التصور بأن حملة عامة أو إعلاماً موجهاً كفيل بتغيير رأي عام تجاه سياسة أو تجاه قوة معينة خطأ جسيم، حتى وإن كانت هذه القوة هي الولاياتالمتحدة الأميركية بما تملكه من ترسانة إعلامية متعددة الوسائل والإمكانات. إن حملة علاقات عامة أو إعلاماً موجهاً قائماً على سياسات ظالمة وغير متوازنة ومنحازة ستكون نتيجتها عكسية. وأستطيع أقول بأن الرأي العام العالمي، بما في ذلك الرأي العام العربي والإسلامي، بلغ درجة كبيرة من الوعي والقدرة على التحليل والفهم، ويستطيع أن يميز الصالح من الطالح والصادق من المزور، ومن يتجاهل ذلك فإنما يخدع نفسه. ولم يعد هذا الأمر مقصوراً على النخبة، بل تخطاه إلى عموم البشر نتيجة لتطور التعليم وتعدد وسائل المعرفة. ولذلك فإن رغبة قوة ما في تحسين صورتها لدى الرأي العام العالمي أمر مشروع، ويدل على إدراكها لترابط هذا العالم ولاستحالة تنفيذ سياساتها أو تحقيق علاقات طبيعية من دون أن تكون مقبولة. ولقد تسربت إلى جريدة "نيويورك تايمز" أخبار عن إنشاء مكتب في وزارة الدفاع الأميركية مهمته "التأثير الإستراتيجي" ويسعى الى زرع أخبار ومواد حتى وإن كانت مزورة في وسائل الإعلام الأجنبية، كجزء من جهود جديدة للتأثير في عواطف الناس وصناع القرار في دول صديقة وغير صديقة. وقد نقلت الجريدة ذلك على لسان رسميين عسكريين أميركيين. وقالت ان العسكر فعلوا ذلك بنشر معلومات وكتيبات ورسائل إذاعية في أفغانستان عندما كانت تحت حكم "طالبان". وهؤلاء العسكر، تضيف "نيويورك تايمز"، أسسوا مكتباً للتأثير الإستراتيجي، والمطلوب منه أن يوسع هذه المهمة في الشرق الأوسط وآسيا وحتى أوروبا الغربية وسيتولى مهمة كانت تقوم بها تقليدياً الوكالات المدنية، وبالذات وزارة الخارجية. وقالت ان مكتب وزارة الدفاع الصغي هذار ممول تمويلاً جيداً، وأنه تأسس بعد هجمات 11 سبتمبر كاستجابة لقلق إنتاب الإدارة بأن اميركا خسرت تأييد الرأي العام في الخارج، خصوصاً في الدول الإسلامية في حربها ضد الإرهاب وإن وزير الدفاع دونالد رامسفيلد أيد عموماً إنشاء هذا المكتب ولكن لم يوافق على اقتراحات محددة بعد. لا يتوفر إلا القليل من المعلومات عن "مكتب التأثير الإستراتيجي" هذا، بل إن بعض كبار عسكريي وزارة الدفاع ومساعدي رجال الكونغرس العسكريين لا يعلمون شيئاً عن هذه الإقتراحات أو الخطط. ولم تكشف ميزانية هذا المكتب المقدّرة بمئات الملايين والمغطاة من خط الطوارئ الإضافية لوزارة الدفاع، والتي وافق عليها الكونغرس في تشرين الاول اكتوبر الماضي. وقد راجع المكتب كل الآليات في وزارة الدفاع ليتمكن من التأثير في المتلقي الأجنبي، ومن إقتراحات المكتب الجديد أن يزرع الأخبار في منظمات الإعلام الأجنبية من دون أن يعطي أي إنطباع بعلاقة ذلك بالبنتاغون، وإن العمل يقتضي القيام بعملية واسعة من "تسويد" الحملات التي تهدف إلى التضليل ويقتضي نشاطات سرية ل "تبييض" الشؤون العامة التي تقدم كنشرات صحافية. ومن الإقتراحات أيضاً إرسال رسائل عبر البريد الإلكتروني تدعم وجهات النظر الأميركية وتهاجم الحكومات غير الصديقة، ولن يعرف مصدر هذه المعلومات. هكذا أوردت "نيويورك تايمز" هذه المعلومات المهمة. ورغم أن الإدارة الأميركية أعلنت صرف النظر عن إنشاء هذا المكتب، بعد ردود الفعل القوية ضده. إلا أن مغزى التفكير في مثل هذا المكتب سيستمر ولن يتوقف الحديث عنه. وإنه لمن المرحب به إعتراف الولاياتالمتحدة، من خلال التفكير في إنشاء هذا المكتب، بأن سمعتها سيئة وأنها راغبة في تحسينها. ولكن المؤسف أنها لم تبحث في أسباب سوء السمعة، فهذا هو نقطة البدء لوضع خطط تحسين الصورة وإعادة ثقة شعوب العالم بها. ولعل التفكير في إنشاء هذا المكتب دليل على أن هناك قوة مؤثرة في الولاياتالمتحدة مستفيدة من إستمرار السياسات الراهنة، فقادها تفكيرها إلى إقتراح إنشاء هذا المكتب للقيام بحملة علاقات عامة على أساس التضليل وتعزيز المعلومات الخاطئة للتأثير الإستراتيجي. إن التضليل يسيئ إلى أخلاقيات العمل المهنية، ويخلق تشكيكاً في كل ما يصدر عن الجهات الأميركية من معلومات أو تقويمات، كما يعني نوعاً من الإحتكار لعقلية المتلقي وذكائه. نحن في منطقة مصنفة بأنها صديقة للولايات المتحدة ولذلك فإننا نتطلع الى أن يفتح هذا الأمر الحوار على مصراعيه في الولاياتالمتحدة للتفكير في الأسباب الحقيقية التي أدت إلى إساءة السمعة ثم معالجة هذه الأسباب. وهذا في حد ذاته كفيل بتحسين الصورة وبعودة ثقة الشعوب إلى الولاياتالمتحدة. كنت نشرت مقالة قبل أسابيع عدة، حين تعالى الحديث عن ضرورة تحسين صورة العرب في الخارج، وقلت إن الصورة لن تتغير إلا بتغيير الداخل، وإن عالماً لا يحترم الإنسان وحقوقه، ولا يحترم مؤسساته المدنية، ولا يراعي سيادة القانون لا يمكن أن تتحسن صورته في الخارج، مهما كانت حجم الحملة الإعلامية التي يقوم بها لتحسين صورته. ولذلك فقد طالبت في تلك المقالة بتطوير التعليم وإعادة النظر في المناهج التعليمية بما فيها المناهج الدينية كما طالبت باحترام حقوق الإنسان وبسيادة القانون وبذلك يتحقق تحسين الصورة في الداخل والخارج. وأعتقد أن ما ينطبق علينا ينطبق على الولاياتالمتحدة ومن شابهك بنفسه ما ظلم، فسوء السمعة وافتقاد الثقة في الولاياتالمتحدة لم يأتِ من فراغ، وإنما نتيجة لسياسات خاطئة ومتراكمة، ونقطة البدء تكون في إعادة النظر في هذه السياسات، وتبني سياسات قائمة على العدل والإحترام للشعوب، سياسياً وإقتصادياً وثقافياً. ولا يقتصر الأمر على سياساتها في الشرق الأوسط بل يتعداه الى سياساتها في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية وحتى مع الحليف الأوروبي، كما إنه لا يقتصر على الجانب السياسي بل يتعداه إلى مواقفها الإقتصادية والإجتماعية والثقافية. وما يهمنا نحن العرب والمسلمين بصورة خاصة، هو هذا التحالف غير المقدس بين الولاياتالمتحدة والسياسات الإسرائيلية ودعمها للإحتلال وتمويلها له وتسليحه ودعمه للسياسات الإسرائيلية سياسياً وإقتصادياً رغم ما ترتكبه من جرائم يومية في حق الشعب الفلسطيني. كما أنها لم تنبس ببنت شعبه بشأن رفض مبدأ الإحتلال وحق الشعب الفلسطيني في ممارسة حقه المشروع في المقاومة لتقرير مصيره بل إنها تدعم حرب الإبادة التي تقوم بها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني بقيادة إرهابي متطرف. هذا يشكل عاملاً نفسياً يومياً ضاغطاً على كل إنسان عربي ومسلم، وبصورة خاصة المصنفين أصدقاء للولايات المتحدة. فهل يمكن لأي مكتب "تأثير استراتيجي" سواء كان قائماً على حقائق أو أباطيل، ومهما كانت إمكاناته ووسائله أن يمرر هذه السياسات وإقناع العربي المسلم بها. كان العالم ينظر بإعجاب إلى قيم أميركية مثل إلتزام حقوق الإنسان والديموقراطية وحق تقرير المصير وسيادة القانون، ولكن هذا الإعجاب بدأ يهتز بعد التركيز على البعد الأمني على حساب الأبعاد أخرى بعد أحداث 11 سبتمبر وما تلاها من تطورات. ولعل في ما وصفته وسائل الإعلام بمفاجأة الرئيس من ردود فعل الشعب الكوري الجنوبي من إستياء بإعتبار كوريا الشمالية من قوى الشر أثناء زيارته الأخيرة للعاصمة الكورية الجنوبية، ما يدل الى الجهل المطبق لصناع السياسة الأمريكية بواقع الشعوب. ولم تكن أوروبا الحليف الإستراتيجي للولايات المتحدة بمنأى عن التعبير عن استيائها من السياسات الأميركية. ففي حملة شنها رئيس الوزراء الفرنسي ووزير خارجيته على سطحية السياسة الأميركية وغطرستها مثال آخر. فهل يمكن معالجة هذا وغيره بحملات إعلامية؟ نطرح هذا السؤال مع أصدقائنا الأميركيين، ونطالبهم بالتأمل في عواقب سياساتهم الخاطئة، وبالبحث في الأسباب الحقيقية التي تجعل الرأي العام يكرههم، وهذا ليس تعبيرنا وإنما هو سؤال ردده رجال السياسة والإعلام لديهم. ولكي يتوصلوا إلى معالجة فإن عليهم معرفة الأسباب، ولا يتطلب الأمر منهم أكثر من التزام المبادئ السامية التي رفعتها الثورة الأميركية وتحدث عنها الآباء والمؤسسون من احترام حقوق الإنسان، واحترام حق تقرير المصير، وسيادة القانون، والديموقراطية، والعدل، وحينئذ لا يحتاج الأمر إلى مكتب للتأثير الإستراتيجي قائم على التسويد أو التبييض. قالت "نيويورك تايمز" في مقالتها عن "مكتب التأثير الإستراتيجي" أن معارضي هذا المكتب في الإدارة الأميركية لم يعارضوه من حيث المبدأ، وإنما من حيث ما يملكه من آلية وجهاز بشري وإمكانات مالية لوزارة الدفاع مما يعطيه الأسبقية في التأثير في الأجهزة الأخرى، وأن سرية عمله تعطيه سلطة غير محدودة، وان خلط المعلومات التضليلية بالعمل المهني التقليدي سيحط من مصداقية وزارة الدفاع لدى وسائل الإعلام والرأي العام العالمي والحكومات في كل مكان. ستكبر خشية هؤلاء عندما يرون أن التزييف في وسائل الإعلام الأجنبية يمكن أن تنتهي بنشره أو إذاعته وسائل الإعلام الأميركية. ومعنى ذلك أن مبدأ التزييف مقبول لولا خشية انتقاله الى وسائل الإعلام الأميركية. لقد أعلنت الولاياتالمتحدة بعد ردة الفعل العنيفة ضد المكتب صرف النظر عنه. ولكن من حقنا أن نتساءل ما الذي يمنع الشك بأن هذا جزء من سرية إنشاء المكتب وان التضليل والتزييف سيستمران. لقد وقع الضرر، وإن مجرد تفكير صاحب القرار في أميركا باللجوء إلى مثل هذا المكتب إنما يدل الى عجزه عن الدفاع عن سياساته الراهنة، إنه ليس بالإجراءات الأمنية والعسكرية تستطيع القوى الكبرى فرض نفسها. قد يكون ذلك ممكناً مع الحكومات لأنها أسيرة للضرورات والضغوط، أما الشعوب فإن لها دائماً خياراتها، ولذلك فإن احترامها واحترام قيم العدل والسلام والحق والثقافات هو الوسيلة لكسب ودها واحترامها. * سياسي قطري.