العود بين يدي أنور ابراهم يستعيد مكانته كآلة رئيسة في الموسيقى العربية، وليس مجرد آلة مرافقة. فهو يعطي للموسيقى في أعماله أبعاداً جديدة ومؤثرة، إذ هي تنهل من إرث الماضي، وتتغذى من عوالم جديدة. وفي زمن محكوم بالأغاني الخفيفة، والموسيقى السهلة، أو التراثيّة الجامدة، يؤكد على حرية الابداع وضرورة التجاوز في التعبير الموسيقي. كما يعيد الاعتبار إلى العازف المنفرد في الموسيقى العربية. درس إبراهم الموسيقى في بلده تونس، وتدرّب على يد علي السريتي، ثم انتقل إلى فرنسا مطلع الثمانينات، حيث تلقّحت حساسيته بتقنيات ومراجع أخرى. وهو اليوم يحتلّ مكانة عالميّة مرموقة، وشارك في اصدار أعمال مهمّة مع كبار موسيقيي الجاز، مثل يان غارباريك ودايف هولاد وجون سورمان. من أسطواناته "برزخ" 1991 و"مقهى استراخان" آخر أعماله. وضع موسيقى عدد من الأفلام التونسية المهمّة، مثل "صفائح من ذهب" نوري بوزيد، و"عصفور السطح" فريد بوغدير. يقيم حالياً في تونس، ومنها ينطلق في جولاته العالمية. وخلال جولته الأخيرة في فرنسا، التقيناه وكان هذا الحوار: متى بدأ اهتمامك بالموسيقى؟ ولماذا اخترت آلة العود؟ - كنت أطلب من والدي بإلحاح تعلم الموسيقى. وذات مرة اكتشفت بالمصادفة معهد الموسيقى في تونس. فالتحقت به لدراسة العود بتشجيع من والدي. لماذا العود؟ لا أدري! عندما يبدأ الإنسان صغيرًا لا يجيء اختياره نتيجة تفكير مسبق. كان العود آلة دارجة، جذبتني إليها. استمعت في وقت مبكّر إلى سيد درويش وأم كلثوم وعبد الوهاب والموشحات... وفي المعهد اهتميت بالمقامات والأدوار والتراث الموسيقي القديم. ولم أكن مهتماً بالتيارات الموسيقية الخفيفة أو المنوعات. أنت تلميذ الفنّان البارز علي السريتي، وتابعت دروسك معه خارج المعهد... - تركت الدراسة في المعهد، في نهاية المطاف، لحدوث نوع من القطيعة مع الموسيقيين. وكان أستاذي السريتي قد تقاعد، فواصلت التعلّم عليه في داره لمدة أربع سنوات. كنت أذهب إليه يومياً. أما القطيعة مع المعهد، فحدثت لأنني لم أكن أحبذ الطريقة التي تعزف بها الموسيقى العربية من مقامات وأدوار. ما كانت اعتراضاتك ؟ - لم تكن طريقة التدريس جدية في نظري. وما زلت أعتقد أنها طريقة سطحية نوعاً ما. أرفض الاستعادة والتكرار تعتبر من المؤلفين المجددين في الموسيقى العربية. أين تلتقي موسيقاك مع الموسيقى التراثية وأين تفترق عنها؟ - من الصعب أن اقول لك ذلك. فأنا لا أحلل موسيقاي بل أكتفي بتأليفها. أتمنى أن أكون من المجددين كما تقولين، فهذا هو التحدّي الأهمّ الذي يواجهه أي موسيقي عربي اليوم. أنا أرفض الاستعادة والتكرار. أثناء دراستي في المعهد، كان الاعتقاد السائد هو أن التطوير مستحيل في الموسيقى العربية، ما دفع بالكثر إلى تفضيل دراسة الموسيقى الغربية وأدواتها. كأن موسيقانا مادة جامدة لا يمكن لها أن تتغير... أو كأن الطريقة الوحيدة لتجديدها هي إدخال الهارموني والأوركسترا. كنت ولا أزال ضدّ هذه النظرة إلى الأمور، لاعتقادي أن التغيير يجب أن يفرض من الداخل، من لغة الموسيقى العربية ذاتها، من القوة الكامنة فيها، من ذخيرتها الغنية جداً التي تسمح لها بالتطور. نعيش الآن فترة فقيرة جداً على صعيد الابداع، ليس هناك سوى محاولات فردية موزعة هنا وهناك. والموسيقى العربية اليوم، في معظمها، موسيقى منوعات. أنا أحاول التطوير عبر الآلات التي أستخدمها في ألحاني عود، كلارينت، بندير، دربكة...، وعبر ما تعلمته من الموسيقى التراثية. لديك موقف نقدي من الطريقة التي تعزف بها الموسيقى التراثية... - صحيح. لا يوجد حالياً ما يمكن أن نطلق عليه حقاً اسم "تخت شرقي". لدينا الموسيقى التي تعزف من موسيقيين متأنقين يقدمون الموشحات. أين التخت الذي كان موجوداً في الثلاثينات والأربعينات، وهو الاطار المثالي لاداء الموسيقى التراثية، ويعطي للموسيقي دوراً حقيقياً كعازف منفرد؟ ليس عندنا نقص في الموسيقيين الجيدين، لكن الخيارات غير مطروحة. كعلاقة الكاتب باللغة يعتبرك البعض في أوروبا من كبار موسيقيي الجاز المعاصرين، وأنت في العالم العربي من أهم عازفي العود الشرقي والموسيقى التراثية. كيف تجمع بين العالمين؟ - أسمع بعض الآراء التي تقول إنني بعيد كل البعد عن الموسيقى التراثية العربية، وأخرى تفترض أنني على علاقة متينة بها. الاراء متعددة، لكن علاقتي بالموسيقى التراثية موجودة بلا ريب، وهي علاقة طبيعية، بديهية. والموسيقى العربية أنواع، وعلاقتي بها كعلاقة الكاتب باللغة، إذ يستعمل لغة موجودة لكنه يوظفها بطريقته الخاصة.أما تصنيفي ضمن عازفي الجاز فيدهشني بعض الشيء. أجد اسطواناتي في قمة اسطوانات الجاز المباعة في أوروبا، وأن "ثمار" انتخبت أسطوانة الجاز الأولى في بريطانيا العام 1997! لا أعتبر نفسي موسيقي جاز، وأتساءل كيف يرى موسيقيو الجاز ذلك؟ ربما يتساءلون ماذا أفعل بينهم؟! ربما يعود هذا التصنيف إلى تعاونك مع موسيقي جاز عالميين في "مدار" و"ثمار"... - صحيح أيضاً لأن شركة الاسطوانات ECM التي أتعامل معها، معروفة عالمياً في إنتاج اسطوانات الجاز. وفي الجاز اتجاهات عدّة، وهو يضم أنواعاً كثيرة من الموسيقى، كما إنه تيار غني بالتجارب الفردية وبالإمكانات، وبالمغامرة. اهتمامي بالجاز كاهتمام بعض المخرجين العرب بالموجة الجديدة، أو الأدباء العرب بالحركات الأدبية الأوروبية... من يفتح الآن أبواب الإبداع في الموسيقى العربية؟ وكيف يتحقق ذلك؟ - أعتقد أن المهم اليوم هو الإنتاج والابداع. ثمة وسائل عدة للإبداع، يمكن أن تكون حتى في الموسيقى ذات التوجّه التجاري. نحن اليوم في حاجة إلى كل الإمكانات، في كل مجالات التعبير. ما يؤلمني حقاً هو وجود موسيقيين ذوي موهبة عظيمة، يمضون حياتهم في العزف في المطاعم، إذ لا يتوافر تيار حقيقي لما يمكن أن نسميه "الموسيقى الجادة". وأنت كيف شققت طريقك إذاً؟ - كان لدي الحظ! لم يكن يهمني أن أكون موسيقياً على نحو آخر. وهذا الخيار وضعني عكس التيار. عندما قدمت نفسي للجمهور للمرة الأول في تونس العام 1981 في عزف منفرد على العود، نظر إلي البعض كأنني معتوه! هل تغير الوضع الآن؟ ما مكان العازف المنفرد في موسيقانا العربية ؟ - في تونس؟ تغير الوضع كثيراً ويدهشني الجمهور الذي يأتي إلى حفلاتي. وحين عزفت في "مهرجانات بعلبك الدولية" في لبنان، أسعدني تجاوب الجمهور كثيراً. لكن فرصة العزف في البلاد العربية، غير متاحة دائماً للأسف، وهذا مرده إلى الجهات المنظمة التي إما أن تكون حفلاتها رسمية جداً، أو موجهة نحو الموسيقى التجارية. والعزف في لبنان أو المغرب أو رام الله أو أي بلد عربي آخر، يسعدني جداً لا سيما أنني أعزف الآن أقل من السابق في تونس. ما معنى "نخبوي"؟ ألا تخشى من اتهامك بالتعالي على شعبك، بعد أن بلغت العالميّة؟ - الجمهور الأول بالنسبة إلي هو الجمهور التونسي. وفي كل مرة أجد فيها الظروف ملائمة لتقديم حفلة في تونس، أفعل ذلك بسعادة. بدأت في تونس، بعد عودتي من فرنسا العام 1985، ثم أخذ جمهوري التونسي يكبر. في ختام مهرجان قرطاج العام 1992 فوجئت بوجود 8 آلاف مستمع جاؤوا للاستماع إلى... العزف المنفرد. كنت فخوراً بذلك. أنا لم أعرف في تونس نتيجة شهرتي الأوربية، ولست فناناً "غير مفهوم" في وطنه، وكلّ هذا يجعل إحباطي مضاعفاً لأنني لا أعزف في بلدي، لكنني لا أجد الظروف الملائمة لذلك حالياً. هل يمكن اعتبار موسيقاك نخبوية؟ - هذا ما أتهم به. قالوا في البداية إنني نخبوي، ولا أنتج موسيقى للشعب. مع أن بعض الأغنيات التي لحّنتها كحلفاوين أصبحت تردد في ملاعب كرة القدم. لا أعتبر أن هناك موسيقى نخبوية وأخرى شعبية. هذا ادعاء عنصري. هل يعني ذلك أن الفلاح أو العامل لا يمكنه الاستماع إلى الأشياء التي تخرج عن المألوف؟ من المهم أن يكون ما ندعوه "الثقافة النخبوية" قابلاً للوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس. وهذه ليست مشكلتي! أنا أؤلف الموسيقى التي تهمني... ما تعريف الموسيقى النخبوية؟ ومن هي النخبة؟ أرفض تصنيفي في خانة الفولكلور كيف خرجت أسطوانتك الأولى للناس؟ - في البداية قمت بانتاج بعض الأشرطة على نفقتي. وحين رغبت بتسجيل أول اسطوانة لي بعنوان "برزخ"، جاءتني اقتراحات من شركات عالمية... إذ ليس في تونس حتّى الآن، شركة لإنتاج الأسطوانات. وكان عرض ECM هو الذي جذبني، نظرًا إلى المستوى العالي الذي تتمتع به هذه الشركة عالمياً، على أكثر من صعيد: فني وتقني...كما أنهم لم ينظروا إلى موسيقاي كموسيقى فولكلورية، وكنت أرفض تماماً وضعي ضمن هذا الإطار الذي تضع فيه بعض شركات الأسطوانات العالمية بعض الموسيقيين العرب أو الأفارقة. حقل هائل من الحرية أنت تعتبر أن الارتجال في الموسيقى هو نوع من المتاهة الشخصية... ما دوره في أدائك؟ - لا يمكنني تحديد دور الارتجال. إنما السبيل إليه متوافر عندي لأنه في تراثنا، وهو ما يجعلني أرتبط بما نعتبره التراث في الموسيقى العربية القديمة. فعبر قدرة الموسيقي على الارتجال، نتعرف على قدراته في الابتكار بعفوية. إنه مجال رائع للإبداع! نتعلم العزف، ومن ثم علينا أن نعبر عن أنفسنا، أن نكون أمام الناس "من دون نص"... عندما أكتب الموسيقى وأعزفها مع الموسيقيين، فنحن نضع القسم المكتوب أمامنا. ولكن ثمة لحظات ينفرد فيها كل عازف ويأتي بحكايته الخاصة، إذا جاز لنا التعبير، ضمن هذا التركيب. إنه أمر مذهل، موجود أيضاً في الجاز والموسيقى الهندية، الارتجال إدراك عميق للتأليف، وحقل هائل من الحرية.