الخيار العسكري في العراق ليس متاحاً الآن امام الولاياتالمتحدة إما بسبب فوات الأوان عليه أو لأنه سابق لأوانه. فالملف العراقي في مرحلة انتقالية تتداخل فيها عناصر رئيسية مثل مصالح استراتيجية لروسيا، ونسيج تحالف دولي ضد الارهاب، ومعادلة اندلاع الفوضى في المنطقة العربية والاسلامية، ومصير أنظمة وليس فقط مصير النظام في بغداد. والأرجح، ان معسكر التشدد في الساحة الاميركية لن يكسب في حملته الرامية الى توظيف زخم الانتصار العسكري ضد طالبان في افغانستان لضرب العراق وإطاحة الرئيس صدام حسين وحكومته فوراً. لكن هذا لا يعني ان بغداد معفاة من المحاسبة أو ان الحكومة العراقية منتصرة، ولا يعني ان الخيار الوحيد هو المواجهة. ففي طيات افرازات احداث 11 ايلول سبتمبر فرصة لطرح جديد للملف العراقي في العلاقة الاميركية - العراقية الثنائية عبر مجلس الأمن الدولي وعبر جيرة العراق. وروسيا تراقب احتمالات مثل هذا الحدث بعناية وحذر كبيرين لما فيه من انعكاسات على علاقاتها الثنائية بكل من واشنطنوبغداد. فهي في شراكة مصيرية مع الاثنتين ولا تريد لبريطانيا التشويش عليها. روسيا اشترت الوقت مجدداً بموافقتها على البحث في "قائمة البضائع" المحظور على بغداد استيرادها علماً بأنها سبق ورفضت النظر في تلك القائمة باعتبارها بديل الأمر الواقع من تعليق العقوبات ثم رفعها عن العراق. ما حصلت عليه في معادلة "الحل الوسط" هذا الاسبوع هو الموافقة الاميركية على بحث موازٍ في عملية ايضاح الغموض في القرار 1284 ووضع الشكليات لتنفيذه بما يربط بين ظروف وشروط عودة المفتشين الدوليين والرقابة البعيدة المدى لبرامج التسلح في العراق وبين تعليق العقوبات ثم رفعها حسب أطر وبرامج زمنية يتفق عليها. ففترة "البحث" ستستمر الى نهاية المرحلة الحادية عشرة من برنامج "النفط للغذاء"، أي الى ستة اشهر اضافية تنتهي بنهاية شهر أيار مايو المقبل. وفي هذه الفترة ما يكفي من الوقت لمراقبة مصير العلاقة الاميركية - الروسية التي سجلت نقلة مهمة ما بعد 11 ايلول سبتمبر، كما لمراقبة مصير العلاقة الاقليمية بالعراق، ومصير الحرب على الارهاب بأبعادها العملية والسياسية. قبل ستة شهور، تصدت روسيا لمحاولة اميركية - بريطانية لاستبدال المعالجة الشمولية للملف العراقي بأسلوب انتقالي قوامه تحسين برنامج "النفط للغذاء" كبديل الأمر الواقع للإلتزام بتعليق العقوبات ثم رفعها، اي سد الثغرات في برنامج الاستثناء مع تقويض قاعدة متطلبات إزالة العقوبات. تلك الطروحات اعتمدت مبدأ سلب الحكومة العراقية صلاحية السيادة على أموال العائدات النفطية وتحييد معادلة تعاونها أو رفضها التعاون بتجاهل متعمد لها لتقزيم النظام العراقي وتحجيم وسائل استفادته من التقويض القائم للعقوبات. والملفت المميز في تلك الطروحات التي حاولت الديبلوماسية الاميركية - البريطانية احياءها معدلة أخيراً انها استبدلت عودة المفتشين والرقابة الدائمة، والتي تشكل المفتاح الرئيسي لرفع العقوبات حسب القرارات، بفكرة جهاز تطويق للنظام العراقي عبر جيرته مع نقل مهمات احتواء بغداد الى الدول المجاورة للعراق. جزء من جيرة العراق أفشل الطروحات الاميركية - البريطانية بشقه المتعلق بقيام هذه الدول بالمهمات الأمنية في اطار التطويق. جزء آخر من هذه الجيرة أفشل المحاولة الروسية لإطلاق منهج جديد نحو الملف العراقي بشقه المتعلق بالعدول عن احتواء العراق. لكن فشل المبادرة الروسية، في أساسه، كان سببه موقف بغداد التي رفضت الطروحات الروسية من جهة، وموقف موسكو التي وجدت مصالح ضخمة لها في علاقة مميزة بينها وبين بغداد بغض النظر عن استياء من بعض الدول العربية، وعن التهم الاميركية والبريطانية لها بوضع مصالحها الوطنية فوق اعتبارات مسؤوليتها كدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن. فالعراق محور رئيسي في الاستراتيجية الروسية، وفي المصالح الاستراتيجية الروسية في منطقة الخليج والشرق الأوسط. موسكو لم تصرّ على طروحاتها لدى بغداد، بل ان مشروع قرارها الرامي الى اعتماد القرار 1284 عربة انتقال الى رفع العقوبات، اتخذ نكهة اللاجدية ورفع العتب عند طرحه مع الديبلوماسية العراقية التي ترفض التعامل مع ذلك القرار. فالأولوية لحجم المصالح الروسية في العراق، الآنية منها المتعلقة بعقود، والاستراتيجية منها باعتبار العراق فائق الاهمية في الاحتياط النفطي وللوصول الى المياه الدافئة. هذا الى جانب ما يجمع الاثنين من اعتبارات سياسية مثل تأييد العراق وحده الروس في موضوع الشيشان، ومثل مخاوف روسيا من التيار الاسلامي الذي لا تجد تأييداً له في العراق. ما تريده روسيا هو احتكار العلاقات مع العراق. ما لا تريده هو إحداث تغيير في العلاقة الاميركية - العراقية، إما في اتجاه مواجهة عسكرية حاسمة، أو في اتجاه تطبيع العلاقات وفتح صفحة جديدة بين واشنطنوبغداد. وزير الخارجية الروسي سأل نظيره العراقي أثناء اجتماعهما في نيويورك عن صحة ما تردد بأن العراق عرض على الادارة الاميركية فتح صفحة جديدة في العلاقات. تساءل بقلق، وليس برغبة في لعب دور لتحسين العلاقة الاميركية - العراقية. فموسكو ليست راغبة في تحسين تلك العلاقة لما ينطوي عليه التطبيع من امتيازات كبيرة لاميركا وللشركات الاميركية في العراق ومن تقويض للاحتكار الروسي لهذه المصالح والامتيازات في الوقت الحاضر. في الوقت ذاته، فإن موسكو شديدة الحرص على التأثير في واشنطن لئلا تغلب عليها نزعة العظمة العسكرية وتتوجه الى العراق بعد الانتهاء من الاعمال العسكرية في افغانستان. ولأن الشراكة الاميركية - الروسية بعد 11 ايلول اتخذت منحى وبعداً جديدين، فإن للإصرار الروسي لدى الادارة الاميركية على عدم ضرب العراق اهمية. انما لموقف بريطانيا المعارض ايضاً توجيه ضربة عسكرية الى العراق أهمية مماثلة، ان لم تكن مضاعفة. فهي، شأنها شأن قطاعات مهمة في الساحة الاميركية الرسمية والاعلامية والفكرية، ترى ان التوقيت ليس ملائماً، بل انه مؤذ لنسيج التحالف الدولي ضد الارهاب، وللعمليات العسكرية في افغانستان خصوصاً انها لم تنجز أهداف تدمير تنظيم "القاعدة" حتى الآن. هذا الى جانب عدم توافر الامكانات العملية لانجاح أهداف عمليات عسكرية في العراق، على الصعيد الداخلي وعلى صعيد الجيرة، كما حدث في افغانستان. اضافة الى ابعاد عملية عسكرية ضد العراق على الساحة العربية واحتمالات عواقب سقوط انظمة وليس فقط اسقاط النظام في بغداد. الإدارة الاميركية، بمعظم أقطابها، توافق، وهي ليست عازمة على ضرب العراق الآن - على رغم ما صدر عن الرئيس جورج بوش من تهديدات مبطنة - ما لم تتوافر الأدلة على تورط بغداد في ارهاب 11 ايلول، أو في ما تبعه من رسائل "انثراكس". وبموافقتها على صيغة "الحل الوسط" مع موسكو في اطار العمل على ايضاح الغموض والشكليات لتنفيذ القرار 1284، اشترت واشنطن بدورها المزيد من الوقت قبل حسم سياساتها نحو العراق. فالرئيس الأميركي أنذر العراق بأن عليه الموافقة على عودة المفتشين، واتفاق "الحل الوسط" وفرّ الوسيلة لوضع الآليات لتلك العودة مع ربطها بإجراءات تعليق العقوبات. ليس واضحاً ان كان ما قاله بوش "زلة لسان" أدت الى قلب المقاييس في المواقف الاميركية السابقة التي تعمدت تجاهل ناحية عودة المفتشين والرقابة البعيدة المدى، أو ان كان وزير الخارجية كولن باول أفلح في اقناع الرئيس بالعودة الى قرارات الاممالمتحدة كأساس للعلاقة الاميركية بالملف العراقي. قد يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو الذي ساهم في التأثير على جورج بوش للموافقة على اعادة البحث في القرار 1284 بدلاً من طروحات "العقوبات الذكية"، كما تزعم الديبلوماسية الروسية. وقد تكون بريطانيا المؤثر الأهم في اصرارها على ضرورة تأجيل الحسم في السياسة الاميركية - البريطانية تجاه العراق الى حين الانتهاء من العمليات العسكرية في افغانستان. وقد تكون المواقف العربية المعارضة بإجماع لضرب العراق ما يساهم في تحجيم المعسكر الداعي الى ضرب العراق الآن وفوراً - على الأقل في هذا المنعطف. فالفترة الزمنية المقبلة هي التي ستحسم التوجهات السياسية لكل المعنيين في الملف العراقي. وتخطئ بغداد اذا افترضت ان شبه الاجماع ضد ضرب العراق يعني التصديق على مضيها في سياساتها الراهنة القائمة على نمط "اللا" بالاستفادة من انهيار نظام العقوبات وإقبال بعض جيرتها عليها. ذلك ان بعد 11 ايلول لم يعد استمرار الوضع الراهن في المصلحة العراقية، ولا في المصلحة الاميركية. وحتى اذا كان في المصلحة الروسية حالياً، فإن الوضع الراهن في العراق لا يمكن له الاستمرار مطولاً، ولربما في ادراك ذلك فسحة الى جديد مفيد. توجد مؤشرات على رغبة الحكومة العراقية بصفقة سياسية مع الولاياتالمتحدة قوامها اعتماد الحل السياسي سياسة اساسها قرارات الاممالمتحدة بعيداً عن الاهداف الخارجة عن القرارات، وأبرزها هدف الاطاحة بالنظام. المشكلة الرئيسية في الموقف العراقي ان كل وأي مسؤول عراقي على اقتناع بأنه لا يوجد لدى بغداد هامش اضافي للتنازل، ولا حاجة لبغداد لتغيير نمط تعاملها مع بيئتها الاقليمية بخطاب سياسي جديد أو مع البىئة الدولية عبر المبادرة الى فسح المجال لعلاقة جديدة مع مجلس الأمن. والمشكلة مع الجانب الاميركي انه غير قادر، سياسياً، على فتح صفحة جديدة مع العراق ما لم تتخذ بغداد اجراءات عملية، سيما لجهة عودة المفتشين والرقابة البعيدة المدى، وما لم تطمئن جيرتها تماماً وتسمح بالتعددية داخلياً. على رغم ذلك، اذا نوت بغداد واستعدت واشنطن، يمكن أخذ العلاقة الى مرحلة جديدة، وأفضل قناة لذلك التغيير هو بريطانيا. فمجلس الأمن وقراراته أدوات مهمة ورئيسية، والأمين العام كوفي انان وسيلة للحوار غير المباشر. لكن بريطانيا، اذا اقتنعت حقاً بعزم وصدق بغداد في اعتماد منهج جديد متكامل وغير انتقائي، فهي أفضل المرشحين للعمل على حل سياسي يؤدي في نهاية المطاف الى حل كل المسائل المتعلقة، والى التفاهم على خطوات الحل السياسي. ولأن العلاقة الاميركية - الروسية تبقى ذات خصوصية مميزة في كل الاحوال، لربما تشارك روسيابريطانيا في العمل معاً على تحسين العلاقة الاميركية - العراقية على أصول متفق عليها بدلاً من منهج الاحتكار والاختيار.