حالة الفرز التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط والسياسات الأميركية نحوها، فيها ملامح حياكة "مدريد -2" ليكون مؤتمر تتويج اتفاقات سلمية شاملة. والطريقة إليه وعرة ودموية، خصوصاً على الساحة الفلسطينية - الإسرائيلية. قمة بيروت محطة أهم في هذا الفرز لجهة العلاقة الأميركية - العربية في نسج مقومات "مدريد -2"، مما هي لجهة العنصر العراقي في السياسات الدولية. فملف العراق يُفصل ويُحاك في مجلس الأمن الدولي، بمقاييس اقتسام المصالح في عراق ما بعد ازالة العقوبات وازالة النظام في بغداد، ما بين الدول الخمس دائمة العضوية. وقد لا تلتقي مصالح الجوار الخليجي العربي للعراق، الاستقرارية منها والنفطية، مع المصالح التي تنوي اقتسامها روسياوفرنساوالصين وبريطانيا مع الولاياتالمتحدة. لكن التقاطع سيقع مرة أخرى ما بين العراق وبين ملف النزاع العربي - الإسرائيلي بأكثر من غاية وصعيد وبتلاقي مصالح واعتبارات متضاربة. لم تعد الدول الخمس في مجلس الأمن على مواقفها السابقة ازاء الملف العراقي. فرنسا ابتعدت كثيراً عن الحكومة العراقية في الأشهر الماضية وباتت شبه شريك في الشراكة الأميركية - البريطانية المعهودة نحو ملف العراق. وما يهم الديبلوماسية الفرنسية، في هذا المنعطف، هو أن تستكمل الولاياتالمتحدة الإصرار على بغداد لتنفيذ قرارات الأممالمتحدة، لئلا يكون رفض بغداد الانصياع لهذه القرارات محرك التبرير والمباركة الدولية للعمليات الأميركية العسكرية، عندما يحين وقتها. قطعت الديبلوماسية الفرنسية الأمل بجدوى وفوائد علاقتها مع الحكومة العراقية، وقررت ألا تنصب مصيدة لنفسها لتقع خارج اقتسام المصالح عندما يحين الأوان. لذلك كانت الحلقة الأولى في إعادة صياغة مواقف الدول الخمس من العراق حلقة الفصل بين الثلاثي الصديق التقليدي لبغداد، روسياوفرنساوالصين. وبغض النظر عما إذا انفرط العقد الثلاثي نتيجة استراتيجية أميركية محتكة أو بقرار سيادي لكل من فرنساوالصين، فإن ما حدث آخر السنة الماضية أطلق معادلة جديدة في علاقة الدول الخمس مع ملف العراق. فمع تبني المجلس للقرار الأخير الذي مدد برنامج "النفط للغذاء" لستة أشهر تنتهي آخر أيار مايو، كان واضحاً أن الصينوفرنسا افترقتا مع ثالثهما التقليدي. بل إن روسيا بدورها توصلت إلى صفقة تفاهم وحل وسط مع الإدارة الأميركية كان هدفها شراء الوقت لنفسها، وربما للعراق أيضاً، إذا قرر الاستفادة من الفسحة الزمنية المتاحة. بموجب صفقة التفاهم تلك، وافقت موسكو على الاكتفاء بمجرد تعابير الاستعداد الأميركي لمحاولة ازالة الغموض عن القرار 1284 الذي وضع ظروف وشروط تعليق العقوبات بارتباط مباشر مع عودة المفتشين الدوليين واتمام عملهم في العراق. لكن موسكو التزمت بموجب القرار الأخير لمجلس الأمن بتبني "قائمة البضائع والسلع" المعروفة بGRL ذات الاستخدام المزدوج التي تصنف ما لا يحق للعراق استيراده، والتي باتت حجراً أساسياً في الشق السياسي من المواقف الأميركية. تكمن أهمية هذه القائمة في أنها تكرّس الاستثناء. فالقرار 986 اطلق استثناء للعقوبات على العراق سمح بتصدير النفط العراقي لتوفير الغذاء والدواء شرط ألا تصل الأموال إلى الحكومة العراقية، وأن تتم جميع المبادلات تحت اشراف الأممالمتحدة. وعندما يعتمد مجلس الأمن أول حزيران يونيو قرار تبني قائمة البضائع، فإنه بذلك يرفع العقوبات المدنية عن العراق، إنما بتكريس سحب سيادة الحكومة العراقية الحالية وربما اللاحقة إلى حين المتمثلة في سيادة تسلم أموال العائدات النفطية وانفاقها. لذلك لا تريد الإدارة الأميركية ازالة الغموض عن القرار 1284 لأنها لا تريد ربط عودة المفتشين ومهماتهم باجراءات تعليق العقوبات. تريد قراراً جديداً يكرس استثناء العقوبات بديلاً من تعليقها أو رفعها. لا شك أن تبني هذا القرار مهم جداً للإدارة الأميركية، الأمر الذي يعزز استبعاد بدء عمليات أميركية عسكرية في العراق قبل الأول من حزيران. العناصر الأخرى التي تساهم في تقديرات عدم بدء العمليات العسكرية قبل منتصف الخريف المقبل أو أواخره تشمل الآتي: استكمال الاستعدادات العسكرية في منطقة العراق واستكمال انتهاء الدور العسكري المباشر للولايات المتحدة في منطقة أفغانستان... فرز الخيارات العسكرية المتاحة لتحقيق الغايات في العراق والتدقيق في مخاطرها ومخاطر ما يليها، مع أخذ الاحتياطات... عدم بدء العملية الفعلية من التفاوض الثنائي والمقايضة لكل من روسياوالصينوفرنسا وبريطانيا مع الولاياتالمتحدة على حجم الفوائد التي ستسمح الولاياتالمتحدة بها بعد اسقاط النظام عسكرياً، علماً بأن لاجماع الدول الخمس هذه في مجلس الأمن أهميته في تأمين وتحصين الخيار العسكري... مراقبة الوضع على الساحة الفلسطينية - الإسرائيلية لئلا يتزامن الانفجار والتدهور مع عمليات في العراق، بل لكي لا تقع علاقة بين نجاح سياسي في ملف الشرق الأوسط ونجاح عسكري في إطاحة الرئيس العراقي صدام حسين ونظامه في العراق من دون معارضة من البيئة العربية والخليجية، حتى وإن كان لديها تحفظ أو خوف من معادلات مصالح على حسابها، خصوصاً النفطية منها. يرى بعض الاختصاصيين في موضوع النفط أن الولاياتالمتحدة تعمل في اتجاه خفض الاعتماد على نفط دول الخليج العربي، وتحسب حسابات فوائد العراق بنظام بديل صديق بسبب طاقاته النفطية الضخمة، من كونه ثاني أكبر احتياطي إلى تأثير إعادة تأهيله نفطياً في مستقبل الأسعار والأسواق ومصير "أوبك" كلها. هناك بوادر ومؤشرات إلى لقاء المصلحة الروسية - الأميركية في تحجيم "أوبك" كمنظمة للدول المصدرة للبترول وتحييد لفعاليتها: روسيا بسبب دورها ومصلحتها كدولة مصدرة للنفط، والولاياتالمتحدة كأكبر دولة مستهلكة لا تريد لأي منظمة أن تمتلك مفاتيح أساسية يمكن استخدامها. في الماضي بدا أن العراق يشكل لروسيا أهم احتياطي استراتيجي في منطقة الخليج والشرق الأوسط لأسباب عدة، بين أهمها العلاقة النفطية. فالتكامل بين الطاقات الروسية النفطية والطاقات العراقية النفطية من شأنه أن يعيد لروسيا صفة العظمة. الآن، ولأن هذه مرحلة الفرز للجميع، تبدو الشراكة الأميركية - الروسية أكثر عملية. فأميركا غير مستعدة لأن تسمح لروسيا بتحقيق أي تكامل من هذا النوع مع العراق، لكنها مستعدة لتقديم كل الدعم المالي والتقني لتمكين روسيا داخلياً، كما هي مستعدة للاعتراف بالمصالح الروسية في العراق واقتسامها. وروسيا من جهتها، تبدو اليوم مقتنعة بأن في هذه الصفقة خياراً أفضل من الرهان على معارضة القرار الأميركي نحو العراق وفي حربه على الإرهاب. فمعادلة التهادن والتفاهم والتسابق والتنافس بين الاثنين تمتد من القوقاز إلى العراق وإيران. من المبكر جداً القول إن تحالفاً تم صنعه وصقله لدعم العمل العسكري الأميركي في العراق. ومن الخطأ القول ان لا اعتراض على عمل عسكري في العراق من جانب أعضاء مجلس الأمن بمن فيهم الدول التي تضع في حسابها خرائط استفادتها. ما يمكن تأكيده هو الاجماع الدولي على أن لا مناص من عودة المفتشين الدوليين إلى العراق واتمام مهماتهم أينما كان، من دون عرقلة أو قيد أو شرط من بغداد، حتى عندما يقومون بعمليات مفاجئة في مواقع حساسة... هذا إذا كان القرار العراقي تجنب العمليات العسكرية. أحد أهم الأسس التي أرستها الإدارة الأميركية مع الأمين العام كوفي أنان لاستئناف الحوار مع الحكومة العراقية هو أساس عدم السماح بالمساومة على أي شيء يتعلق بعودة المفتشين أو بمهماتهم. بغداد راغبة ربما بالتفاهم على ازالة الغموض عن القرار 1284 الذي رفضت التعامل معه قبل سنتين. ومشكلتها اليوم أن موسكو ليست في وارد الاصرار على ازالة الغموض لايضاح خطوات تعليق العقوبات كشرط مسبق لعودة المفتشين. فاليوم، لا يوجد في مجلس الأمن صديق يلبي بغداد، فحتى الاعتبارات "الاستفادية" تغيرت. والحكومة العراقية لم تبالِ وتعتنِ بالبعد الاقليمي في سياستها ليشكل دعماً وسنداً لها. أمامها خيارات من المستبعد أن تعتمدها، والخشية أن يكون الخيار الوحيد هو تقديم العراق على طبق الضحية بأمل اندلاع غضب الشارع العربي لعله يحقق الطموحات. أحد أسباب الحرص على عدم تزامن العمل العسكري في العراق مع استمرار تدهور الوضع في الساحة الفلسطينية يعود إلى الخوف من اساءة تقدير وطأة الشارع العربي. ولذلك يحدث التقاطع، مرة أخرى، بين ملفي العراق والشرق الأوسط. فمؤتمر مدريد عقد عام 1991 بعد انتهاء حرب الخليج الثانية لإطلاق عملية السلام للشرق الأوسط لمصادرة مزاعم أو طموحات الرئيس العراقي وتحويل الاحباط إلى أمل بسلام. اليوم، ومع انحسار الأمل بنجاح تلك العملية السلمية التي انطلقت من مؤتمر مدريد، يجري العمل على "مدريد -2" لمحاولة معالجة شاملة لمتطلبات التسوية في الصراع العربي - الإسرائيلي. الفارق أيضاً أن "مدريد -1" اطلقت عملية للتفاوض على أساس مرجعية 242 و338. أما "مدريد -2" فستسعى إلى أن تكون محطة خلاصة المفاوضات والعملية السلمية. الجديد النوعي هو أن مواقف الدول العربية ومواقف الإدارة الأميركية تتلاقى، ربما للمرة الأولى، في مواجهة مواقف حكومة إسرائيلية. تتلاقى في الفحوى وعلى خيار ازالة الاحتلال والاستيطان وقيام دولة فلسطين بمرجعية مدريد. الخطر على هذا التلاقي ليس فقط من الحكومة الإسرائيلية، وإنما أيضاً من مزايدات عربية، منها السيئ النيات ومنها القصير النظر. إنما هناك ديناميكية تفكير استراتيجي في أوساط عربية مهمة، عسى أن تتمثل باجراءات تمكّن القمة العربية في بيروت آخر الشهر الجاري من نقل التوقعات إلى مفاجآت تنفيذية. مفاجآت تجعل ارييل شارون يقتات ندماً ويهرول وحيداً إلى معسكرات تطرف أمثاله وحقدهم وفشلهم.