تبين المحاولات الرامية إلى إقامة أو تطوير التكتلات الاقليمية في مناطق متعددة من العالم وجود علاقة بين هذه المحاولات وبين نشر المبادئ الديموقراطية وتوطيدها. هذه الظاهرة بدت بوضوح في عملية بناء السوق الأوروبية المشتركة والاتحاد الأوروبي. فالسوق لعبت دوراً مهماً في عملية التحول الديموقراطي التي حدثت في جنوب أوروبا خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وعندما قرر الاتحاد الأوروبي إقامة إطار برشلونة للتعاون مع دول البحر الأبيض المتوسط، عمل على تضمين إعلان برشلونة تأكيد دول الإعلان حرصها على مبادئ "حكم القانون والديموقراطية" و"احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية". في آسيا، بات الانضمام إلى رابطة دول جنوب شرقي آسيا آسيان مشروطاً بالتزام الدولة المرشحة للعضوية بالمبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان. وهكذا أخضعت، على سبيل المثال، كمبوديا للاختبار حتى إذا أجرت انتخابات "حرة ونزيهة" عام 1998، تمت الموافقة على انضمامها إلى ذلك التكتل الآسيوي. وعندما تعرضت الاقتصادات الآسيوية في العام نفسه إلى أزمة حادة، اتجه قادة "آسيان" إلى معالجة هذا الوضع عن طريق التعجيل في التحولات الديموقراطية، هذا فضلاً عن الاصلاحات الاقتصادية والمالية. وفي القارة الأميركية التزمت سوق أميركا الجنوبية الحرة ميركوسور بالعمل على تثبيت دعائم الحكم الديموقراطي. في هذا السياق لعبت السوق دوراً مهماً عام 1999 في حماية النظام الديموقراطي البرلماني في باراغواي من المحاولات التي قام بها بعض السياسيين والعسكريين للاستيلاء على السلطة وإقامة حكم عسكري استبدادي. كذلك اضطلعت "منظمة الدول الأميركية" بدور مماثل، خلال صيف العام المنصرم، في تسليط الأضواء على قيام رئيس جمهورية بيرو السابق البرتو فوجيموري بتزوير الانتخابات الرئاسية لمصلحته حتى يبقى في الرئاسة مع أنه فقد تأييد الأكثرية التي وقف إلى جانبه سابقاً. وساهم هذا الموقف الذي اتخذته المنظمة في وضع حد لنظام فوجيموري الاستبدادي، واستبداله بأسلوب سلمي برئيس جديد، وفي فتح الطريق أمام تطورات ديموقراطية واسعة في البلاد. تطرح هذه الأمثلة وغيرها حالات كثيرة مشابهة أسئلة كثيرة عن العلاقة بين بناء التكتلات الاقليمية، من جهة، وبين التحول الديموقراطي في العالم. فإذا سلمنا بوجود هذه العلاقة، فهل تكون ناشئة عن حافز ايديولوجي؟ وهل تكون ناشئة عن دور أوروبا في قيادة عملية الأقلمة في العالم وإلى تحول المثال الأوروبي إلى نموذج تقتفي الدول الأخرى خطاه؟ أم أن عملية بناء التكتلات الاقليمية تنجب، بصرف النظر عن الايديولوجيات، تطورات ديموقراطية في الدول التي تشملها عملية التكتل؟ أخيراً، لا آخراً، إذا كان السير على طريق التكتل الاقليمي يساعد على تحقيق التحول الديموقراطي، فهل يحصل شيء من هذا في المنطقة العربية؟ لا ريب في أن تأسيس الاتحاد الأوروبي على المبادئ الديموقراطية يعود إلى منظومة القيم السائدة في دول الاتحاد والقارة الأوروبية. من هذه الناحية توجد علاقة عقائدية بين الأقلمة الأوروبية وبين التحولات الديموقراطية التي ساهم الاتحاد في تحقيقها في أوروبا، والتي يسعى إلى تحقيقها في الإطار المتوسطي. كما أنه يمكن للمرء أن يلمس هذا الجانب العقائدي عندما يجد أن النموذج الأوروبي في التكتل الاقليمي أثر تأثيراً كبيراً على محاولات الأقلمة في مناطق أخرى، خصوصاً بعد نجاح نموذج السوق الأوروبية المشتركة، إلا أن مساهمة الأقلمة في تحقيق التطور الديموقراطي في الدول المعنية لا تعود إلى العامل العقائدي وحده، بل ترجع أيضاً إلى ما يمهد ويرافق قيام التكتلات الاقليمية من معطيات وتداعيات تؤثر على النظم السياسية في هذه الدول. من المهمات التي تهيئ لقيام التكتلات الاقليمية اقتناع النخب الحاكمة بأهمية تقديم التنازلات إلى الآخرين، والاستعداد لإبداء المرونة وللمساومة وللتعاون ولدخول الشراكات والاكتفاء بنصيب من الأرباح وتقاسم التبعات والأعباء والخسائر. ومثل هذا التحول في المناخ الذهني السائد في النخبة الحاكمة يبدأ بإدراك الحاجة الماسة إلى دخول التكتل الاقليمي، وبالضرورة القصوى إلى الحفاظ عليه وتطويره، ثم يتطور إلى تأصل الاسلوب الجديد في التعامل مع الآخرين وفي انتقاله من التعاون مع الآخرين من أهل الجوار، إلى الآخرين من أهل البلد نفسه. هذا التحول قد يبدأ من الداخل إلى الخارج، فتظهر النخبة الحاكمة استعداداً أول الأمر للتنازل أمام المواطنين وللانفتاح عليهم، ثم تنتقل بعد ذلك إلى الانفتاح على الجيران مما يفتح الطريق أمام تحقيق التكتل الاقليمي معهم. في الحالين توجد علاقة بين التحول الديموقراطي والتكتل الاقليمي. الفرق بين الحالين هو في التسلسل الزمني. ويرافق التقدم على طريق الأقلمة أيضاً تحقيق نصيب أوفر من الشفافية ومن الاهتمام بالرأي العام. وتقدم قمة عمّان، أو في الحقيقة أية قمة عربية، مثالاً على هذا الترافق. فالقمة، باعتبارها معلماً من معالم التكتل الاقليمي، تشكل خروجاً ولو موقتاً من النمط السائد في السياسة العربية. في هذا النمط ينشر تعتيم كثيف على المعلومات، ويتم اتخاذ القرارات المصيرية بعيداً عن أعين المواطنين، وتحاط الأجواء المفضية إلى هذه القرارات بحجب سميكة يصعب على الشعوب اختراقها. ولا ترسم السياسات وتتخذ القرارات في معزل عن الرأي العام فحسب، وإنما تتصرف النخب الحاكمة في ذلك وكأنها في حل حتى من مجرد شرحها وتفسيرها للناس، ناهيك عن السعي لاقناعهم بصوابها. مؤتمرات القمة تحيد نسبياً عن هذه القواعد، لأنها تجمع القادة كلهم، ولأنه من الصعب الحفاظ على السرية المطلقة بينهم. وحيث ان اجتماع القادة يثير الاهتمام الواسع لدى الرأي العام، فإنه يرفع ولو لأيام معدودة الستائر عن حقائق الحكم والحكومات. لقد أتاح التحضير لقمة عمّان ومجرياتها للمواطنين العاديين الاطلاع على شدة الضغوط التي يمارسها شرطي العالم الأميركي على القيادات العربية لكي تماشي السياسة الأميركية والإسرائيلية في قضايا فلسطين والعراق والتعاون الاقليمي. هذا لا يعني، بالطبع، ان هذه الضغوط لا تحصل عادة، ولكن هناك فرق بين الضغوط التي تمارس عندما تكون الأضواء والأنظار مسلطة على مواقع السياسة العربية، وبين الضغوط عندما تتحول الأضواء والأنظار إلى مجالات أخرى. وبعيداً عن الفرق بين وضوح التدخل الاجنبي والتعتيم عليه، فإن القمم، مثل قمة عمان، توفر للمواطنين معرفة أوفر بنمط العلاقة القائم بين القيادات والحكومات في منطقته، عن المشاكل والعوامل التي تتحكم بهذه العلاقة، بل ان القمم توفر منفذاً للتعرف، احياناً، على الأوضاع الداخلية في الدول المشاركة فيها. وقد لا يكون من المبالغة المقارنة بين القمة من جهة والمجالس النيابية أو الشورية العربية من جهة اخرى. ففي تلك المجالس لا يخاطب النائب أو العضو اقرانه أو الحكومة وانما يخاطب بالدرجة الأولى الرأي العام. وهو لا يخاطب الرأي العام في بلده، حيث يتعامل معه بأسلوب الضبط والربط، بأسلوب العصا والجزرة، وانما يخاطب الرأي العام العربي فيسعى الى كسبه الى جانبه والى انتزاع مشروعية له في أوساطه. القيادات العربية مهما كان شأنها وشأن بلادها، يهمها ان تكون لها مشروعية ومصداقية عربية فضلاًَ عن موقعها في بلادها. هذا الواقع يضفي على القمم العربية، مثل قمة عمان، أهمية بمعياري الاقلمة والدمقرطة، ويحول القمة الدورية، الى خطوة على طريق الاثنين معاً. اضافة الى ما تقدم فإن التكتلات الاقليمية تساهم في تنمية القوى المعنية بالشأن الديموقراطي. هذه التكتلات توسع الاسواق. وتوسيع الاسواق يوفر شروطاً افضل للتطور الاقتصادي ولنمو البورجوازية في المجتمعات المعنية ولنمو قطاعات الانتاج وللحراك الاجتماعي وتحرر الفرد من الكوابح التقليدية. كل ذلك يسهل التحول الديموقراطي. بول آرتز، الاستاذ في جامعة امستردام، يشكك في قدرة البورجوازية العربية على الاضطلاع ب"دورها التاريخي". يقول ان دور هذه البورجوازية سيظل مهمشاً فلن تفيد من التكتل الاقليمي ولن تحفزه، كما انها لن تضطلع بدور في الدمقرطة طالما أنها باقية قناة للتصريف وتحويل ثروات البلاد وما تراكمه من مال الى الخارج. هذا الحكم القاطع يستند الى الوضع الراهن، أو في الحقيقة الى صورة العمل العربي المشترك في أواخر عام 1999. اما الآن فقد حدث تطور طفيف تجلى في عقد قمتين خلال فترة قصيرة نسبياً، وفي قرار بعقد القمة الدورية، وهي أحداث لها معان ومغاز بمعايير التعاون الاقليمي. فضلاً عن ذلك فإن البورجوازيات العربية، أو أية بورجوازية محلية، قد لا تلعب الدور التاريخي المتوقع والمطلوب منها في قيادة عملية الاقلمة، ولكنها تستطيع المساهمة في تحقيقها، ولا تعدم طريقة للاستفادة منها عندما تتحقق. من المرجح ان يكبر حجمها ودورها اذا تحولت من بروجوازية محلية الى اخرى اقليمية، فإذا حدث مثل هذا التحول فمن المرجح ان تكثر مطالبها مثل اقامة دولة القانون لحماية مصالحها، وتحقيق التحولات الديموقراطية بقصد تعزيز هذه المصالح. أخيراً لا آخراً، يؤدي السعي الى اقامة التكتلات الاقليمية الى تحسن العلاقة بين الحكومات والمواطنين. في الدول الديموقراطية تدل الاستفتاءات والانتخابات على ان قيام هذه التكتلات والانضمام اليها يعتبر من الاهداف المرغوبة في الرأي العام. في بريطانيا مثلاً، معتنقو الدعوة القومية المتعصبة يدعون الى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ولكن هذه الدعوة لا تلقى ترحيباً كبيراً بين كثرة المواطنين وإلا انسحبت بريطانيا من الاتحاد وانضمت الى سوق اميركا الشمالية الحرة نافتا كما تطالب الأقلية، ولكن هذا لم يحصل. في المنطقة العربية لم تجر استفتاءات واسعة على مسألة التكتل الاقليمي العربي، ومن ثم لا يستطيع المرء القول بأن هناك اكثرية ساحقة تؤيد هذه الفكرة. ولكن إذا حكمنا على هذا الأمر من خلال المواقف التي تعلنها المؤتمرات والهيئات والاقلام المعبرة عن الرأي العام، لجاز القول بأن الدعوة الى مثل هذه التكتل تحظى بتأييد كبير بين المواطنين، وانها ستحظى بتأييد اكبر اذا شعر هؤلاء ان القائمين عليها من القادة والحكام جادون في تحقيقها. ثم ان التكتلات الاقليمية ليست هدفاً في حد ذاته، بل هي هدف ووسيلة. انها تساهم في ايجاد حلول للعديد من المعضلات الوطنية. هكذا ساهم الاتحاد الأوروبي، كما قالت نيكول فوتين، رئيسة البرلمان الأوروبي، في ايجاد 2.5 مليون فرصة عمل جديدة منذ آخر قمة أوروبية. وبمقدار ما تساهم التكتلات الاقليمية في تحقيق مثل هذه الانجازات، فإنها توفر المناخ الانسب للتحول الديموقراطي ولقيام حكومات منتخبة تمثل الإرادة الشعبية المعبر عنها بالانتخاب الحر. ولقد ساهمت الاقلمة في جنوب شرق آسيا واميركا الجنوبية في شق الطريق أمام التحولات الديموقراطية هناك. بقي ان تتحقق الاقلمة في المنطقة العربية فيزداد الأمل في التحول الديموقراطي هذا إذا لم يتغير الترتيب الزمني بين الاثنين. * كاتب وباحث لبناني.