كتب الدكتور حازم الببلاوي في هذه الصفحة يوم 26 شباط فبراير الماضي تعقيباً على مقالنا السابق "العرب بين السياسة والتنمية" الذي نشرته "الحياة" يوم 19 من الشهر نفسه. والتعامل مع الدكتور الببلاوي لا يجب أن يقف عند حدود أنه اقتصادي رفيع الشأن ولكن يجب الأخذ في الاعتبار أنه مفكر يملك رؤية قادرة على توصيف الحاضر واستشراف المستقبل، وما أريد أن اقوله في هذه المناسبة تعليقاً على تعقيبه الرصين هو أن كل سطر من مقالي السابق يشير بحماس الى قضية الديموقراطية والحاجة إليها ويكفي أنني استهللت ذلك المقال قائلاً: "لقد علا صوت القضية العربية الاولى وسيطر على الساحة القومية لعشرات السنين وهذا أمر طبيعي لا يمكن الاعتراض عليه أو تجاهل اسبابه، ولكن الذي حدث هو أننا عطلنا التطور الطبيعي نحو الديموقراطية واوقفنا البرامج الإنمائية عندما طغت الشواغل السياسية على الهموم التنموية. ولا شك أن تعقيب الدكتور الببلاوي يضيف الى ما كتبته قيمة ونفعاً. أما الآن فإنني أتعرض لموضوع آخر يدور حول الافكار غير التقليدية لدعم القضية الفلسطينية، إذ تتحدد قيمة النظم السياسية بقدرتها على تقديم مبادرات للخروج من ازمة طارئة او طرح افكار لإيجاد تسوية لمشكلة قائمة، والامم التي اكتفت بأن يكون موقفها دائماً هو مجرد ردود افعال وكذلك الشعوب التي فضلت ان تكون في حال انتظار وترقب، إن هذه الامم وتلك الشعوب اتصفت بالعجز وتحولت الى فريسة سهلة يستطيع خصمها أن يحولها الى أداة استقبال مفتوحة لا تملك القوة على الارسال ولا القدرة على التأثير ولا تتمكن من أن تكون طرفاً فاعلاً في العلاقات مع الآخر أو في مواجهة الغير، ولقد أصابنا نحن العرب شيء من ذلك، إذ افتقدنا إمكان صنع السياسات او تحريك المواقف وأصبحنا في حال انتظار دائم وترقب مستمر نردد تساؤلات لن تجدي شيئاً، متى تتغير الحكومة الاسرائيلية؟ هل من مشروع اميركي لحل الصراع في الشرق الاوسط؟ هل يمكن أن تلعب اوروبا دوراً أكبر في مواجهة الموقف المتدهور في الارض المحتلة؟.. هذه نماذج لعشرات اخرى من الاسئلة التي يطرحها الشارع العربي الجامد وهو يلوك معها انتقادات مكتومة تجاه الانظمة القائمة في دوله، وملاحظات حول النظم الحاكمة في بلاده، والامر في رأينا يحتاج الى نهج مختلف وفكر جديد يحيل الامة العربية الى قوة إيجابية فاعلة وضاغطة بدلا من أن تكون كياناً محدود التأثير ضعيف الفاعلية، وإذا كنا على مشارف قمة عربية عادية مقبلة فإننا نريد لها أن تكون نقطة تحول بجميع المقاييس القومية والاقليمية والدولية، لذلك فالامر يقتضي ان نسجل رؤيتنا من خلال النقاط الآتية: - أولاً: إن العرب لم يتمكنوا من احراز تقدم ولو نسبي في مواجهة اسرائيل إلا باللعب بكارت جديد اعتمد بالدرجة الاولى على توجه مختلف وأسلوب غير تقليدي في التعامل مع الصراع الذي سيطر على المنطقة لاكثر من نصف قرن من الزمان، فالرئيس المصري انور السادات - بغض النظر عن قبول أو رفض ما قام به - اعتمد على طرح مختلف ورؤية مغايرة في تعامله مع اسرائيل في النصف الثاني من السبعينات ونحن نبدو الآن اشد ما نكون حاجة الى مبادرات من هذا النمط بشرط ان تحظى بقبول عربي عام وتأثير دولي ملموس. - ثانياً: إن المملكة العربية السعودية - وهي القوة الاقليمية المحافظة والتي اتسمت دائماً بالحذر السياسي - اتخذت في الفترة الاخيرة مسلكاً جديداً يتصف بالشجاعة ويقوم على اسس موضوعية جديدة منذ خطاب ولي عهدها في قمة مسقط الخليجية مع نهاية العام 2001 الى مبادرته الاخيرة التي تحدث عنها في مناسبة الرد على الكاتب الاميركي اليهودي توماس فريدمان، فقد أعلن الامير عبد الله استعداد المملكة لكي تكون طرفاً في اعتراف كامل باسرائيل إذا ما انسحبت الاخيرة بالكامل ايضاً من الاراضي العربية المحتلة في 5 حزيران يونيو 1967 بما فيها القدسالشرقية، وهذه لغة جديدة تلقى قبولاً اكبر لدى دول العالم المختلفة رغم أنها لا تمثل تنازلاً عربياً أو تشير الى تفريط في حق أو توحي بالتخلي عن شيء من الثوابت القومية. - ثالثاً: إن حيوية الانظمة العربية المختلفة تتحدد من خلال التكيف مع تطورات الواقع القومي والمستجدات على الساحتين الاقليمية والدولية، ونحن نخلط في عالمنا العربي بين أمرين لا توجد علاقة ارتباطية بينهما، وأعنى بهما حال السكون التي تختلف بالضرورة عن حال الاستقرار. فالسكون هو حال تجمد مرحلي قد يعبر عن ظاهرة مرضية تخفي النار تحت الرماد بينما الاستقرار مرحلة تعتمد على توازن مقومات اقتصادية وثقافية قبل أن تكون سياسية بالدرجة الاولى، وهي تعبر عن صحة المجتمع وسلامة بنيانه واتساع دائرة المشاركة السياسية فيه ورسوخ الحريات العامة وسيادة القانون بين اطرافه. - رابعاً: إن حال الانهيار التي تعرضت لها عملية التسوية السلمية في الشرق الاوسط الى جانب التصعيد الدامي اليومي من جانب اسرائيل تستلزم منا تفكيراً واضحاً يخرج بنا من دائرة الماضي ويضع القضية في حجمها الصحيح من غير تهويل أو تهوين، وهنا أشير الى بعض محاولات الغمز واللمز عند المقارنة بين مبادرة الرئيس السادات عام 1977 ومبادرة الامير عبد الله العام 2002 فالظروف مختلفة والعالم تغير ويجب أن نكف عن سياسة تخوين الزعامات والاساءة الى اجتهادات القادة. - خامساً: إن اعتبارات كثيرة اصبحت تمارس دوراً مزدوجاً بين العرب واسرائيل على نحو يحتاج الى تجديد في الفكر القومي يعتمد على رؤية عصرية تتواكب مع تحديث سياسي بحيث يصبح القرار فاعلاً تتوالى منه المبادرات وتخرج عنه الافكار في ايجابية تجعل الخصم في وضع الاستقبال وتلزم كل الاطراف بالاستماع الى الصوت العربي الذي غاب طويلاً وتحول الى صمت سياسي احياناً وجمود فكري احياناً اخرى. هذه بعض نقاط تتصل بإمكان الخروج من ذلك النفق الذي مضينا فيه طويلاً وعانينا منه كثيراً، فإما أن نملك القدرة على توسيع دائرة تحركنا، وتجديد نوعية افكارنا، وتصنيع مبادرات تخدم اهدافنا، أو نظل كما نحن، نردد الشعارات، ونبكي على الماضي، ونجهل الحاضر، ونصادر على المستقبل، وسوف يكون أمامنا جهد كبير للتعامل مع قطاعات واسعة في الشارع العربي وبين صفوف مثقفيه ممن يعتقدون ان كل "خروج على النص" يعني بالضرورة تنازلاً عن حق او تجاوزاً في مبدأ، لذلك فإن الامر يحتاج في رأينا الى تأكيد التفرقة الواضحة بين التمسك بالثوابت والمرونة في الاساليب خصوصاً وان الظروف تتغير والاحوال تتبدل، والمواقف تتطور، إذ أن المهم في النهاية هو ان تحقق الشعوب اهدافها النبيلة، وغاياتها العادلة، من دون أن تتراجع أو تنكسر، او تصيبها حال من الجمود، او تحل بها نقمة التوقف عن مسايرة العصر او حتى التحرك خارج إطاره طحناً في الهواء، أو حرثاً في البحر، لذلك فإن القمة العربية يجب أن تتحول الى ملتقى للافكار والمبادرات، تبارك ما يستجيب للحق العربي ولا يتعارض معه بدلا من ان تتحول الى ساحة للصراع القطري او المزايدة السياسية، ولعلي أسوق هنا بعض الرؤى التي تشكل في مجملها نوعية جديدة من الافكار المتداولة حول مستقبل الصراع العربي- الاسرائيلي. 1- خطاب عربي مختلف يتجه الى الناخب الاميركي - دافع الضرائب - التي تدعم بها الولاياتالمتحدة الاميركية اسرائيل، يوضح له مغبة تضحية السياسة الاميركية بمصالحها في الشرق الاوسط من "أجل عيون" دولة واحدة في المنطقة. 2- إن الولاياتالمتحدة الاميركية لجأت الى العرب في التحالفين الكبيرين، مرة في حرب الخليج الثانية ومرة اخرى في حملة ضد الارهاب، فعندما تتعرض مصالحها للخطر فإن الحليف الطبيعي هو الانظمة العربية الصديقة التي اصبحت تواجه حالياً وضعاً حرجاً بسبب دعم الولاياتالمتحدة الاميركية المتزايد لاسرائيل خصوصاً في العام الاخير. 3- إن العرب مستعدون للدخول في ترتيبات أمنية متكافئة تضمن استقلال كل دول الاقليم بما فيها اسرائيل في حال انسحابها من كل الاراضي العربية المحتلة في 5 حزيران يونيو 1967 بغير استثناء مع قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، وهذه النقطة بالذات تتطابق مع مضمون المبادرة الاخيرة لولي عهد المملكة العربية السعودية. 4- إن العرب يدينون قتل المدنيين عرباً كانوا أو اسرائيليين ولا يتحمسون لعمليات التفجير الانتحارية الحالية ويرون أن الحادي عشر من ايلول سبتمبر قدمت مفهوماً مطاطاً للارهاب ظلمت فيه المقاومة الشرعية ضد الاحتلال الاجنبي. 5- ان التعاون الاقليمي والتعايش المشترك أمران يسعى إليهما العرب لأنهم ينتمون الى حضارة احتوت على اقليات عرقية ودينية وكانت تجربة اندماجهما في ظل الامبراطورية العربية الاسلامية امراً مشهوداً يمثل سابقة لا يجب إغفالها. هذه عينة من افكار قد تبدو بسيطة ولكنها تحمل في جوهرها طرحاً مختلفاً يخرج عن اللغة التقليدية التي سأمها الغرب ولفظها العالم، ولن أختتم هذا المقال الموجز من دون أن اشير الى حقيقة لا يجب أن تغيب عن الاذهان، فلقد كثر الحديث في الشهور الاخيرة حول خطاب اعلامي جديد، وأود ان أؤكد ان ذلك الخطاب الاعلامي المنتظر لن يتحقق بغير سياسة جديدة لان الصورة لا تتغير إلا إذا تغير الاصل، ولا يمكن ان نجد على المائدة طعاماً مختلفاً عن ما تم إعداده في المطبخ. إننا أمام عالم مختلف، وظروف معقدة، تحتاج منا الى صحوة كاملة، ويقظة مستمرة، ووعي دائم. * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.