يعيش محمود درويش في رام الله. يسافر الى عمان، والى أماكن أخرى، ثم يعود الى رام الله. الشاعر الفلسطيني يريد الإقامة في وطنه. طالت رحلته بين عواصم العالم. اليوم، محاصراً، يسمع صوت النار كل لحظة، ويصنع بالكلمات فسحة البقاء والحياة. فسحة البقاء على قيد الحياة. الناقد الأردني فخري صالح يلقي الضوء على يوم في حياة هذا الشاعر. يقيم الشاعر الفلسطيني محمود درويش طويلاً في رام الله هذه الأيام. لا يغادرها إلا قليلاً، ويتردد كل صباح، على رغم الحصار الذي تفرضه الدبابات الإسرائيلية على مدينة رام الله وباقي المدن الفلسطينية، على مكتبه في مجلة "الكرمل" التي يرأس تحريرها. يزاول عمله في الإشراف على المجلة التي أنشأها في بيروت عام 1981، ثم انتقل بها بعد اجتياح بيروت عام 1982 الى نيقوسيا، وعاد لاصدارها من رام الله مجدداً عام 1997. لقد ارتحلت معه المجلة في المنافي ثم عادت معه بعد عودته الناقصة الى بعض الوطن. لكنه منذ أشهر يصحو على هدير ناقلات الجند، أو على صوت قصف طائرات الأباتشي والإف 16. ومع ذلك فهو لا يغير برنامجه الصباحي. مؤشر المذياع مثبت منذ أربعين سنة على محطة الإذاعة البريطانية. تغيرت المدن التي عاش فيها درويش لكنه ظل يتابع نشرات الاخبار من ال "بي بي سي". يصحو من النوم في حوالى الثامنة صباحاً ويفتح المذياع ثم يتوجه الى المطبخ ليصنع قهوته الصباحية. عادة لازمته منذ كان يسكن حيفا في ستينات القرن الماضي قبل ان يأخذه المنفى الى القاهرةفبيروت فباريس فتونس فعمانفرام الله. يقول لي أنه لا يعتبر ان صباحه بدأ من دون صنع القهوة الصباحية. رائحة القهوة تفتح حواسه وتنشط ذهنه. عاداته الصباحية متشابهة وتقاليده راسخة، والسفر وحده يكسر هذه العادات. يخبرني أنه عندما يريد ان يهجو شخصاً يقول: "لقد أجهز على صباحي". هذه الأيام يعيش درويش متنقلاً بين مدينتي عمانورام الله. يلتقط بعض أنفاسه في عمان ثم يعود ليغيب طويلاً، أحياناً، في رام الله ناسياً ان يغادر المدينة المحاصرة في رحلة قصيرة تأخذه الى ندوة أو أمسية شعرية في عاصمة عربية أو عالمية. يكتفي بالإقامة الى جوار قصف الطائرات وهدير الرشاشات التي لم تتوقف عن الاطلاق منذ اندلاع الانتفاضة الثانية. لكنه يبدأ نهاره بتصفح الصحف الصباحية: الأيام الصادرة في رام الله، والطبعة الدولية من صحيفة الهيرالد تريبيون. والطبعة الانكليزية من صحيفة هآرتس الاسرائىلية إن كان في رام الله، أو الرأي والدستور الأردنيتان إن تصادف وجوده في عمان. يستحم في الصباح لا في الليل، ثم يقرأ ساعة من الزمن. إن كان في عمان لا يذهب إلى أي مكان. يجلس للكتابة ثلاث ساعات متواصلة، وإذا لم تسعفه الكتابة يجلس الى مكتبه ساعة من الزمن و"يمارس رياضة الانضباط"، ثم يعود الى القراءة. هكذا يمضي يومه من دون انقطاعات في معظم الأحيان. لا يستقبل أحداً في الصباح، يكرس كل صباحاته للكتابة أو لاحتمال الكتابة، أو القراءة. يقول: "لا أقرأ الشعر في الصباح، بل أقرأ كتباً في التاريخ والفكر. أقل شيء أقرأه هو الشعر. وقد خففت من قراءة الرواية خلال السنوات الأخيرة بعد أن كنت مدمناً على قراءتها". اسأله: "هل يقرأ الشعر وهو يعكف على مشروع شعري؟"، فيقول: "لا تكون شهيتي مفتوحة لقراءة الشعر عندما أعمل على مشروع شعري. أفضل ان يكون عالمي نثرياً. النثر يحرضني على كتابة الشعر. والشعر يحرضني على كتابة النثر". أسأل درويش عن طقوسه في الكتابة فيجيب ان هوايته الوحيدة هي جمع الأقلام. يكتب بالحبر السائل على ورق أبيض غير مسطر بقلم من نوع مونت بلان. وعندما تتعثر الكتابة يغير القلم كنوع من تحريض الكتابة، على رغم ان القلم نفسه يلازمه في الكتابة لا يغيره في العادة. لا يكتب إلا وهو يجلس الى مكتبه. سألته: "هل تستمع الى الموسيقى حيث تكتب؟". يقول: "أستعين بالموسيقى لتساعدني في الانسجام مع ايقاعاتي الشعرية. لكنني أستعين بالموسيقى لا بالغناء لأن الغناء يشتت ذهني فيما الموسيقى تساعدني على تأويل ما أقول. لكن عندما أكون مصاباً بالجفاف لا شيء يحرّكني سوى الموسيقى. لا يجدي تغيير نوع القلم أو أي شيء آخر." إنه يمشي كثيراً عندما يكتب، يمزق كثيراً من الورق، ويصاب بإحباطات عدة خلال الكتابة لأنه يحس كل مرة أنه يكتب لآخر مرة. طعام الغداء يتناوله درويش في الثانية والنصف من بعد ظهر كل يوم، ثم ينام نصف ساعة ويصحو ليعاود القراءة. يقول: "نصف ساعة من النوم بعد الظهر ضرورية ومفيدة جداً صحياً، لكن إذا زادت عن ذلك فإنها تسبب الخمول". في الليل يستقبل درويش أصدقاءه وزواره يتحاور معهم حول الأوضاع السياسية، عما آل إليه الوضع في فلسطين، عن الشعر والأدب، عن أحوال الاصدقاء. وإذ يغادر الأصدقاء يجلس وحيداً ليشاهد التلفزيون، ويتفرج على مباريات كرة القدم، التي يعشقها، بحماس كبير، أو يشاهد فيلماً، ثم يعود الى القراءة لينام في منتصف الليل. يقول أنه يضطر أحياناً للخروج في الليل فيعد ذلك شكلاً من أشكال التعذيب لأنه أدمن العزلة. أصبحت العزلة جزءاً من برنامجه اليومي. إنه لا يجلس في أي مقهى. لم يدخل أي مقهى في عمان، كما يقول. لا يعرف معظم مناطق عمان، على حد علمي، لأنه يلازم منزله لا يغادره الا ليلبي دعوة من صديق أو يدعو صديقاً لتناول طعام الغداء أو العشاء. طبيعته المنزلية وحبه للتوحد تمنعانه من التسكع وارتياد الأماكن العامة. الاستثناء الوحيد هو بيروت وباريس، ففي هاتين المدينتين، يقول لي، كان يلتقي من يرغب في لقائه من غير الاصدقاء في المقهى. برنامجه في رام الله يختلف قليلاً عنه في عمان. في رام الله يصحو في الثامنة صباحاً ويستعد للذهاب الى مجلة "الكرمل" التي يقع مكتبها في مركز خليل السكاكيني الذي لا يبعد من منزله أكثر من عشر دقائق مشياً على الاقدام. في مكتبه في الساعة العاشرة يلتقي الاصدقاء من الكتّاب والمثقفين والسياسيين. والراغبين في رؤيته من الضيوف، أي ان مكتبه في خليل السكاكيني أشبه بالمنتدى الذي يتداول فيه الاخبار والافكار مع زواره. لكنه يصرف معظم وقت المكتب في تحرير المواد الكثيرة التي ترد الى مجلة "الكرمل" التي تظهر منها طبعتان واحدة في رام الله لتوزع في فلسطين، والثانية في عمان لتوزع في الوطن العربي والعالم. سألته: "هل تقرأ مواد الكرمل جميعها؟" فأجاب "أقرأ كل المواد بنفسي. أتصل بالكتاب وأتشاور معهم حول المواد التي كتبوها أو أنهم سيكتبونها للكرمل. المجلة تأخذ معظم نهاري. لكن عملي فيها ليس بيروقراطياً، أتشاور مع مدير التحرير وأتابع سير تنضيد العدد وترتيب مواده حتى أطمئن على خلوه من الأخطاء التي تزعجني وتجعلني أقرأ المواد أكثر من مرة". عندما يعود درويش الى بيته يتناول طعام الغداء وينام نصف ساعة، ويعاود برنامج قراءته، وعند الغروب يخرج مع بعض الاصدقاء ليمشي مدة ساعة تقريباً. سألته: "هل تطبخ طعامك بنفسك؟" "أطبخ أحياناً واستمتع بالطبخ، وأتعامل مع الطبخ بوصفه ابتكاراً". لكن درويش لا يطبخ الا عندما يزوره صديق، فليس الطهو عادة يومية بالنسبة إليه. إنه يهتم بالأكل ويعده من أفراح الحياة. لكنه ليس أكولاً وإن كان شخصاً متطلباً في نوعية الطعام. إنه يتناول طعامه في البيت معظم الأحيان، ويمتلك حذر القطط عندما يأكل في المطاعم. وجبته الرئيسة هي الغداء لكنه يفطر في الصباح لبناً مع ملعقة من العسل، وفي الليل يأكل وجبة خفيفة أو بعض الفواكه. سألته: "ما هو عدوك في الأكل؟". فأجاب: "عدوي في الأكل هو الكزبرة الخضراء. لا أحتمل طعاماً فيه كزبرة". لا يأكل درويش في الوجبة الواحدة سوى نوع واحد من الطعام ويتحاشى الدهون خصوصاً بعد أن أجرى عملية القلب قبل سنوات، وإن كان لم يغير عاداته في الأكل بعد تلك العملية. إنه من أنصار الطبق الواحد. سألته: "أي نوع من الطعام تحب؟" فقال: "أحب السمك أكثر فأنا كما تعلم من برج "الحوت". هكذا يمضي يوم محمود درويش لا يقطعه الا السفر، لكنه لا يسافر كثيراً. منذ سنوات لا يلبي الكثير من الدعوات بغض النظر عن مصدرها، ولا يقيم الأمسيات الشعرية في عمانورام الله إلا سنة بعد سنة، وقد تطول المدة حتى يضغط عليه أصدقاؤه ليقرأ بعض جديده أو قديمه الجديد. يقول لي: "لا أحب بريدي، فهو يحمل الكثير من الدعوات للمشاركة في الندوات أو إحياء أمسيات شعرية. لكنني لا ألبي الكثير من هذه الدعوات لأنني اذا لبيتها ضاع وقتي كله". المساء الأخير في المساء الأخير على هذه الأرض نقطع أيامنا عن شجيراتنا، ونعدّ الضلوع التي سوف نحملها معنا والضلوع التي سوف نتركها، ههنا... في المساء الأخير لا نودِّع شيئاً، ولا نجد الوقت كي ننتهي... كل شيء يظل على حاله، فالمكان يُبدِّل أحلامنا ويبدِّل زواره. فجأة لم نعد قادرين على السخرية فالمكان معدّ لكي يستضيف الهباء... هنا في المساء الأخير نتملى الجبال المحيطة بالغيم: فتحٌ... وفتحٌ مضاد وزمان قديم يسلّم هذا الزمان الجديد مفاتيح أبوابنا فادخلوا أيها الفاتحون، منازلنا.... محمود درويش 1992 حالة حصار ... ايها الواقفون على العتبات أدخلوا، واشربوا قهوتنا العربية قد تشعرون بأنكم بشر مثلنا. أيها الواقفون على عتبات البيوت! أخرجوا من صباحاتنا، نطمئن إلى أننا بشر مثلكم! * نجد الوقت للتسلية: نلعب النرد، أو نتصفح أخبارنا في جرائد أمس الجريح، ونقرأ زاوية الحظ" في عام ألفين واثنين تبتسم الكاميرا لمواليد برج الحصار. محمود درويش 2002