هناك بضعة شهور تفصل بين لبنان وبين موعد انعقاد مؤتمر القمة العربية المقبل الذي ينعقد في بيروت خلال شهر آذار مارس المقبل. هذه الشهور ستكون كافية، في رأي الحكومة اللبنانية، لاستكمال الاستعدادات لاستضافة المؤتمر وتوفير المناخ الملائم للزعماء العرب لكي يتدارسوا فيه الأوضاع العربية. المسؤولون اللبنانيون أوضحوا ان جزءا من هذه الاستعدادات قد تم، بالفعل، في سياق التحضير للقمة الفرانكوفونية التي كان مقرراً ان تنعقد في بيروت خلال شهر تشرين الأول اكتوبر الفائت والتي تأجلت بسبب حرب افغانستان. اما في ما يتعلق بالجزء المتعلق بالقمة العربية تحديداً فإن التحضيرات لاستضافة المؤتمر ولتوفير اسباب نجاحه على الأصعدة السياسية والأمنية والاعلامية فقد أكد المسؤولون اللبنانيون انها تنجز بصورة مرضية. ومن الأرجح الا تحتاج هذه التأكيدات الى مراجعة اذ ان للبنان خبرة واسعة في التحضير للمؤتمرات واستضافة القادة والزعماء العرب. بيد ان ما يستحق النظر والمناقشة ليس جهوزية لبنان ليوم القمة وانما الترتيبات التي يعدها لبنان، خصوصاً الرسمي، لما بعد القمة أي لفترة عام كامل يضطلع فيه لبنان برئاسة "مؤسسة" القمة العربية. ان رئاسة القمم والمنظمات الدولية والاقليمية تكون عادة مسألة رمزية وشكلية. هذه القاعدة صحيحة بصورة عامة مع ثلاثة استدراكات: الأول، يتعلق بالمنظمات والهيئات الاقليمية التي تطمح الى ان تكون اكثر من مجرد "مؤتمر دائم للدول الاعضاء"، وهذا ينسحب على مؤسسة القمة العربية وعلى النظام الاقليمي العربي الذي اعتبره الزعماء العرب "السبيل الى... توظيف طاقات الأمة العربية لحماية مصالحها واستعادة حقوقها المغتصبة"، كما جاء في بيان القمة العربية المنعقدة في القاهرة خلال حزيران يونيو عام 1996. فهنا تضطلع الرئاسات عادة بدور يتجاوز الصفة الرسمية وتسعى، بالتعاون مع الهيئات الأخرى في هذه المنظمات، الى تطوير أداء التكتلات الاقليمية التي تقف هذه القمم على رأس الهرم فيها، والى تعزيز دورها وفاعليتها. الاستدراك الثاني، هو ان ترؤس لبنان للقمة العربية المقبلة لم يأت بحكم التسلسل الزمني والا لذهبت القمة الى دولة الامارات العربية المتحدة، إلا أن دولة الامارات رغبت في التنازل عن دورها هذا الى لبنان كتعبير عن تقدير خاص له وللبنانيين. ووافقت الدول العربية على هذا التكليف لأنها ترى ان لبنان يستحقه، فهو عضو مؤسس للجامعة العربية، وهو الدولة العربية التي حررت ارضها مرتين: من الاحتلال الفرنسي في الأربعينات، ومن الاحتلال الاسرائيلي في مطلع القرن وحققت الاستقلال الناجز من دون ان تدفع ثمناً للمحتلين. ومثل هذا التكليف يضفي على رئاسة لبنان للقمة العربية معنى استثنائياً ويرتب عليه لبنان مسؤولية خاصة في الاضطلاع بمهام الرئاسة. ولعل دولة الامارات والدول العربية التي وافقت على هذا التكليف تقول ضمنياً هنا انها تتوقع من لبنان الرسمي ان يمارس مهمة "الرئاسة العربية" بشيء، على الأقل، من الكفاءة التي أدار بها لبنان الشعبي مهام الكفاح ضد الاحتلال. الاستدراك الثالث، هو ان لبنان الرسمي والشعبي يعول، ربما اكثر من أي بلد عربي آخر، في استقراره وازدهاره، على استقرار وازدهار المنطقة العربية، وعلى حسن علاقته مع الجوار العربي. ان المنطقة العربية هي الشريك التجاري الأول للبنان إذ بلغت قيمة صادراته الى هذه المنطقة، كما جاء في المجموعة الاحصائية "للاسكوا"، 329.9 مليون دولار عام 1998، في حين ان قيمة صادراته الى القارة الأوروبية لم تتجاوز 246.8 مليون دولار، وقيمة صادراته في العام نفسه الى الولاياتالمتحدة بلغت 47.3 مليون دولار. ولقد كرر اكثر من رئيس ومسؤول من القادة اللبنانيين ان نهوض لبنان مجدداً يعتمد، الى حد بعيد، على قدرته على استعادة دوره السابق، كمركز للخدمات وللنشاط الاقتصادي في المنطقة العربية. هذا الترابط، بين أوضاع لبنان وأوضاع المنطقة العربية أوجب ان تبدي الحكومات اللبنانية المتعاقبة اهتماماً خاصاً بالأوضاع العربية، وان يجسد هذا الاهتمام في مشاريع ومؤسسات حية وفعالة. واذا كان لبنان قد اخفق في الماضي في ايلاء الشأن العربي ما يستحقه من الاهتمام، فإن اقتراب موعد ترؤسه للقمة العربية جدير بتذكير المسؤولين اللبنانيين بضرورة تصحيح هذا الواقع. أي انه يقتضي النظر الى دور لبنان كرئيس للمجموعة العربية على انه اكثر من دور رمزي وأبعد من مهمة عابرة. فكيف يمكن للبنان ان يحول التحضير لمؤتمر القمة المقبلة الى مناسبة لتعزيز اهتمامه وعلاقاته ودوره في المنطقة العربية؟ الخطوة الرئيسة في هذا الاتجاه هي ان تغير النخبة السياسية الحاكمة نظرتها الى دور لبنان العربي. انها تتصرف اليوم وكأنه يكفي لبنان، اعراباً عن انتمائه العربي، ان يتأثر بالأحداث العربية وان يواكب المجموعة العربية، او ان يواكب القوى العربية الرئيسة، او ان يلتصق بهذا الطرف العربي أو ذاك، وان يقتفي آثاره على كل صعيد اقليمي ودولي. بيد ان لبنان قادر على أكثر من ذلك. انه قادر على التفاعل مع الأحداث ومع السياسات العربية، أي انه قادر على التأثير في الأوضاع العربية وليس فقط على التأثر بها. اذا أراد المسؤولون اللبنانيون ان يتأكدوا من هذه الحقيقة فليطلبوا من الجهات المسؤولة المعنية أو من أحد مراكز البحوث اعداد دراسة عن الأثر الذي تركته المقاومة اللبنانية على المواطنين في الدول العربية الأخرى خصوصاً في فلسطين. لبنان يستطيع، كرئيس للقمة العربية، التأثير في مجال تنمية وتطوير التكتل الاقليمي العربي. البعض قد يقول هنا، ولكن لبنان بلد صغير وهو بالكاد قادر على تطوير علاقته مع الدول العربية الأخرى، فمن العبث اذن مطالبته بدور مؤثر في المجال العربي العام. ان صغر البلد لا يعني انه غير قادر على التأثير على العلاقات الاقليمية. سنغافورة اصغر من لبنان، ومع ذلك فقد لعبت دوراً مهماً في بناء وتطوير رابطة دول جنوب شرقي آسيا آسيان. باراغواي دولة صغيرة، لا يزيد عدد سكانها عن خمسة ملايين نسمة، ولكنها لعبت دوراً مهماً في بناء سوق اميركا الجنوبية المشتركة ميركوسور. بلجيكا دولة صغيرة، ولكن بول هنري سباك، رئيس حكومتها في الخمسينات، لعب دوراً أساسياً في بناء السوق الأوروبية المشتركة. وكما يعلم دارسو السوق الأوروبية فإن اللجنة التي ترأسها الزعيم البلجيكي هي التي تولت وضع أسس السوق عام 1956، وهي التي تولت رسم علاقاتها الاقتصادية مع العالم الخارجي. كذلك لعبت بلجيكا، بزعامة سباك، دوراً رئيسياً في حماية السوق من التوسع المبكر ومن المطبات والكمائن التي نصبت لمسيرة التعاون الاقليمي الأوروبي. حتى يتمكن لبنان من الاضطلاع بالدور المأمول منه كرئيس للقمة العربية، بل من اجل تعزيز قدرة لبنان على تنمية علاقاته مع الدول العربية، فإنه من المهم تطوير أوضاع عدد من المؤسسات اللبنانية المعنية بهذا الدور وبهذه العلاقات. في هذا السياق فقد آن الاوان لانشاء وزارة مستقلة للشؤون العربية. ان الاهتمام بالقضايا العربية في الوقت الراهن مسؤولية دائرة تابعة لمديرية الشؤون السياسية في وزارة الخارجية، وفي أكثر الأحيان فإن العاملين والعاملات في هذه الدائرة يتمتعون بكفاءات عالية، ولكن الدائرة لا تستطيع تجاوز الظروف القانونية والمؤسسية والمادية التي تعمل فيها. وهذا الوضع لا يتناسب مع أهمية المنطقة العربية بالمعيار اللبناني. ان هذه الأهمية جعلت اسرائيل تستحدث وزارة للتعاون الاقليمي، أفليس أولى بلبنان وهو بلد عربي ومؤسس للنظام الاقليمي العربي، فضلا عن انه مقبل على ترؤس القمة العربية ان يستحدث وزارة للشؤون العربية، من كيان مناهض للعمل العربي الجماعي؟ بموازاة انشاء وزارة للشؤون العربية، فإنه من المستحسن ايضاً انشاء لجنة للشؤون العربية في مجلس النواب اللبناني. الاهتمام بالشؤون العربية موكل في الوقت الراهن الى لجنة الشؤون الخارجية في المجلس. الأسباب التي تدعو الى انشاء وزارة للشؤون العربية هي نفسها تبرر اقامة مثل هذه اللجنة. ان انشاء لجنة برلمانية خاصة للشؤون العربية يعني المزيد من الاهتمام بشؤون المنطقة واعطاء المزيد من الوقت لمناقشة العلاقات اللبنانية - العربية والخروج بالاقتراحات والمشاريع الآيلة الى تطوير هذه العلاقات. هذا لا يعني الفصل بين الشؤون الدولية والعربية. اللجنتان تستطيعان عقد اجتماعات مشتركة عند الضرورة. ولكنه يعني تطويراً في المؤسسة البرلمانية اللبنانية، يأخذ في الاعتبار حجم التشابك في العلاقات والمصالح اللبنانية - العربية. الاجراءات والتدابير المقترحة اعلاه تمثل مجرد نماذج لما يمكن للبنان القيام به من أجل تعزيز جهوزيته ليس فقط لترؤس القمة العربية خلال عامي 2002 - 2003، ولكن أيضاً من أجل السهر على مصالحه وتنمية دوره في المنطقة العربية. مثل هذه التدابير ستسمح لرئاسة القمة اللبنانية ان تتابع بصورة أفضل تنفيذ المشاريع التي أقرها القادة العرب في مؤتمراتهم السابقة لتطوير العلاقات العربية البينية مثل تنفيذ مشروع منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، وآلية الانذار المبكر لحل النزاعات العربية ومحكمة العدل العربية. * كاتب وباحث لبناني.