يستيقظ في الثامنة صباحاً.. يفتح المذياع الذي استقر مؤشره الإذاعة البريطانية منذ أربعين عاماً.. يعدُّ قهوته الداكنة المشغوف برائحتها الباذخة التي لا يتناولها إلا في فنجان أبيض .. «لأن الفناجين الداكنة تفسد حرية القهوة» كما كتب في « ذاكرة للنسيان « – كتابه النثري الجميل المليء بالشاعرية الفاتنة ، والمكتوب بلغة مشرقة لا يكتبها إلا هو يتصفح صحفاً بعينها، يقرأ ساعةً كاملةً، يأخذ حماماً (لا يستحم ليلاً) ثم يمضي إلى مكتبه في مجلة « الكرمل «سيراً على قدميه.. لا يقرأ الشعر إلا ليلاً.. ويؤثر قراءة كتب في التاريخ والفكر نهاراً.. يكتب بالحبر السائل على ورق غير مسطر.. ربما لأن الأسطر تحد من حرية الكتابة وانطلاقة خيول الكلمات – كما قال مرّةً الشاعر نزار قباني - لا يجلس في مقهى.. ولا يؤثر التسكع.. ويفضل العزلة المنزلية إذ يغتنمها في القراءة والكتابة والتأمل.. يومياً يجلس ساعات بعينها للكتابة .. وإن استعصت عليه يبدل قلماً بقلم آخر.. ويلجأ إلى الموسيقى منصتاً.. لا يكتب في أي مكان.. بل يجلس إلى منضدة الكتابة.. مشغوف بمتابعة مباريات كرة القدم.. ذات مرة كتب في مجلة «اليوم السابع» مقالاً رائعًا عن المبدع «مارادونا» ، تحت عنوان ساخر من كلمة واحدة: «مرضونا»! وكان في هذا الصدد يشجع فريق ريال مدريد الإسباني.. يخلد للنوم عند منتصف الليل بعد أن يكون قد قرأ ساعات معينة.. في مجلة «الكرمل» يجلس بانضباط كامل إلى مكتبه ويقرأ موادها قبل النشر بنفسه بعناية.. كما يراجع «البروفات» بنفسه أيضاً حريصاً على خلوها من الأخطاء. كما يجري اتصالات بكتّاب مجلته العميقة والرصينة والرائعة.. في الثانية والنصف – بعد الظهر – يتناول طعام الغداء.. وينام نصف ساعة فقط، ويرى أن هذه القيلولة ضرورية، ويحرص على ألا تزيد عن نصف الساعة، لأنها قد تستحيل مضرة.. يرفض الفوضى والعشوائية والارتجال والكسل والبوهيمية، التي يعتقد كثير من كتابنا العرب أنها من لوازم الإبداع! الآن عرفت لماذا محمود درويش مبدع كبير، ولماذا ينتج دواوين متميزة، كل ديوان يشكل تجربة جديدة، وورداً يضيف إلى حدائق وروده المتألقة.. وإضافةً عميقة وعلامة صارخة في أفقه الإبداعي الشخصي، وفي أفق القصيدة العربية الحديثة بصفة عامة.. إنه رجل يحترم الوقت، ويحترم ما يكتب، ولا يترك مهمة الكتابة لما تمليه عليه «التساهيل»، ولا يدع مهمة القراءة لحكم الظروف، ولا يبدد وقته في الثرثرة والتنظير على ناصية المقاهي وفي الحانات.. يعتذر عن دعوات كثيرة لإحياء أمسيات شعرية في العالم وفي العالم العربي؛لأنه يرى أنها تنهب منه وقته الثمين، الذي يخصصه للمطالعة والكتابة والتأمل والإبداع وتطوير الذات والأدوات وإنضاج التجربة.. هكذا هم الكبار دوماً، ولهذا البذل أضحوا كباراً.. بمناسبة يوم مولده الذي يشبه الأعياد