المرحلة المقبلة من الاستراتيجية الروسية نحو الملف العراقي ليست نزهة نقاهة مع بغداد ولا هي معركة مستمرة حامية مع الولاياتالمتحدةوبريطانيا. انها مرحلة تنفيذ التعهد بمنهج جديد من، ونحو، بغداد تريد الديبلوماسية الروسية صوغه، ولها في ذلك مصلحة ورهان. مشكلة البراعة التكتيكية العراقية انها تحسن كسب المعارك ليفوتها ان الحرب على حسابها. فبغداد تحسن الاستثمار في "اللا" وفي اشعال فتيل "اللااتفاق". تنفق سخياً ومن أموال الشعب العراقي الذي يعاني الهزائم والانتصارات. وهي تكسب جولات ملاكمة تصيح بها بعض جماهير النخبة على انها "انتصار". ما تريده الديبلوماسية الروسية الآن هو أن تكسب معركة "النعم" من بغداد لكي تبرر ماذا فعلته في استراتيجيتها الأخيرة وماذا صنعت من علاقاتها مع العراق. بريطانيا دفعت ثمن غطرستها، والادارة الأميركية تلقنت درس استخفافها بالوعي الدولي لضياعها وتظاهرها. وجيرة العراق كُشفت رغماً عنها. وفيما حدث عبرة للجميع من الضروري الأخذ بها، لأن الكل، من دون استثناء، خاسر لو تجاهلها. حسناً فعلت الديبلوماسية الروسية بقطعها الطريق على الطروحات الأميركية - البريطانية في ناحية تحولها من معالجة انتقالية ومرحلية للوضع العراقي الى بديل من المعالجة الشمولية، ان كان ذلك التحول نتيجة نية أو انطباع. وسوءاً سيكون فعلها اذا فشلت في إفهام بغداد ان الموقف الروسي لم يكن تصديقاً للسياسات والمواقف العراقية ولا هو مباركة لها في سياسة "اللا". روسيا لم تخرج عروساً ناصعة البياض من حفلة المواجهة في مجلس الأمن التي وضعتها في مجابهة مباشرة مع بريطانياوالولاياتالمتحدة، وفي انفصال عن الثلاثي التقليدي في شأن العراق، الروسي - الفرنسي - الصيني، وفي موضع استياء من بعض الدول العربية. فهي مَن كسر طوق الاجماع بين الدول الخمس دائمة العضوية. وهي المتهم بوضع مصالحها الوطنية فوق اعتبارات مسؤوليتها دولة دائمة في مجلس الأمن عليها مسؤوليات الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. وهي من ساهم في تعرية خلافات جيرة العراق علنياً وأعطى بغداد بطاقة مضي بالوضع الراهن. ما تعتزم الديبلوماسية الروسية ان تفعله في الحقبة المقبلة يشمل معالجة كل التهم والانطباعات والافرازات في طرح شمولي واستراتيجي داخل حلبة مجلس الأمن وعلى الساحة الاقليمية في المنطقة. في ذهنها منهج جديد نحو العراق ومعه. وفي حوزتها أفكار لوضع ميكانيزم جديد للربط بين إعادة نظام الرقابة البعيدة المدى للأسلحة المحظورة في العراق وبين تعليق ثم رفع العقوبات عنه. ولديها اقتراحات وصيغ، في مذكرة تفاهم وفي برامج زمنية محددة، تنوي حملها الى المنطقة بدءاً ببغداد. فما في ذهن الديبلوماسية الروسية فترة راحة أو فترة تبريد لشهر تقريباً، فيما توضع اللمسات على المبادرة الروسية بشقها الجديد. ومع حلول ايلول سبتمبر سيبدأ التحرك المكثف على أمل توصله الى نتائج ملموسة قبل انتهاء المرحلة العاشرة من برنامج "النفط للغذاء" مطلع كانون الأول ديسمبر. أولى حلقات هذه المبادرة تصب في خانة المنهج. فالطروحات الأميركية التي تبنت بريطانيا تسويقها اعتمدت منهج تجاهل الحكومة العراقية عمداً، وسلبها صلاحية السيادة، وتحييد مركزية تعاونها أو رفضها التعاون وعدم إعارتها أي اهتمام. قامت هذه الطروحات على مبدأ تقزيم النظام العراقي وتحجيم وسائل استفادته من الوضع الراهن. استبدلت عودة المفتشين والرقابة الدائمة بفكرة جهاز تطويق للنظام العراقي عبر جيرته، فسعت بذلك وراء الالتفاف على شروط رفع العقوبات مع نقل مهمات احتواء النظام في بغداد الى الجيرة العراقية. ما تريد الديبلوماسية الروسية انجازه لجهة المنهج هو ابراز الخلل في معادلة الاستغناء عن تعاون بغداد وفي طروحات تقنين مستقبل العراق في احتواء النظام فيه. أساس هذا الطرح هو الكف عن تصنيف العراق دولة "خارجة عن القانون"، قابلة للتهميش، يمكن عزلها باجراءات احتواء اقليمية أو دولية. رسالة موسكو التي سيحملها المسؤولون الروس الى المنطقة في الأسابيع المقبلة تعيد طرح العراق بأهميته الاستراتيجية في الاعتبارات الروسية. وموسكو حريصة على ان تؤخذ بهيبة الدولة الكبرى القادرة على التأثير في الحكومة العراقية لدحض الانطباع بأنها لبّت أوامر بغداد من أجل مصالح اقتصادية أو وطنية. لذلك ستتوجه الديبلوماسية الروسية الى كل الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي والى كل الدول الأخرى المجاورة للعراق، سورية والأردن وتركياوايران، والى دول أخرى مهمة في الملف العراقي وعلى رأسها مصر، وكذلك الى الجزائر والمغرب وتونس، وايضاً الى جامعة الدول العربية وربما الى الهند وباكستان. ستحمل المبادرة الروسية بشقها الاقليمي الى هذه الدول لتبرز أنه "لواجب روسي القول للعراق: كفى". فالديبلوماسية الروسية تود أن تتكفل بإقناع بغداد بالقيام بما عليها من أجل فتح صفحة جديدة في علاقاتها بالبيئة الاقليمية كما في علاقاتها بمجلس الأمن. وهي ستعتمد استراتيجية التحرك أولا على الساحة الاقليمية، لطرح أفكار ولجمع أفكار من دول المنطقة. بعد ذلك تعود الى مجلس الأمن للاستمرار في العمل في اطار الدول الخمس الدائمة لتحليل الأفكار الروسية والاقليمية والسعي الى حل وسط شمولي. وفي كل المراحل، تنوي الديبلوماسية الروسية العمل مع بغداد على أساس يومي للتأثير في سياساتها ولنقلها من مواقف "اللا" الى مواقف "النعم". وهنا ناحية الصيغ والميكانيزم. ففي ذهن روسيا الانقلاب على المعالجة الانتقالية للملف العراقي بشقيها: الأميركي القائم على اعتبار استمرار العقوبات أهم من عودة المفتشين والرقابة الدائمة لبرامج التسلح في العراق... والعراقي القائم على اعتبار رفض عودة المفتشين والرقابة أهم من تعليق ثم رفع العقوبات. هذا القاسم المشترك بين الموقفين الأميركي والعراقي ليس من السهل التغلب عليه. فلا الادارة الأميركية جاهزة للمعالجة الجذرية التي تتطلب اما المواجهة العسكرية لاسقاط الوضع الراهن بما ينطوي عليه من اسقاط النظام وانجازاته التكتيكية واسقاطه العملي للعقوبات، أو التعايش مع النظام العراقي والموافقة على اعادة تأهيله اقليمياً ودولياً والتحاور معه إذا لبى كاملاً جميع المتطلبات. ولا الحكومة العراقية في تشوق للتخلي عن الوضع الراهن وفوائده الغزيرة عليها لا سيما وان في وسعها القول انها احبطت غايات الاطاحة بالنظام ونجحت في الالتفاف على السيطرة الدولية على عائدات النفط العراقي. فكرة روسيا هي تحييد معركة الاطاحة بالنظام على الساحتين الاقليمية والدولية واستئناف العمل على أساس ما تتضمنه قرارات مجلس الأمن، تلك التي يرفض العراق التعامل معها مثل القرار 1284، وتلك التي غيبتها الولاياتالمتحدة عمداً لأنها تنطوي على شروط رفع العقوبات مثل القرار 687. بين أفكارها العملية والاجرائية فكرة التوصل الى "مذكرة تفاهم" بين الحكومة العراقية و"لجنة المراقبة والتحقق والتفتيش" في برامج التسلح العراقي انموفيك تضع الأسس الواضحة للأهداف وللمسائل العالقة ولنوعية التعامل ولأطر العمل. هذه الفكرة تتطلب وضع الصيغ الواضحة وتحديد الاطر الزمنية لانجاز "انموفيك" أعمالها على أسس غير تلك التي اعتمدتها لجنة "اونسكوم"- مع ما تخللها من عمليات التجسس - الى قاعدة رئيسية في الاعتبارات. وهذه قاعدة ما يسمى "عبء الاثبات"، أي قاعدة "الأدلة" على البراءة مقابل "الأدلة" على جريمة اخفاء ما في حوزة العراق من أسلحة محظورة أو برامج جاهزة لاحيائها. التحدي الذي تواجهه هذه الفكرة الروسية آتٍ من واشنطن كما من بغداد. فالطروحات الأميركية - البريطانية وضعت عودة المفتشين والرقابة ولجنة "انموفيك" على رف عال جداً، لأن واشنطن ليست جاهزة للتقدم بمسودة جديدة للسياسة الأميركية نحو العراق أو منطقة الخليج. والطروحات العراقية تتمسك برفض التعامل مع القرار 1284 الذي انشأ لجنة "انموفيك" ووضع شروط تعليق العقوبات وظروفها، وبغداد تعتبره انحرافاً سيء القصد عن القرار 687. روسيا تريد العودة الى القرار 687 الذي أصدره مجلس الأمن قبل 11 سنة وتضمن تفاصيل استعادة العلاقة الطبيعية بين العراقوالأممالمتحدة، لكنها ترى ان طريق العودة الى ذلك القرار لا بد من ان يمر بالقرار 1284 الذي تبنت بريطانيا صياغته ورعايته واعطاءه الأولوية، الى حين طرحها مشروع قرارها الجديد. فإزالة الغموض الكثيف عن ذلك القرار قد تكون "عربة" استعادة الاجماع في مجلس الأمن. ذلك ان أبوي 1284 الاصليين هما بريطانياوالولاياتالمتحدة و"عرابيه" اليوم هما روسياوفرنسا اللذان امتنعا عن التصويت عليه مع الصين. الصين فاجأت روسياوفرنسا عندما وافقت على قائمة السلع ذات الاستخدام المزدوج لغايات مدنية وعسكرية والتي ارفقتها الولاياتالمتحدة بالمشروع البريطاني الذي يعيد صوغ العقوبات. وبتلك المفاجأة اثبتت الصين ان أولوياتها الاستراتيجية اميركية التوجه في حين المنطقة العربية ثانوية قياساً مع العلاقة الصينية - الأميركية. وهذا جديد فقط من ناحية ايضاحه في انفصال بكين عن حلقة الثلاثي، الروسي - الصيني - الفرنسي. فرنسا من جهتها رافقت الولاياتالمتحدةوبريطانيا في مسيرة تحسين برنامج "النفط للغذاء" بما يخدم القطاع المدني في العراق ويشدد سيطرة الأممالمتحدة على العائدات النفطية، وساهمت بذلك في فرط عقد الثلاثي. لكنها في صدد العمل مجدداً مع روسيا للتقدم بطرح جديد ستلتحق به الصين في وقته. فباريس سلكت سكتين متضاربتين في تعاطيها مع الملف العراقي اذ انها ساهمت في ادخال تعديلات ايجابية على الطروحات الأميركية - البريطانية بدخولها طرفاً في تبنيها بصورة غير مباشرة، لكنها أبعدت نفسها عن الاطاحة الروسية بالمشروع البريطاني - الأميركي. واشنطن ولندن لا تقران بالاطاحة بمشروع "العقوبات الذكية" وتتعهدان بإحياء العمل عليه وإقناع روسيا به. الا ان الديبلوماسية الأميركية - البريطانية لن تنجح في ذلك ما لم تستدرك الاخطاء الجذرية في طروحاتها. هذه الاخطاء تشمل، أولاً، محاولة استبدال المعالجة الشمولية بالمعالجة الانتقالية ليكون تحسين برنامج "النفط للغذاء"، بديل الأمر الواقع عن الالتزام بتعليق العقوبات ثم رفعها. ثانياً، الغرق في سد ثغرات الاستثناء من العقوبات، اي برنامج "النفط للغذاء"، مع تقويض قاعدة متطلبات رفع العقوبات. ثالثاً، عدم التنبه الكافي لكون العراق مسألة مهمة في الاعتبارات الاستراتيجية الروسية. رابعاً، الاستخفاف النسبي بقدر تردد الدول المجاورة للعراق، لا سيما تركيا والأردن وسورية وايضاً ايران، في تولي مهمات تطويق العراق وعزل نظامه. وخامساً، اساءة تقدير مدى البراعة التكتيكية للحكومة العراقية في معركة تتعلق ببقاء النظام. فالادارة الأميركية لم تتقدم بتصور استراتيجي شامل لسياسة جديدة نحو العراق ومنطقة الخليج، وانما تقدمت ب"أسلوب" جديد نحو بغداد قوامه احتواء النظام وركيزته نمط "ترقيع" ما أسفرت عنه السياسة الأميركية الرئيسية نحو العراق. لذلك، ان الطرح الروسي في مبادرة جديدة ملفت ويجب على الدول العربية الخليجية والجارة ومصر ان تستدرك ازاءه الأخطاء التي ارتكبتها وهي تمتنع أو لتتغيب عن المشاركة في صوغ توجه جديد نحو العراق. ولتتذكر الحكومة العراقية ان روسيا ستأتي اليها في الأشهر المقبلة بطروحات تتطلب منها تغييراً جذرياً في فكرها ومنهجها. فدينها كبير عند روسيا، وموسكو لا تعتزم ان تتحول الى حليف للعراق بمعزل عن علاقاتها الحيوية مع منطقة الخليج ومع الولاياتالمتحدة الأميركية.