تدل المؤشرات، حتى كتابة هذه السطور على الأقل، الى ان دورية القمة العربية نجت من الافخاخ التي نصبت لها، ومن محاولات العرقلة التي استهدفتها، وان القمة المقبلة ستنعقد في موعدها، أي في نهاية شهر آذار مارس. في هذ القمة ستنتقل رئاسة المؤتمر من الملك عبدالله الثاني، ملك الأردن، الى الرئيس اللبناني اميل لحود، بعدها بعام، أي في المؤتمر الدوري للقمة العربية عام 2003، تنتقل الرئاسة من الرئيس لحود، الى ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة. المشترك بين رؤساء القمة الثلاثة انهم يمثلون دولاً عربية صغيرة. صغيرة لا من حيث المكانة المعنوية، ولكن من ناحية القدرات وبمعايير النفوذ الاقليمي الذي يتجاوز حدود البلدان المعنية. فكيف يؤثر اسناد رئاسة القمة الى دولة عربية صغيرة على مستقبل مؤتمر القمة العربية في وقت لا تزال فيه مسألة دورية هذه المؤتمرات موضع جدل، كما لمسنا من خلال دعوة بعض الأوساط اللبنانية الى تأجيل القمة؟ هل تؤدي الى تعزيز مؤسسة القمة وتعميق التكتل الاقليمي العربي أم تكون عاملاً يعرقل هذه العملية؟ وهل يتمكن لبنان من نيل علامة النجاح في ترؤسه القمة فيؤكد بذلك أهمية الدور الذي تلعبه الدول الصغيرة في السياسات الاقليمية؟ بعضهم قد ينظر الى هذه المسألة من خلال التركيز على دور الدول الكبرى في بناء التكتلات الاقليمية. ففي أوروبا اضطلع المحور الالماني - الفرنسي بالدور الأبرز في قيام السوق المشتركة وفي تحولها الى الاتحاد الأوروبي. وفي اميركا الجنوبية قامت السوق المشتركة الاقليمية ميركوسور بعدما تحسنت العلاقات بين البرازيل والارجنتين. في هذه التجارب ان الدول الكبرى هي الأقدر على إلزام الآخرين بمراعاة مبادئ التعاون الاقليمي وبتنفيذ القرارات الجماعية من الدول الصغرى. فإذا اسندت رئاسة التجمع الاقليمي الى احدى هذه الدول فإن حظها من النجاح في هذه المهمة يكون عادة اكبر من حظ الدول الصغرى فيها. بعضهم الآخر ينظر الى المسألة من منظار مختلف تماماً. فالتكتلات الاقليمية تتطور مع تطور العلاقات والثقة المتبادلة بين قادة الدول والنخب الحاكمة فيها. واسناد رئاسة التكتلات الاقليمية الى قيادات الدول الصغيرة لا يتعارض مع عملية بناء الثقة بين هذه القيادات بل انه، بالعكس يعززها. ذلك ان اللاعبين الكبار على المسرح الاقليمي لا يخشون من اسناد رئاسة المجموعات الاقليمية الى زعماء الدول الصغيرة عادة وانما قد يتحسسون - والقيادات العربية ليست استثناء - من الادوار الرئاسية التي تسند الى اقرانهم الكبار اذ يخشون من استخدام هؤلاء الأخيرين هذا الموقع بغرض تغليب مصالح بلدانهم على مصالح الآخرين. من هذه الزاوية، فإن توالي قادة الدول الصغيرة على رئاسة مؤتمرات القمة يعطي الجميع فسحة من الوقت حتى تنمو مشاعر الثقة وتتطور آليات العمل الدوري. ان هذه النظرة مستمدة من تجارب تمكنت فيها دول صغيرة من الاضطلاع بدور مهم في بناء التكتلات الاقليمية. وفي اكثر الأحيان، فإن الدور الذي اضطلعت به هذه الدول لم يرتبط باسناد رئاسة التكتلات أو المؤتمرات الاقليمية اليها وانما نشأ نتيجة مبادرات مستقلة قامت بها هذه الدول. ومن مراجعة هذه التجارب، يتبين لنا انه بإمكان قيادات الدول الصغيرة التي تقوم بمهام الرئاسة الدورية لمؤتمرات القمة، ان تسلك الطريق نفسه فتحقق نجاحاً مرموقاً في الا ضطلاع بالدور الرئاسي الذي يسند اليها، وتفيد بلدها والمنطقة بشكل عام. من النماذج البارزة على الأدوار التي اضطلعت بها دولة صغيرة في بناء وتطوير التكتلات الاقليمية هو نموذج سنغافورة والدور الذي اضطلعت به في تنمية رابطة دول جنوب شرقي آسيا آسيان. لقد شاركت سنغافورة عام 1967 في تأسيس الرابطة ولكنها لبثت حتى منتصف الثمانينات تهمل الاسواق الآسيوية مفضلة التركيز على الاسواق العالمية. غير ان سنغافورة اتجهت ابتداءً من منتصف الثمانينات الى تبديل سياستها هذه والى الاهتمام بأسواق آسيان والاسواق القارية عموماً. وتطور ذلك الاهتمام في مطلع عام 1993 حينما أعلن زعيم سنغافورة وباني نهضتها الحديثة لي كوان يو، ان السنغافوريين "سيفردون اجنحتهم في المنطقة". فما هي الاسباب التي دعت الى هذا التحول؟ من المهم التأكيد هنا انه لم يكن هناك من أسباب عقائدية لهذا التحول. فحزب العمل الشعبي السنغافوري الحاكم الذي وقف وراء ذلك التغيير لم يلتزم بمنظور آسيوي أو اقليمي تجاه العلاقات الدولية مثل تحالف الجبهة الوطنية الذي يتزعمه مهاتير محمد في ماليزيا. ولقد لحق اهتمام لي كوان يو بالشخصية الآسيوية بالانعطاف نحو الاقلمة والاقليمية ولم يسبقه ويكون سبباً له. أما الأسباب التي دعت الى التحول نحو الاقلمة فكان من أهمها العوامل الثلاثة التالية: أولاً، المنافسة الشديدة التي اخذت تلقاها الصادرات السنغافورية في الاسواق الدولية. ثانياً، تحول الاستثمارات الاجنبية من سنغافورة الى دول اخرى في المنطقة توافرت فيها بيئات استثمارية أفضل مثل رخص اليد العاملة. ثالثاً، نمو السوق الاقليمية الآسيوية نتيجة تحول قسم كبير من الاستثمارات اليابانية من الولاياتالمتحدة الى آسيا. هذه الأسباب جعلت سنغافورة تهتم بتنمية فرص التصدير الى الاسواق الآسيوية القريبة. وهذا الاهتمام لم يكن سلبياً، أي ان سنغافورة لم تسعى الى مجرد البحث عن السوق الجاهزة وعن زبائن آسيويين يحلون محل الزبائن الأوروبيين أو الاميركيين، بل كان اهتماماً ايجابياً، أي انها جعلت تسعى مع الآخرين الى تطوير السوق الآسيوية والى توسيعها وتنمية قدرات الزبائن الآسيويين الشرائية والاستهلاكية. ولقد اقتضى هذا المنحى تحقيق الخطوات الآتية: إعادة هيكلة الاقتصاد السنغافوري على نحو يجعله اكثر تكاملاً مع اقتصادات دول الجوار الآسيوي. ورافق تلك العملية المباشرة تطبيق استراتيجية تنموية جديدة دعيت "اقلمة 2000". تأسيس مراكز بحوث ودراسات تعمل على النطاق الاقليمي وتضع الدراسات الرامية الى تنمية التعاون الاقليمي بين دول آسيان اضافة الى الدول المجاورة لها. تنمية الاستثمارات الاقليمية السنغافورية في دول الرابطة، فعلى سبيل المثال، ارتفعت هذه الاستثمارات بين عامي 1981 و1995 في اندونيسيا من 39.5 مليون الى 3.5 بليون دولار، وفي الفيليبين من 18 مليوناً الى 521 مليون دولار، وفي تايلاند من 10 ملايين الى 860 مليون دولار. إن الإحاطة بكل جوانب التحول السنغافوري نحو الأقلمة تتطلب اكثر من مقال، ولن يكفي الإلمام بالمعالم الاساسية لهذا التحول ان يدرك المرء ان الدول الصغيرة من حيث المساحة وعدد السكان، مثل سنغافورة في آسيا، ودول البنيلوكس في أوروبا، واوروغواي وباراغواي في اميركا الجنوبية، قادرة على ان تلعب أدواراً كبيرة في تنمية التكتلات الاقليمية وفي تعميقها. لقد كان لبنان في السبعينات مهيئاً، حيث انه كان مركزاً مالياً للمنطقة، للاضطلاع بدور مشابه للدور الذي قامت به سنغافورة في التسعينات، اما اليوم فإن أوضاع لبنان المالية لا تسمح له بالنهوض بالدور نفسه. ولكن لبنان مع ذلك قادر، سواء لمصلحته أو لمصلحة بقية دول المنطقة، ان يقوم بدور ايجابي ونشيط في تنمية التعاون الاقليمي العربي خلال الفترة التي يتولى فيها رئاسة مؤتمر القمة. بيد ان هذا التوجه يقتضي ان تراجع النخبة اللبنانية الحاكمة موقفها من العلاقات مع المنطقة العربية، مثلما راجعت النخبة الحاكمة السنغافورية سياستها وفلسفتها تجاه التعاون مع الدول الآسيوية. ان النظرة الرسمية السائدة في لبنان تجاه علاقاته العربية افتقرت الى المخيلة والى روح المبادرة. يكفي ان نذكر هنا ان الشعار الرئيسي الذي استوحى منه لبنان الرسمي سياسته العربية هو شعار "نحن مع العرب اذا اتفقوا، وعلى الحياد اذا اختلفوا"، وقد لا يكون في هذه السياسة من خطأ لو انه لم يكن من بديل لهذين الموقفين، ذلك انه لا يفيد اسرة الدول العربية ان ينضم لبنان الى هذا المحور أو ذاك من المحاور العربية المتنازعة فيزيد عدد المتخاصمين واحداً. ولكن أخذاً بالاعتبار فإن النزاعات والخلافات العربية تستهلك جزءاً كبيراً من الطاقات العربية، وأخذاً بالاعتبار ايضاً فإن هناك بدائل لهذين الموقفين، فيمكن القول ان تلك السياسة لم تكن تخدم لبنان ولا كانت تخدم المنطقة خصوصاً لو انها تحولت الى نموذج تحتذيه بقية دول المنطقة التي لم تكن داخلة في الصراعات العربية. ان مراجعة مثل ذلك الشعار التقليدي الذي حكم السياسة اللبنانية الاقليمية تتطلب الخروج من ثنائية الخلاف والاجماع العربيين، والبحث، كما فعل السنغافوريون، عن مشاريع تنمي العلاقات بين الدول العربية وتعزز المشاريع الجماعية فيما بينها. وهذه المشاريع لا حصر لها ولفوائدها، وهي تشمل في نظام اقليمي تعددي مثل النظام الاقليمي العربي كل باب ومجال من مجالات التعاون والتضامن الاقليمي، بدءاً بالسياسة ومروراً بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والبيئة. واذا كان مفروضاً بالقيادات العربية ان ترعى مجالات التعاون في سائر هذه المجالات، فإنه حري برئاسة المؤتمر ان تركز على جانب محدد حتى تضمن دفعه الى الامام. ولبنان الذي سيترأس القمة العربية لمدة سنة سيخدم نفسه ويخدم العرب لو انكب خلال هذا العام على تنمية مجالات التعاون في حقل من هذه الحقول مثل العمل على ازالة الاختناقات والصعوبات التي تعتر ض تنفيذ مشروع منطقة التجارة العربية الحرة الكبرى. ان عملاً من هذا النوع يساهم في خروج المنطقة من أزماتها الاقتصادية وينمي قدرتها على صون استقلالها وحماية مصالحها وعلى نجدة افراد الأسرة العربية الذين يعانون من الضغوط والذين ينشدون تحقيق آمانيهم الوطنية مثل شعب فلسطين الذي لا يفتقد اليوم القوة العسكرية العربية فحسب، ولكنه يفتقد ايضاً القوة الاقتصادية العربية. ان تنمية التعاون بين الدول العربية سيساعد على توفير مثل هذه القوة، فإذا تمكن لبنان من السير ولو خطوات متواضعة بالمجموعة العربية على هذا الطريق، يكبر حجمه كما كبر حجمه يوم حرر أرضه من الاحتلال. * كاتب وباحث لبناني.