع، عن كل واحد منا عن حياتنا اليومية وعن الكارثة التي نحن فيها. * يبدو البناء الفني للرواية قد صمم بعناية وحرص قبل كتابة الرواية، هل هذا صحيح؟ وهل تتبع هذه الطريقة دائما؟ * كلا، إطلاقاً، إنني أتبع غريزتي فقط في رواية (تانغو الخراب) كما في كل رواياتي، لم يكن ثمة أي بناء مسبق في ذهني، أكتب فقط في حال إذا ما كانت الرواية يجب أن تكتب، إنني آخذ هذا التساؤل بعين الاعتبار دائماً، وأكتب الجملة الأولى وأرى، هل هذا مهم للغاية فعلا؟ وهل كتبت أنا هذه الجملة أم أنها كتبت نفسها؟ إذا ما كان الجواب نعم، يمكنني بالتالي الكتابة أكثر، في هذه الحالة، الرواية كلياً تعبر عن نفسها، وتخلق نظامها وبناءها الفني الخاص، تعرف الرواية بناءها الفني الملائم لها من أول كلمة إلى آخر كلمة أكثر مني، لهذا فإنني بحاجة إلى غريزتي فقط، فبمثل هذه الغريزة يمكنني أن أتحدث وأن أكون حذراً، وأن أسمح للأشياء بالمضي قدماً بسلطتها الذاتية، وهذه هي أفضل وسيلة، في الواقع، لا يحتاج الكاتب إلى إرادة أنانية، وإنما إلى انضباط صارم ليدع الأشياء تمضي قدماً كما ينبغي لها أن تكون. * كان ثمة إشارات غير مباشرة في الرواية عن القمع والفساد، هل كان ذلك جزءاً من جمالية الرواية أم هروباً من الرقابة؟ * لم تلعب الرقابة دوراً، أنا من جيل لم تكن فيه الشيوعية السوفيتية مخيفة، بل كانت تافهة، تافهة جداً، لهذا كتبت هذه الرواية دون أدنى اعتبار للرقابة مطلقاً، على كل حال لم أكن واثقاً حينها من إمكانية نشر روايتي (تانغو الخراب)، وكانت مفاجأة كبيرة بالنسبة لي حين تمكنت من ذلك، كانت الرقابة مثل الشرطة أو غيرها من مؤسسات الدولة الشيوعية كسولة جداً ومهملة، لهذا كانت الرواية مصممة على أساس الجوانب الجمالية والفلسفية وحدها. * هل يمكن أن تخبرنا عن التأثيرات الدينية في الرواية؟ وكيف استثمرتها فنياً؟ * إذا كنا نفكر في الدين كأمر يهذب الرغبات المتسامحة لشخصيات الرواية، فبالتأكيد أن هذه الرواية بشخصياتها لها جانب ديني، لأن هذا النوع نفسه من الشخصيات لديها شيء من هذا القبيل، موقف كان محدداً من قبل مهمتي وحدها وهي أن أكون مخلصاً لشخصياتي ومنضبطاً في تركها تعبر عن نفسها. * اللغة الهنغارية لغة حديثة بالنسبة للغات الأوروبية الأخرى، ما هو تأثير ذلك على الأدب الهنغاري؟ * اللغة الهنغارية قديمة للغاية مثل جميع اللغات الأوروبية الأخرى، لكن الأدب الهنغاري أحدث بكثير جداً من غيره من الآداب الأوروبية وغير الأوروبية كاليونانية واللاتينية والعبرية والعربية، وقد كان تأثير ذلك عميقاً، فالآداب الأوروبية وغير الأوروبية القديمة توفر للناس وسيلة للتعبير عن أنفسهم، أعلى درجات التعبير، وبالنظر إلى الأدب الهنغاري فقد تأثر بشكل أعمق وأقوى من خلال اللاتينية، ثم تأثر لاحقاً بشكل مباشر وكبير بالأشكال الأدبية الألمانية، في الواقع إن الأدب الهنغاري كبناء بالمعنى الحديث هو حديث فعلاً ويمكن القول إنه منذ بضعة قرون فقط، وكان تأثير ذلك ذا أهمية استثنائية، على سبيل المثال -وهذا هو زمان ومكان قول ذلك- أن الهنغارية لديها أفضل ترجمة للقرآن الكريم أو الشعر الصوفي واللذين كان لهما تأثير سحري على بعض شعرائنا وكتابنا العظيمين، وبهذا المعنى فإن تأثير الروح العربية هذه الأيام ربما أكثر عمقاً بالنسبة للشعر المجري مما قبل. * تكتب جملاً طويلة ذات تشبيهات واستعارات متتالية، لماذا؟ وهل هذا نمط سائد في الأدب الهنغاري عموماً؟ * أستخدم جملاً أطول من الشكل المعتاد لأن النص الأدبي بالنسبة لي يجب أن يكون قريباً من الطريقة التي يفكر بها الناس، إذا كنت تفكر بإقناع شخص ما فإنك لا تحتاج كثيراً إلى الجمل القصيرة، بل على العكس إن الجمل القصيرة عوائق في مثل هذه الحالة! إذا كنت ترغب في إقناع الناس -وهذا ما أريده أنا!- فإنك بحاجة إلى هذا النوع من بناء الجمل حيث يمكنك التحدث دون أي عقبة، أليس كذلك؟ هذا هو ما حدد طريقتي في الكتابة، أن أجد ما هو أفضل شكل للتعبير في اللغة الأدبية في كتبي، وفي الجانب الآخر من هذا السؤال، ما الذي يريد الأدب إيصاله؟ في رأيي أن للأدب قوة سحرية ودوراً سحرياً في مستوى عال من التفكير البشري يحتاج إلى أداة استثنائية وهي اللغة السحرية، واللغة السحرية لديها طريقة استثنائية في إيجاد شكلها، على سبيل المثال التكرار الطقوسي، والتكرار الطقوسي لا يتسامح مع الجمل القصيرة، إنه تيار لا نهاية له من الأفكار والمشاعر والروح. * ما هو تعليقك حول ما يقال حالياً من تأثير كافكا وبيكيت عليك؟ * لم أكن لأصبح كاتباً لولا كافكا، كنت ربما في العاشرة أو الحادية عشرة حينما سرقت (القلعة) من مكتبة أخي وقرأتها سراً، لأنني كنت أريد أن أثبت وأبرهن لأخي أنني قادر على مشاركة الحديث مع أصدقائه، كان أخي يكبرني بستة أعوام، وكانت رغبتي الأعمق هي فرصة الدخول ضمن دائرة أصدقائه، بالطبع لم أتمكن من فهم شيء من الكتاب حينها، لكنني قرأته كما لو كان كتاباً مقدساً، لا شيء للفهم، لكنه بالمجمل كان فاتناً! نفس الحالة حدثت لي مع بيكيت حينما قرأت أشعاره لأول مرة، لم أفهمه بالفعل، لكن تولد لدي شعور أنه شعر رائع! حينما تعجب عادة فإنك لا تسأل عما أنت معجب به! فقط تترك نفسك تتمادى بالافتتان به. * نشرت روايتك عام 1985م، ثم فازت بجائزة البوكر الدولية بعد ثلاثين عاماً من ذلك، كيف تفسر تأخر اكتشافك في الغرب؟ * في التاريخ الحقيقي للأدب -كما أعتقد- لا يوجد شيء مثل «اكتشاف متأخر جداً»، ومن جانب آخر إذا ما حصل كتاب بعد سنوات عديدة على جائزة رائعة مثل جائزة البوكر فهذا يثبت بقاء أهمية العمل. سرقت «القلعة» حباً في كافكا النص تفسده الجمل القصيرة * هل يمكن أن تحدثنا عن الأدب الهنغاري وأبرز قضاياه؟ * كان الشعر وما يزال أهم عنصر في الأدب الهنغاري، كان ثمة حقاً بعض الشعراء العظماء من هنغاريا وكذلك اليوم، وللأسف أعمالهم لم توفق بترجمة جيدة لأن الشعر الجيد والأدب الجيد غير قابلين للترجمة، لكن ربما سيأتي ذات مرة من يستطيع أن يحدثكم عمّا أعجبه في الشعر الهنغاري، إنني أتبع هذا التقليد وأحاول استخدام اللغة الشعرية. * بم يختلف الأدب في شرق أوروبا عنه في غرب أوروبا؟ وهل ما يزال ثمة اعتقاد بوجود مركز وأطراف في الأدب أيضاً؟ * باختصار: نعم ثمة فروقات لكنها في انحسار لأن التقاليد العالمية لا تقهر، ففي مثل هذه الظروف ستصبح الرداءة إلزامية، ما أكثر من أن تظهر الرداءة نفسها على أنها أعلى مستوى للتعبير البشري، إنه فظيع. * في النهاية، كيف كان العمل على الفيلم المأخوذ عن الرواية؟ وما مدى رضاك عنه؟ * أعطيت كل شيء صديقي المخرج السيد (بيلا تار): العنوان والشخصيات والقصة والكلمات والجمل والإيقاع واللحن والنص، وأعتقد أننا قمنا بعمل فيلم مهم منها، إنني فخور بذلك وكنت سعيداً بهذا التعاون، بالمناسبة أنا ملول من الأفلام، لكن العمل مع السيد تار استثنائياً، كانت مجرد مساعدة بسيطة لصديقي. بيلا تار