يعالج كتاب فريد الخازن ترجمة شكري رحيّم السياسة اللبنانية في فترة ما قبل الحرب بين العامين 1967 و1974 كما في سنتي الحرب الأوليين في 1975 و1976. كثيرة هي النقاشات والأبحاث التي تناولت الحروب المتعددة وعلى مختلف المستويات، من هذا المنظار أو ذاك، فتناولها أكاديميون وصحافيون وروائيون ركّز بعضهم على لبنان 1975، سنة اندلاع الحرب، وركّز آخرون على الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 وعلى عمليات خطف الرهائن في أواسط الثمانينات، فيما تطرق البعض الآخر الى سنوات الحرب من موقع نهايتها في أوائل التسعينات. وقلة من الدارسين تناولت الفترة السابقة للحرب مباشرة وحاولت سبر العلاقة بينها وبين تطور النزاع المسلّح في اواسط السبعينات. اذا استثنينا تلك القلة فان دارسي سياسة لبنان ما بعد الاستقلال تناولوا فترة الخمسينات وخصوصاً ازمة 1958، وفترة الستينات، او هم تطرقوا الى الحرب نفسها. اما الحلقة المفقودة في الدراسات السياسية عن لبنان فهي البحث الذي يتناول عملية زعزعة الاستقرار فيه على الصعيدين الداخلي والخارجي على حد سواء، وذلك منذ نهاية الستينات. في هذا الكتاب تفكيك أوصال الدولة في لبنان يحاول الباحث الاكاديمي الخازن في عمل تحليلي مفصل، استعراض التطورات والأزمات الرئيسة التي عصفت بلبنان من كل صوب في تلك الفترة. "الحياة" اختارت اربع حلقات من الفصلين الخامس والثامن، من الكتاب الذي يصدر قريباً عن دار النهار في بيروت. اعتبرت فترة 1970 1972 فترة "النضج الثوري"، وكان من هموم المنظمة الرئيسية التأقلم مع التغيّر الذي عصف بالمشهد السياسيّ العربيّ في مطلع عقد السبعينات. كان على منظمة التحرير أن تخوض معاركها على جبهتين: المواجهات العسكرية مع الجيش الأردني في العام 1970-1971، والمعارك السياسية التي كان هدفها انتزاع الأراضي الفلسطينيةالمحتلة من القبضة الهاشمية. كانت حرب الأردن ضربة قاسية لمنظمة التحرير. وإذا كانت هزيمتا العامين 1948 و1967 هزيمتين عربيتين مشتركتين، فان حرب الأردن كانت فلسطينية، وقد هزت منظمة التحرير من أركانها وكان من ذيولها أن بدأت الخلافات وإعادة تقويم الأمور من جديد. لم تمض أيام حتى وجدت المنظمات الفلسطينية نفسها تحت رحمة الأنظمة العربية من جديد، وعادت تطفو على السطح الانقسامات التي طبعت السياسة الفلسطينية بعد العام 1967. في العام 1972 تركز النقاش داخل منظمة التحرير الفلسطينية حول أفضل السبل الواجب سلوكها في العمل الفدائي. وفي حين روّجت فتح لسرّية العمل الفدائي، كان الاتفاق شبه مفقود داخل المنظمات الفلسطينية حيال التحرك المستقبلي لرصّ الصفوف الفلسطينية وتسريع الخروج من رواسب حرب الأردن. أطلق الرئيس أنور السادات عنوانا للعام 1972 هو "سنة القرار"، لكنّ الفلسطينيين، بعد حربهم الأردنية، كانت لديهم "سنة قرار" خاصة. كان لا بد لهم من وضع استراتيجية جديدة، ذلك أن سنوات "المراهقة" في الستينات كانت قد ولّت. أطلقت الثورة في الأردن فتم اكتساحها، لكن بقي هناك ملجأ. لبنان هو الملجأ، وفيه استعادت منظمة التحرير الفلسطينية أنفاسها. العلاقات بعد اتفاق القاهرة مع كل الدعم العربيّ الذي حشدته منظمة التحرير الفلسطينية لنفسها، ومع كل الانتباه الدولي الذي استقطبته، ما كانت لتستطيع ممارسة عملها ونشاطها باستقلالية ذاتية لولا الملاذ الذي وجدته في لبنان. إنها استقلالية مستحيلة المنال في أي بلد عربيّ غير لبنان، وقد نظرت منظمة التحرير إلى قاعدتها اللبنانية نظرة استراتيجية في السنوات التي تلت خسارتها قاعدتها الأردنية. من هنا، ونتيجة لهذا المستجد، لم يعد لبنان مكانا تكتفي فيه المنظمة بوجود سياسيّ وعسكري محدود. في مطلع السبعينات لم تظهر المنظمات الفلسطينية استعدادا يذكر للالتزام بالاتفاقات، خصوصا تلك التي كانت أشبه بصفقات متسرعة تعكس ميزان القوى في نهاية الستينات. وإذا كانت الاتفاقات بين "الأخوة" العرب تهمل ولا تؤخذ في البال، وإذا كانت العلاقات بينهم في مهب العواصف، فما بالك بالعلاقات بين الأعداء، وتحديدا بين إسرائيل والفلسطينيين في لبنان؟ ابتداء من العام 1970 اشتدت الغارات الفلسطينية-الإسرائيلية في الجنوب وكذلك المواجهات بين الجيش اللبناني والفدائيين، وكانت إحدى هذه المواجهات المبكرة بعد اتفاق القاهرة قد وقعت في الجنوب في آذار مارس من العام 1970 مخلّفة عددا من القتلى. هذا العنف المتمادي أخذ يدفع السكان المحليين إلى البحث عن أماكن آمنة يلجأون إليها خارج قراهم ومناطقهم، فقصد الكثيرون منهم ضواحي بيروت. قامت التظاهرات في بيروت احتجاجا على سياسات الحكومة اللبنانية حيال القضايا العربية والثورة الفلسطينية، وكانت الشعارات التي رفعتها تلك التظاهرات مرآة عكست الفسيفساء المتضاربة للسياسات العربية. إحدى المواجهات وقعت في آذار 1970، وبدأت الصدامات في بلدة الكحّالة ثم امتدت فوراً إلى مشارف بيروت وضواحيها. استمرت تلك الاضطرابات ثلاثة أيام، لكنّ المسحة الطائفية التي رافقتها كانت أقوى من أية حوادث سبقتها. بدأ الحادث في 25 آذار نتيجة تبادل لإطلاق النار مع فلسطينيين في موكب سيارات كان يعبر بلدة الكحالة المارونية الواقعة على طريق بيروت - دمشق في طريقه إلى دمشق لدفن ضابط كوماندوس فلسطيني. عندما عاد الموكب الفلسطيني من دمشق، وكان أكبر عددا وأكثر تسلّحا من الذي اتجه إلى دمشق، انهمر عليه الرصاص لحظة عبوره الطريق العام في البلدة. استمر تبادل إطلاق النار 45 دقيقة وانتهى بعدد من القتلى. بعد الحادث مباشرة بدأت محاولة التوفيق بين الجانبين، فالتقى جنبلاط بوصفه وزيراً للداخلية ممثلين للفلسطينيين ولسكان بلدة الكحّالة. لكن هذه الجهود لم تمنع امتداد المواجهات إلى المناطق المحيطة بالمخيمات في الدكوانة وحارة حريك. كان الفلسطينيون بدأوا توسيع رقعة وجودهم المسلّح خارج المخيمات، وكانت هاتان المنطقتان المأهولتان بكثرة مسيحية من الطبقتين الوسطى والمحدودة الدخل من المناطق التي شهدت امتدادهم وحواجزهم المسلحة على الطرقات. في الدكوانة، قرب مخيم تل زعتر، هاجم الفدائيون مركزاً لحزب الكتائب، وكان الأهم من مهاجمة المركز الحزبي اختطافهم ابن رئيس الحزب، بشير، الذي لم يكن في حينها قد انخرط في العمل الحزبي. ومع أن الجميّل ورفيقيه أفرج عنهم في اليوم نفسه من أحد مكاتب حركة فتح في شارع الحمراء، فقد كان للعملية مدلول رمزي مهم وواضح، ذلك أن أعضاء في حزب الكتائب كانوا موضع شبهة واتهام في حادث الكحّالة. لم يطل الأمر حتى تمّ احتواء الأزمة، لكنها كانت مؤشراً واضحاً على مدى التوتر الطائفي الذي كان الوجود الفلسطيني المسلّح يولّده في البلد. هذا الشعور لم يقتصر على المسيحيين وحدهم، وإنما شمل الشيعة والدروز خصوصا في الجنوب اذ كان أهل القرى يتحملون وطأة المواجهات الفلسطينية - الإسرائيلية ونتائجها. أول دلائل الامتعاض وعدم الرضى ظهرت في شهر أيار مايو 1969 في حاصبيا ومرجعيون وسواهما من المناطق الجنوبية حين انطلقت التظاهرات تحتج على تصرف المنظمات الفلسطينية وتعبّر عن تأييدها للجيش اللبناني. في تلك الفترة لم يكن أحد يربط بين المعارضة الشعبية لفوضى الوجود الفلسطيني المسلّح وبين السياسة الداخلية والنزاعات الإقليمية. الأحرى أن الناس في ذلك كانت تعبّر عن شعور طبيعي بالخوف والتهديد الناتجين من المواجهات العسكرية بين المسلحين الفلسطينيين وإسرائيل. ما أن هدأت تلك الأحداث حتى اندلعت مواجهات عسكرية جديدة في الجنوب حين أدى القصف الفلسطيني لشمال إسرائيل إلى قصف إسرائيلي عشوائيّ مضاد استهدف المدنيين. في 12 أيار 1970 اصطدم الجيش الإسرائيلي بالجيش اللبناني والفدائيين وأخذ الإسرائيليون عدداً من الأسرى اللبنانيينوالفلسطينيين. اغتنمت سورية هذه السانحة لترسل مزيداً من الجنود إلى منطقة العرقوب مدعية أن الهدف حماية لبنان من العدوان الإسرائيلي. بعد بضعة أيام استأنفت إسرائيل قصف القرى الجنوبية رداً على عملية فدائية داخل إسرائيل، وكانت حصيلة هذه الجولة من القتال عددا كبيرا من القتلى بين المقاتلين والمدنيين على السواء، إذ إن قنابل النابالم الإسرائيلية كانت تستهدف المدنيين. هذه الغارات الإسرائيلية الوحشية المتكررة فتحت أول سيل كبير من نزوح الجنوبيين وخصوصا منهم الشيعة إلى ضواحي بيروت. ازداد ارتفاع الأصوات المطالبة بحماية الجنوب وإعادة إعماره وتطويره، وكان الإمام موسى الصدر صوتاً بارزاً من تلك الأصوات. في السادس والعشرين من أيار حصل إضراب عام وسارت في بيروت تظاهرات حاشدة استجابة لدعوة الصدر، ورفعت شعارات تشدد على ضرورة تحصين الجنوب وتنتقد عدم فاعلية الحكومة اللبنانية. أعادت هذه الأحداث إلى التداول النقاش عن مدى التزام المنظمات الفلسطينية اتفاق القاهرة، فأكدت الحكومة اللبنانية أن قصف الفلسطينيين إسرائيل من لبنان وتوسيعهم العمليات الحربية من دون تنسيق مسبق مع الجيش اللبناني كانا انتهاكاً لاتفاق القاهرة. كُلّف وزير الداخلية كمال جنبلاط إيجاد تسوية فتوصّل إلى اتفاق مع ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، شفيق الحوت، بأن يوضع حد للعراضات المسلحة للفدائيين في المناطق غير العسكرية. لكن لم يمض أكثر من أربعة أسابيع حتى عادت "العاصفة"، الذراع العسكرية لفتح، إلى قصف مستعمرة كريات شمونا في شمال اسرائيل. الحوادث العسكرية المتعلقة بالمنظمات الفلسطينية لم تتوقف ومنها، مثلاً، ما حدث في صيدا بين منظمة ناصرية محلية يرأسها معروف سعد وفدائيين من مخيّم عين الحلوة القريب من المدينة. حجز الفدائيون معروف سعد في المخيّم وأغلقوا مكاتب منظمته الناصرية. إثر هذا الحادث نفذت المدينة إضرابا عاما وطالب القادة المحليون بإغلاق المكاتب الفلسطينية في المدينة. وفي محاولة لتثبيت وجودها في لبنان وتحصينه وضعت حركة فتح خطة في العام 1970 للاستفادة من المخيّمات في بيروت وضواحيها بشكل أكثر فاعلية خصوصا في حالات الأزمات. القاعدة الرئيسية في بيروت كانت في مخيّم برج البراجنة في ضاحية بيروتالجنوبية، اذ كانت توجد مصانع صغيرة للذخيرة منذ العام 1970. هذا المخيّم كان يشرف، بحكم موقعه، على الطريق الرئيسيّ لمطار بيروت الدولي ويسيطر عليه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مخيّمي صبرا وشاتيلا اللذين أصبحا في ما بعد المقر الرئيسي لحركة فتح في بيروت. ففي صيف العام 1970 كان عديد عناصر فتح بلغ بضعة آلاف وقواعدها التدريبية اثنتي عشرة: ثلاث قواعد في تل زعتر وثلاث في برج البراجنة واثنتان في صبرا وشاتيلا وقاعدة واحدة في كل من مخيّمات جسر الباشا وضبية والكرنتينا ومار الياس. انتخاب فرنجية في المجال السياسيّ الداخلي كان صيف العام 1970 فترة إعداد للانتخابات الرئاسية، وكانت المعارضة بقيادة ريمون إدّه وكميل شمعون وبيار الجميّل وصائب سلام وكامل الأسعد مصممة على إنهاء "اثنتي عشرة سنة من السيطرة الشهابية". ونجح هؤلاء في هزم الياس سركيس بفارق صوت واحد وانتخاب سليمان فرنجية مرشح ائتلاف الوسط. في الواقع إن الذي هزم الشهابيين هو امتناع شهاب عن الترشّح، فقد كان من شبه المؤكد أن شهاب لو ترشح هو شخصيا لفاز على فرنجية، والسبب أنّ نواب الكتائب ونواب كتلة جنبلاط كانوا سيؤيدون شهاب شخصيا لكن ما كانوا ليؤيدوا مرشحا يسمّيه شهاب. كان فرنجية عضواً في البرلمان منذ العام 1960، وشغل عدة مناصب وزارية واعتبر انتخابه انتصاراً للحرية والديمقراطية. صائب سلام، الذي تولّى رئاسة الحكومة في السنوات الثلاث الأولى من عهد فرنجية، وضع انتخاب فرنجية في خانة "الانقلاب الأبيض". وخلق توقع التغييرات في الإدارة الحكومية وفي المؤسسة العسكرية ذات الولاء والسيطرة الشهابيين جواً من التفاؤل، فالعهد الجديد ساهم في اعطاء الزخم الى الحياة السياسية. لم تمض بضعة أشهر على بداية العهد حتى أجريت عملية تطهير واسعة في صفوف ضباط الجيش استهدفت بشكل رئيسي الضباط الشهابيين في الجيش مع تركيز خاص على المكتب الثاني المخابرات العسكرية. صاحب الصوت الأعلى في انتقاد تصرفات المكتب الثاني كان رئيس الحكومة صائب سلام الذي اتهم رئيسه العقيد غابي لحود بوضع أجهزة تنصّت على خطوط الهاتف. اعتقل ضباط المكتب الثاني وحوكموا بتهم مختلفة شملت المسّ بالحريات العامة، وانتهاك القوانين والقواعد العسكرية، وتبذير الأموال العائدة إلى المؤسسة العسكرية. أما الضباط الذين طاولتهم هذه الإجراءات بشكل خاص فكانوا غابي لحود وسامي الخطيب وسامي الشيخة وجان ناصيف ونعيم فرح. بالنتيجة ذهب لحود إلى إسبانيا وطلب الضباط الآخرون اللجوء السياسي الى سورية. عملية التطهير هذه كانت سياسية الدوافع، كما كان الاعتقاد سائداً، وتركت أثراً سلبياً في معنويات الجيش وفي فاعلية عمل أجهزته المخابراتية. كل هذه الإجراءات وقعت في مرحلة شديدة الدقة كان فيها مقاتلو منظمة التحرير الفلسطينية يتسلّلون إلى لبنان بأعداد كبيرة بعد حربهم في الأردن. مرت سنتا عهد فرنجية الأوليان خاليتين من أية أزمة لها علاقة بالفلسطينيين، وذلك عائد في جزء منه إلى فترة الارتياح من الغليان الإقليمي التي مر بها لبنان وكانت نتيجة ثلاثة تطورات غير متوقعة: وفاة الرئيس جمال عبد الناصر المفاجئة في أيلول سبتمبر 1970، ووصول حافظ الأسد إلى السلطة، والحرب الفلسطينية - الأردنية في فترة 1970 - 1971. في 12 كانون الثاني يناير 1971 وقعت اصطدامات بين فتح وفصائل فلسطينية أخرى، خصوصاً الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي يتزعمها جورج حبش، وسبقتها قبل أيام اصطدامات في بيروت بين فتح ومنظمة صغيرة يقودها عصام السرطاوي تدعى منظمة العمل لتحرير فلسطين، واعتقلت فتح في ما بعد عصام السرطاوي الذي كانت تربطه علاقة بالقاهرة. لكن الخلاف الأكثر أهمية كان بين فتح والجبهة الشعبية، فقد اتهم بيان أعلنه في بيروت كمال عدوان، أحد مسؤولي فتح، الجبهة الشعبية بالتآمر مع النظام الأردني عارضا قائمة مفصّلة بأعمال تلك المنظمة ومعدّدا إساءاتها حيال المنظمات الفلسطينية الأخرى منذ محاولات توحيد الفصائل الفدائية التي شهدها المؤتمر الرابع للمجلس الوطني الفلسطيني الذي عقد في تموز يوليو 1968. ثم تابع موجهاً الانتقاد إلى الجبهة الشعبية لأنها رفضت الالتزام بالاتفاق المعقود مع السلطات الأردنية، وشدّد على أن الجبهة لم تبق في الأردن سوى قوة صغيرة وأن جورج حبش نفسه كان بحماية فتح في جرش الأردن. في اليوم التالي أصدرت الجبهة الشعبية بياناً معتدلاً ركزت فيه على أن السلاح الفلسطيني لن يستخدم ضد فلسطينيّ آخر. عكست الاتهامات التي وجّهتها فتح خلافات في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية وصلت إلى أبعد مما أصبح معلناً. بعد أسبوعين من تبادل البيانات أعلنت دمشق أنها مستعدة للسماح للجبهة الشعبية بأن تنشئ قواعد لها في سورية. ثم تتابعت الجهود لتوحيد الصفوف الفلسطينية وفي تموز 1971 انضمت إلى فتح منظمتان فلسطينيتان صغيرتان. في هذه الأثناء بلغ القتال في الأردن أوجا جديدا، ولم ينقض صيف 1971 حتى كان الجيش الأردني سيطر على كل ما تبقى من المعاقل الفلسطينية. والمفارقة في الأمر أن تتزامن ضربة الأردن العسكرية القاضية للقوات الفلسطينية مع إجراء محادثات ترمي إلى تحقيق وحدة جديدة بين ثلاث دول عربيّة: مصر، وسورية، وليبيا. المواجهات مع إسرائيل في 1972 في حين كانت العلاقات اللبنانية - السورية والفلسطينية - السورية طبيعية وغير متوترة في العام 1972، تصعّدت الأعمال الحربية بين الفلسطينيين وإسرائيل اذ رفعت الأخيرة وتيرة عملياتها العسكرية في لبنان طوال تلك السنة، وشنت ابتداء من كانون الثاني 1972 الغارات على الجنوب والبقاع رداً على عمليات الكوماندوس الفلسطينية ضد أهداف إسرائيلية. أدت هذه الغارات إلى إصابة أهداف مدنية شملت المنازل والمدارس ومباني أخرى ادعت إسرائيل أن الفدائيين استخدموها لأغراض عسكرية، ثم عادت الغارات فاستؤنفت في شهري حزيران يونيو وأيلول من العام 1972. في هذه الأثناء اشتبك الجيش اللبناني مع الجيش الإسرائيلي على مدى يومين متواليين. ومرة جديدة برزت على الساحة السياسية مسألة التزام المنظمات الفلسطينية بنود اتفاق القاهرة، وقد استمرت انتهاكات المنظمات للاتفاق في العامين 1971- 1972. موجة العنف الجديدة أدت إلى جولة جديدة من المحادثات اللبنانية - الفلسطينية، فعقد اجتماع في القصر الجمهوري لبحث القصف المدفعي الفلسطيني لإسرائيل من الأراضي اللبنانية ومواقع قواعد الفدائيين في الجنوب. حضر اللقاء رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وقائد الجيش ووفد فلسطيني برئاسة ياسر عرفات. طرحت في الاجتماع اقتراحات لإعادة النظر ببعض بنود اتفاق القاهرة، لكنّ الاجتماع لم يؤد إلى أية نتائج ملموسة. الموقف الفلسطيني كشفه بيان أصدره مسؤول عسكري فلسطيني في الجنوب أوضح فيه أن القوات الفلسطينية لن تغادر منطقة العرقوب حيث يقع "آخر ما تبقى لهم من القواعد العسكرية". في نهاية 1971 بلغ عديد القوات الفلسطينية في جنوبلبنان خمسة آلاف وخمسمئة عنصر غالبيتهم من حركة فتح تليها عددا منظمة الصاعقة. وفي محاولة لتخفيف التوتر عقد عرفات لقاءات مع قادة لبنانيين، خصوصا من الموارنة والسنّة، وكانت هذه اللقاءات موضع ترويج في وسائل الإعلام. لكن العلاقات الفلسطينية - اللبنانية عادت إلى التوتر بعد غارة إسرائيلية على منطقة حاصبيا لم تميّز بين ضحاياها، وقد وقع فيها ثمانية وأربعون قتيلا وخمسة وسبعون جريحاً كان بينهم مدنيون وجنود لبنانيون وفدائيون. إلى الضحايا، أسرت إسرائيل خمسة ضباط سوريين وضابطاً لبنانياً. بمعزل عن الخلاف حول اتفاق القاهرة، فقد ارتفع هذه المرة صوت سكان منطقة حاصبيا، وبينهم كثرة من الدروز، ضد العمليات العسكرية الفلسطينية في منطقتهم وقراهم. ولامتصاص النقمة الدرزية أضاف عرفات إلى قائمة لقاءاته زيارة إلى الزعيم الدرزي في سورية سلطان باشا الأطرش. لم تنجح الوساطات العربية، خصوصا تلك التي قام بها أمين عام الجامعة العربية محمود رياض، في التوفيق بين الفصائل الفلسطينية. كذلك حاول عرفات التوسط بين دمشق وفصائل في منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد أيام من المساومات تمّ التوصل إلى تفاهم بين المنظمات المتناحرة فسهّل هذا التفاهم بدوره الوصول إلى اتفاق بين الحكومة اللبنانية والقيادة الفلسطينية. كما الاتفاقات السابقة، صيغ هذا الاتفاق بأكثر العبارات غموضاً، وفي حين لم يلغ الاتفاق الجديد اتفاق القاهرة، فقد وضع قواعد وخطوطاً جديدة للعمل الفدائي. كان الهدف الأساس من هذا الاتفاق، الذي عالج أيضا الخلافات الفلسطينية - السورية، الحفاظ على الوضع الراهن من خلال تجميد العمليات العسكرية في منطقة العرقوب. لكن ما أن توافقت المنظمات الفلسطينية على منهج للعمل ريثما تحلّ خلافاتها حتى بدأ المنشقون يتحركون، وكان من أوائل المعارضين لفكرة تجميد العمليات نايف حواتمه، قائد الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، واتهمه الناطق باسم حركة فتح كمال ناصر بشق وحدة الصف الفلسطيني. تزايدت المواجهات بين الفلسطينيين في عدة مخيّمات في شهر حزيران 1972 وفي الوقت نفسه تزايد تدفق مقاتلي فتح إلى لبنان، في حين كانت الحركة تشهد انشقاقا آخر جديداً. ففي تشرين الأول اكتوبر 1972 هزت فتح حركة تمرد داخلي نتجت من الخلاف بين قيادييها حول السيطرة على القواعد العسكرية في لبنان، وحول تشكيلات واسعة في المواقع القيادية للفدائيين. ربما بدت هذه الأسباب كأنها هي وراء تلك الخلافات غير أن النزاع الداخليّ كان أعمق من ذلك بكثير. فحين قام أحد قادة فتح المحليين، أبو يوسف الكايد، بحركة تمرد في إحدى قواعد الفدائيين في البقاع، تصدّى له قائد آخر من فتح هو أبو موسى الذي حلّ في ما بعد محل عطاالله عطاالله أبو الزعيم قائداً عسكرياً عاماً لفتح في لبنان. الأرجح أن حركة الكايد كانت بإيحاء من أحمد جبريل الذي كان على علاقة جيدة به. وكان جبريل، الذي رفض الالتزام بالاتفاقات المعقودة مع الحكومة اللبنانية، قد احتلّ قاعدة في منطقة الصرفند، منتهكا بذلك اتفاقا كان قد تم مع الجيش اللبناني. كان الفلسطينيون في هذه الأثناء في دورة من المواجهات مع إسرائيل، ما أن ينتهي هجوم أحد الطرفين فيها حتى يبدأ الرد عليه بهجوم مضاد. إحدى تلك العمليات الدامية وقعت في مطار تل أبيب في الثلاثين من أيار ونفذها ثلاثة من الجيش الأحمر الياباني وقتل فيها ستة وعشرون شخصاً وجرح ثمانون. وفي عملية أخرى في الخامس من أيلول 1972 قتل تسعة رياضيين إسرائيليين ومدرّبهم خلال دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ، وتبنّت هذه العملية الجبهة الشعبية بقيادة جورج حبش. إسرائيل حمّلت مسؤولية العملية في ميونيخ للدول العربية التي قدّمت للمنظمات الفلسطينية الدعم العسكري والسياسي والمالي، أما القادة الفلسطينيون، وخصوصا الذين اتهمتهم إسرائيل بالضلوع في عملية ميونيخ وعمليات خطف الطائرات، فكانوا أيضا مستهدفين من إسرائيل. من بين الذين قتلوا بواسطة وسائل تقنية متقدمة كالرسائل المتفجرة مثلاً خلال بضعة أيام، الروائي غسان كنفاني، أحد قادة الجبهة الشعبية، كما أصيب بجروح خطرة المسؤولان الفلسطينيان بسّام أبو شريف وأنيس صايغ مدير مركز الأبحاث الفلسطينية ورئيس تحرير دورية فلسطينية تصدر باللغة العربية. من العمليات الثأرية التي وقعت وكانت بيروت مسرحها ما نسب إلى الحرب السرية بين الأردنيينوالفلسطينيين، كالمتفجرة التي ألقيت على مكاتب صحيفة النهار، والمتفجرتين اللتين ألقيتا على كنيستين مارونيّتين. وأوقفت السلطات اللبنانية دبلوماسيا أردنيا اشتبه بأنه وراء تلك المتفجرات. مراكز فتح كانت أيضا هدفا لهذا النوع من الاعتداءات، بحسب ما أعلنت المصادر الفلسطينية. في الفترة نفسها تقريبا، كشفت السلطات الأردنية خطة لقلب نظام الملك حسين، وبعد أسبوع أعلنت مصادر فلسطينية اكتشاف شبكة عملاء تعمل داخل حركة فتح لمصلحة النظام الأردني. في شهر أيلول 1972 دفع لبنان غالياً ثمن العنف المتبادل بين الفلسطينيين وإسرائيل. ففي عملية ثأرية مباشرة لعملية ميونيخ شنت إسرائيل أوسع اعتداءاتها العسكرية على لبنان حتى ذلك التاريخ، وكان الهجوم براً وجواً. استمرت العملية يومين وحصدت عدداً كبيراً من الضحايا، كما كانت المواجهة العسكرية الأولى على هذا النطاق الواسع مع الجيش اللبناني، ما أكسب الحكومة اللبنانية كلمات الإطراء والمديح من السياسيين اللبنانيين والقادة العرب على وقوفها بوجه العدوان الإسرائيلي. بعد تلك الغارات عقدت اجتماعات بين القادة اللبنانيينوالفلسطينيين، وكالعادة في مثل هذه الحال كررت القيادة الفلسطينية استعدادها للالتزام بالاتفاقات المعقودة مع الحكومة اللبنانية، لكن هذه الوعود كانت قد أصبحت نغمة مبتذلة يجري تكرارها مع كل أزمة. وبالفعل لم تمض بضعة أسابيع حتى اندلعت الصدامات من جديد بين الجيش اللبناني وعناصر فلسطينية مسلّحة في الجنوب. الانتخابات النيابية في 1972 لم تحل كل هذه الاضطرابات دون اتخاذ العملية السياسية في لبنان مجراها الطبيعي، فكان الحدث السياسيّ الأبرز في العام 1972 هو انتخاب مجلس نيابي جديد. واللافت أن تلك الدورة من الانتخابات التشريعية كانت الأفضل تنظيما والأكثر تنافسية وحرية منذ الاستقلال. جاءت انتخابات العام 1972 إلى المجلس النيابي بأعلى نسبة من المداورة 39 نائبا جديدا من أصل 99 منذ العام 1943، وجاءت هذه الوجوه النيابية الجديدة من كل الطوائف والمواقع السياسية. ثلاثة من الأعضاء الجدد كان انتخابهم أمراً لافتاً إذ جاؤوا بطروحات سياسية غير مألوفة: عبد المجيد الرافعي من طرابلس قياديّ في فرع لبنان من حزب البعث الموالي للعراق، ونجاح واكيم النائب الأرثوذكسي الناصري من دائرة بيروت الثالثة، وعلي الخليل من دائرة صور في الجنوب عضو سابق في حزب البعث. اللافت أيضا في هؤلاء النواب الجدد ليس فقط الانتصار الانتخابي الذي حققوه، وإنما أيضا الطريقة التي حققوا فوزهم بها. فالثلاثة ترشحوا منفردين ولم يدخلوا لوائح الزعماء الكبار الذين يترأسون اللوائح عادة. أبرز الانتصارات من هذه الناحية كان انتصار نجاح واكيم على السياسيّ المخضرم نسيم مجدلاني الذي كان مرشحا على لائحة رئيس الحكومة صائب سلام. انتخاب واكيم لم يمر عند أركان الطائفة الأرثوذكسية مرورا عابرا، فقد نظّم هؤلاء تظاهرة احتجاج على انتخابه ودعوا إلى مقاطعته على أساس أنه انتخب بأكثرية من أصوات الناخبين السنّة، ما يجعل انتخابه لا يعكس إرادة الناخبين من طائفته. ثمة تطور آخر ساعد في تلك الفترة على رفع رصيد الأداء الحكوميّ هو التحقيق الذي أجري في الصفقة لشراء صواريخ مضادة للطائرات كروتال من صنع فرنسيّ، وتمّ بنتيجته إيقاف الصفقة. في نهاية العام 1972 بدأت البلاد تشهد مشكلات اجتماعية - اقتصادية متعلقة بعمّال المصانع ومزارعي التبغ ومعلمي المدارس. من تلك المشكلات الحادث الذي اصطدمت فيه عناصر من قوى الأمن الداخلي بالعمال المضربين في معمل غندور في شهر تشرين الثاني، حيث قتل اثنان من العمال وجرح تسعة عشر شخصا بمن فيهم ثلاثة عشر من رجال الشرطة. خرجت الأحزاب اليسارية في تظاهرات احتجاج على التصرف غير المسؤول للحكومة في الحادث، لكنّ الأمر انتهى إلى اتفاق بين العمال ورب العمل عن طريق وساطة الاتحاد العمالي العام ووزارة العمل أعلن بنتيجته وقف الإضراب في مطلع شهر كانون الأول. كذلك وقعت صدامات في تشرين الأول وتشرين الثاني 1972 في مناطق عدة في الجنوب بين الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي من جهة، وبين الفصائل الفلسطينية من جهة ثانية. لكن هذه الصدامات لم تمتد إلى خارج الجنوب ولا كانت لها ذيول سياسية واسعة. ما أن ثبّتت منظمة التحرير الفلسطينية أركانها في لبنان حتى باتت خلافاتها الداخلية أكثر وضوحا، أكان داخل كل منظمة أو بين منظمة وأخرى. هنا ارتفع الصوت في وجه قيادة عرفات وأهداف سياساته. في نهاية العام 1972 كانت منظمة التحرير، قاعدة وقيادات، وضعت وراءها حرب الأردن، وتمكّنت المنظمات الست الرئيسية من إعادة إحياء بناها التحتية، العسكرية والسياسية، وتثبيتها في لبنان داخل المخيّمات وخارجها. كذلك أنشأت هذه المنظمات تركيبة قيادية قوية ذات علاقات واسعة وثابتة مع عدة أنظمة عربية ومع القوتين الشيوعيتين الكبريين، الصين والاتحاد السوفياتي، ومع الدول الدائرة في فلكيهما. * مقاطع من الفصل الخامس من كتاب "تفكيك أوصال الدولة في لبنان"، دار النهار، بيروت.