في عام 1997 انهارت البورصة في سنغافورة ورأى رئيس الوزراء السنغافوري غوج تشوك تونغ أنها قدمت أربعة معطيات ايجابية في مقدمها الدرس الصعب الذي تعلمته دول المنطقة جنوب شرقي آسيا حول العولمة وعلاقاتها السياسية والاقتصادية بالغرب. وأكد رئيس الوزراء على أهمية وضرورة الانفتاح والتكامل الاقتصادي - التجاري في شرق آسيا - الهادي. ثم جاء الأمين العام لمنظمة شعوب جنوب شرقي آسيا آسيان رودولفو سيفرينو ليشير الى البعد الاستراتيجي للأزمة ودورها الكبير في تعزيز مكانة ومستقبل المنطقة في العالم، فقال: "ان العقود الثلاثة المقبلة ستشهد قيام تكتل اقتصادي - تجاري كبير يشمل "دول آسيان" والصين واليابان وكوريا الجنوبية، مجموعة عملاقة تضم ثلث سكان العالم، يبلغ، حالياً، مجمل انتاجها القومي 7 تريليون دولار، وهذا التجمع - الاتحاد الآسيوي الضخم سوف لا يشكل توازناً معادلاً للكتلتين الاقتصاديتين الكبيرتين في العالم، الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي فحسب، بل سيرجح عليهما، عاجلاً أو آجلاً". "رب ضارة نافعة". هذه هي دروس أزمة عام 1997 التي عصفت بدول آسيان وشرق آسيا عموماً. فرئيس كوريا الجنوبية كيم داي جانغ قال انها "علمتنا كيف نتبادل ودول المنطقة همومنا ومصالحنا"، ورأى فيها وزير مالية ماليزيا دايم زين الدين انها "سوف توحد دول المنطقة". وجاءت قمة آسيان الأخيرة، التي عقدت في مانيلا تشرين الثاني نوفمبر الماضي، لتترجم هذه الرغبة باتفاق رؤساء دول القمة العشر على الغاء التعريفات الجمركية في اطار مشروع المنطقة الحرة. وبالتأكيد ستكون المنطقة الحرة قوة جذب وبؤرة تجتمع فيها دول شرق آسيا، جنوباً وشمالاً، بما فيها كوريا الشمالية، بعد أن وضعت نهاية الحرب الباردة حداً لخلافاتها وقطيعتها السياسية - الايديولوجية. يممت مجموعة "النمور الصناعية" وجهتها صوب الشمال، الآسيوي، بضم سنغافورة، بتشجيع صيني، وفيتنام عام 1995، وبورما عام 1997، ثم كمبوديا. ويمكن تمييز مرحلتين مرت بهما منظمة آسيان، منذ تأسيسها عام 1967، في طريق الانفتاح والتوسع نحو الشمال، الأولى اقتصادية استغرقت أكثر من عقدين 1967 - 1989 نهضت خلالها المنطقة وطالت منتوجاتها أسواق كل الدول الصناعية الكبرى بما فيها الولاياتالمتحدة من خلال مشاريع المنطقة الحرة ومؤتمر الأمن والتعاون والسوق المشتركة لدول جنوب شرقي آسيا. واستقطبت سوق آسيا المحيط الهادئ بثقلها السكاني 350 مليون نسمة ونموها الاقتصادي المطرد اهتمام الصين واليابان ومنافستهما الصادرات الأميركية التي تستقبل السوق ثلثها 500 بليون دولار سنوياً، والمرحلة الثانية، أمنية دفاعية بدأت مطلع التسعينات باختفاء التهديد السوفياتي، وشروع الولاياتالمتحدة بسحب قواتها من قواعدها العسكرية في المنطقة. فراح شبح الفراغ الأمني يطارد دول المنطقة. وبدافع حماية السوق الاقتصادية وتجارتها خرجت دول آسيان عن طورها الاقتصادي بدخولها سباق التسلح بكل ميادينه ابتداء بالأساطيل البحرية التي باتت العامل الأقوى في الدفاع عن اقتصاديات الجزر. وبلغت نفقاتها العسكرية في عام 1990 86 مليون دولار الى جانب بروز مشروع دفاع آسيان المشترك بنواة اندونيسية - ماليزية تحت شعار آسيا للآسيويين. ونفخ شعار "آسيا للآسيويين" روح البعث الآسيوي والتضامن بين دول المنطقة، لا سيما الصين واليابان التي كسرت طوق عزلتها بالانفتاح الاقتصادي على جيرانها. وبانتهاء الحرب الباردة وسقوط المحورين الصيني والسوفياتي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ راحت اليابان تحت الخطى لاستعادة مكانتها في وقت لا تزال كتبها المدرسية تفسر خروجها هناك بأنها اندلعت للحفاظ على مصادر الطاقة وايجاد ازدهار اقتصادي في المنطقة. وللمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية سجل التبادل التجاري والاستثمار الياباني في آسيا رقماً قياسياً، خلال السنوات القليلة الماضية الأمر الذي كان له أكبر الأثر في ازالة ما تبقى من آثار الحرب والغزو الياباني لدول المنطقة خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، توجتها بالدعم المالي 300 مليون دولار لدول آسيان ابان الأزمة المالية عام 1997. جاء الدعم المالي الياباني الى مجموعة آسيان في اطار مشروع "صندوق النقد الآسيوي" الذي اقترحته ماليزيا واليابان عام 1997، وعارض "صندوق النقد الدولي" المشروع لأسباب طوتها لافتة: "ان اعتماد مثل هذه المبالغ الضخمة للاقتصاديات المتأزمة من دون التزام بقواعد توجيه وشروط ضبط صندوق النقد الدولي سوف يدعو تلك الدول الى الاسراف والتبذير في قروضها بشكل ضار في الاقتصاد العالمي". وعزز الموقف الغربي المعارض لمشروع "صندوق النقد الآسيوي" رأي دول آسيان وتفسيرها للأزمة واتهام الغرب وسياساته الاقتصادية بافتعال الأزمة. والى جانب هذا العامل، تقف دوافع عديدة فرضت على دول آسيان التوجه صوب الشمال وسلك طريق بناء "الاتحاد الآسيوي" منها: على مدى العقود الثلاثة من عمرها، وتحديداً العقد الماضي، عرفت دول آسيان بطموحها الدولي والاقليمي، ذلك الطموح الذي عززته قوتها الاقتصادية الصاعدة. في عام 1994 شاركت آسيان في قيام "نظام آسيا الاقليمي" الذي ضم 21 دولة في آسيا - الهادئ، بهدف ان يكون النظام قاطرتها الى مكانتها الدولية ونفوذها في المنطقة كما قال وزير خارجية سنغافورة شان موغان جايكاومار: "آسيان ستكون القوة الدافعة المحركة في النظام الاقليمي"، لكن سرعان ما توقفت قاطرة النظام الاقليمي باعتراض الأعضاء من خارج آسيان على جدول الأعمال الذي تقدمت به الأخيرة في اجتماع عام 1995. اجتاحت العالم بعد نهاية الحرب الباردة موجة التكتلات الاقتصادية، كالاقتصاد الأوروبي الموحد، واتفاقية نافتا لدول شمال اميركا التجارية، واتفاق التعرفة الجمركية والتجارة "غات". ورداً على تلك التكتلات قام منتدى "ابيك" للتعاون الاقتصادي بين مجموعة آسيان ودول استراليا، كندا، أميركا، اليابان، نيوزلندا، كوريا الجنوبية. وبانضمام الصين بلغ اعضاء المنتدى 21 دولة، وكان شعار المنتدى انه "هيئة طوعية يعمل كل أعضائها باختيارهم من دون قيود أو شروط" وهيمنة الدول الغربية. أمام نفوذ الولاياتالمتحدة وهيمنتها على "ابيك" لجأت "آسيان" الى توسيط أوروبا - لتكون طرفاً وسطاً موازناً للثقل الأميركي فأحدثت عام 1996 اتحاد "آسام" الآسيوي - الأوروبي، الذي وصفه مستشار ماليزيا للسياسة الخارجية نورالدين سوبي ب"الزلزال" الذي يصعب على أي أحد أن يتعرضه ومرة أخرى تفشل آسيان في بلوغ طموحها باعتراض أوروبا تجاه ضم بورما الى آسيان عام 1997. وفي مقابل الاخفاقات على الساحة الغربية تتبادل آسيان ودول الجوار الشمالي - الصين واليابان والكوريتان - تفاهما وتعاونا. زاد التشدد الغربي من زخمهما. وحرصت آسيان على احترام بل دعم جهود الصين الى ضم تايوان، وما انفكت معظم دولها تنتقد بأسف تحدي واشنطنلبكين باسم حقوق الانسان والديموقراطية. وذهبت مجموعة آسيان أبعد من ذلك عندما ربطت مستقبل اقتصادياتها بالسوق الصينية الكبيرة، 1.3 بليون مستهلك فازدادت الاستثمارات الآسيوية في الصين الى 300 بليون دولار، وتضاعفت صادراتها مرات عديدة عبر هونغ كونغ. ومن جهتها، ظلت بكين وفية لتعهداتها في التعايش السلمي بين دول المنطقة، وساندت آسيان في الاتحادات الاقليمية الاقتصادية منها والدفاعية. وظهرت هذه المساندة بوضوح في موقف بكين من أحداث تيمور الشرقية الأخيرة ودعوتها الى احترام استقلال الأراضي الاندونيسية وسيادتها. ومما يعزز التفاهم والتعاون بين شمال وجنوب شرقي آسيا الطبيعة الجغرافية للمنطقة إذ تناثر آلاف الجزر التي تربطها شبكة من الممرات المائية. ولا يزال بعض هذه الجزر الارخبيلات موضع خلاف شديد بين دول المنطقة، مثل جزر سبارتلي وجزر باراسيل الغنية بالنفط. وقالت دول آسيان التي تتنازع والصين حق السيادة على جزر سبارتلي: "انها لا ترغب في أن تتحول الى معسكر معاد للصين"، بل راحت تدعو الى كشف الأوراق والتعاون بين كل دول المنطقة طلباً للحلول الشاملة، وتكاد تنحصر الطريق المؤدية الى هذه الحلول في التكامل الآسيوي على حد قول مسؤول في آسيان. ويذكر أن الولاياتالمتحدة تراجعت عن سياستها الهجومية ودعت في أكثر من مناسبة الى لمّ الشمل الآسيوي في اطار وحدة آسيا - الهادئ بعد أن لاحظت تطور موقف الصين. فالرئيس الأميركي بيل كلينتون صرح إثر قمة سياتل لدول مجلس "ابيك": "اتفقنا على توحيد منطقة آسيا الهادئ بدلاً من تقسيمها الى كتل ومناطق متناحرة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً" وكان مصداق هذه الدعوة ضم الصين الى "ابيك". هل تترك واشنطن "القطار" سائحاً في ضفاف الهادئ الآسيوية من دون هيمنة أميركية في وقت لا زالت قواعد الولاياتالمتحدة العسكرية عامرة ناشطة في معظم دول المنطقة. * كاتب عراقي