في الأوساط الشبابية المصرية الآن "فوران" غنائي، وتشتت موسيقي، فما من صوت واحد يهيمن على أسماع الشباب، وما من اتجاه بعينه في التلحين الموسيقي يستهويهم، وربما صار جزءاً اساسياً من المشهد الغنائي اليومي في مصر، إن كثيراً من الشباب يلحن ويغني، حتى ولو اقتصر جمهوره على مجموعة أصحابه فقط، أو إذا كان مسرحه الوحيد هو الشارع. في العاشرة مساء، وفي ركن هادئ من كورنيش النيل في القاهرة، وأمام فندق شهير بحي غاردن سيتي يمكنك أن تستمع الى شادي ابراهيم، ستعرفه من أنغام عوده الرنانة، وستصل الى مجلسه لتجده وسط عدد من اصدقائه، يستمعون اليه بإخلاص وتعاطف بادييْن، ويصفقون له أحياناً، أو تخرج من أحدهم كلمة اعجاب: الله يا شادي. شادي ليس اسمه، هو أطلق هذا الاسم على نفسه، لأنه يعد نفسه مطرباً حقيقياً، وفيما كان منهمكاً في "الشدو" برائعة نجاة الصغيرة: "كل شيء راح وانقضى" سألته: أهذا هو جمهورك؟ فقال: نعم، هم يحبون صوتي، فيما رفضتني لجنة الاستماع في الاذاعة المصرية، وأنا أغني لهم على العود أية اغنية يطلبونها، ونظل كذلك حتى الساعات الأولى من الصباح. "المنقذون" شادي - واسمه الحقيقي ناجي - يجيد العزف على العود، ولكنه ذو صوت متواضع، وهو فاقد كل أمل في المشهد الغنائي الراهن، الذي لا يزال يضع أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم على عرش الغناء وحدهم، وهو - على رغم حبه لهم - يرى ضرورة افساح مجال للشباب أصحاب الفكر الموسيقي الجديد، على رغم أن ناجي - عجز عن تحديد مفهومه للفكر الموسيقي الجديد هذا، حينما استوضحته فيه. مثل شادي مئات أو آلاف مقتنعون بحلاوة أصواتهم، وبأنهم المنقذون للغناء المصري، والتلحين ايضاً. والمدهش، أن هؤلاء الشبان المتمردين، يبتاعون ألبومات عبد الحليم حافظ في لهفة يشهد بها أصحاب محال الكاسيت، الذين يؤكدون أن "حليم" - كما يطلق عليه في مصر - ما زال يتصدر مبيعات الكاسيت على رغم مرور 25 عاماً على وفاته في آذار مارس 1977. واذا طُلب الى أحدهم أن يغني أمام الناس، غنى لأم كلثوم أو عبد الوهاب، أو لعبد الحليم، حتى اذا كانت له أغانيه الخاصة. وتشهد محال الكاسيت باضطراب أذواق المستمعين الشباب، ففي العام الماضي تصدّر محمد فؤاد المبيعات في سوق الكاسيت، وتراجع عمرو دياب الى المركز الثاني، فيما انعكست الآية في الموسم الراهن، أما في الغناء الأجنبي، فقد تصدر فريق "سبايس غيرلز" المبيعات في العام قبل الماضي واحتلت سيليت ديون المركز الأول في العام الماضي، أما الموسم الراهن فهو موسم "شاكيرا" من دون منازع، والمتابع لبرامج الغناء في التلفزيون المصري، والقنوات الفضائية المصرية، يجد أن معظم المتصلين بالبرنامج - من مستمعين شبان - يطلبون الاستماع لأية أغنية لشاكيرا، من دون تمييز، فيما اختفت تدريجاً النزعة الشبابية المتحمسة لموسيقى "البلاك ميتال" العنيفة. يقول محمد فارس العيسوي - طالب في جامعة القاهرة 20 سنة: "شاكيرا" هي رقم واحد في سوق الكاسيت والكليب الاجنبي اليوم في مصر، ففضلاً عن حلاوة صوتها، فإنها تمتلك حضوراً فائق الجاذبية، وجمالاً حسياً لا خلاف عليه، بصراحة، أنا لا أخجل من أن أقول إنها عروس أحلامي. ويشير عادل غريب 21 سنة طالب جامعي، الى أن كثيرين يقبلون على أي كليب لشاكيرا ليس لجمال صوتها، بل للاستمتاع بمشاهدتها، من ثم فإنها الأكثر رواجاً بين المراهقين!. ولمصلحة شاكيرا تراجعت مبيعات بريتني سبيرز وسبايس غيرلز، أما في الغناء العربي، فعمرو دياب رقم واحد على مستوى مصر، وعبد الحليم حافظ يتراجع - للمرة الأولى منذ 25 عاماً - الى المركز الثاني، بحسب موزع كاسيت شهير في ضاحية الزمالك، قال: الفيديو كليب الآن هو النقطة الفارقة التي تصعد بالأغنية الى أعلى نجاح، أو تطوح بها بعيداً عن أي نجاح، والكليب الأخير لعمرو دياب في أغنية "حبيبي ولا على باله"، أصابت الشباب بهوس واضح تجاه ألبوم دياب، ورفعت مبيعاته الى معدلات قياسية فعلاً. وعلى رغم عدم استقرار ملامح خارطة الاستماع الغنائي لدى الشباب المصري إلا أن الملامح الأساسية للموسم الراهن هي شاكيرا وعمرو دياب وعبد الحليم حافظ في المراكز الأولى، طبقاً لأرقام المبيعات. وتقول سماح غالب 23 سنة - خريجة كلية الآداب هؤلاء الثلاثة يمثلون المراكز الثلاثة الأولى في مبيعات الالبومات، ولكن ثمة مطربين ومطربات آخرين، يتصدرون المراكز الأولى في الاحياء الشعبية، وربما يستمع الشباب في ضاحية مثل بولاق الدكرور في محافظة الجيزة الى شاكيرا في النهار، والى شعبان عبد الرحيم في الليل، فشعبان عبد الرحيم هو "الناطق الرسمي" باسم الغناء لدى شباب الأحياء الشعبية الآن. واللافت للنظر، كما تقول دعاء سعد 25 سنة إن عبد الرحيم هو ضيف أساسي في ليالي أفراح الطبقات العليا للمجتمع، وهم ينظرون اليه بوصفه صرعة جديدة ستأخذ وقتها ثم تتلاشى، ولكن الحقيقة أنه متفوق في الاوساط الشعبية، لدى الشباب والكبار كذلك. البومات مختلطة ولعل مصطلح الاغنية الشبابية الذي خرج بالاساس من مصر، يكاد يختفي الآن كما يقول عثمان كمال موزع كاسيت لأن نسبة 90 في المئة تقريباً ممن يشترون الألبومات وال "سي دي" هم شباب دون الثلاثين من عمرهم، ومن ثم فقد زال التباين بين ما يسمعه الشباب وما يسمعه الشيوخ من غناء، لأن الأخيرين انصرفوا - اساساً - عن شراء الألبومات، ويشير عثمان الى أن غلاء أسعار ألبومات الكاسيت يتراوح سعر الواحد منها بين عشرة جنيهات وخمسة عشر أي ما يوازي اكثر من 3 دولارات للألبوم، هذا الغلاء جعل كثيراً من الشباب، ولا سيما في الاحياء الشعبية يلجأون الى شرائط "الكوكتيل" ويحوي الالبوم على مجموعة من الاغاني لعدد من المطربين الشباب ولا يزيد سعره على العشرة جنيهات حيث يتفق الشباب مع صاحب محل الكاسيت على تسجيل العدد الذي يشاء من الاغنيات على هذا الالبوم الخاوي، لعدد من المطربين والمطربات، وهكذا يمتلك الشاب - ذو الامكانات المادية المحدودة - اجمل الاغاني المأخوذة من 10 ألبومات مثلاً بعشرة جنيهات، بدلاً من أن يشتري كل هذه الالبومات بأكثر من مئة جنيه. اللافت للنظر - كذلك - ان رائدي الاغنية الحقيقية السريعة اختفيا من السوق، الاول هو الملحن والموزع الليبي حميد الشاعري الذي دشن هذه الموجة في أوساط الثمانينات، وهو منذ ألبومه الاخير "عيني" الذي لحنه وغناه في العام 1997 ولم ينتج البوماً جديداً، بل قلّ جداً عدد الاغنيات التي يلحنها، فيما اختفى علي حميدة صاحب اشهر ألبوم في موجة الشباب "لولاكي"، الذي صدر في العام 1988، بعد أن تدنت مبيعات ألبوماته في التسعينات. وربما يكون الخاسر الاول - في مجال الاغنية الاجنبية عند الشباب - هو مايكل جاكسون، ومبيعاته اخذت بالتدني منذ صرح بآرائه العنصرية ضد العرب لمصلحة اسرائيل، وتدنت تماماً بعد فضيحة علاقته الشاذة بالأطفال الصغار. ويقول عمرو فهيم 25 سنة - طالب جامعي كان من الممكن أن نصفح عن مايكل بعد فضيحة الشذوذ، لأن هذا شائع في الغرب، ولكن وقوفه مع اسرائيل ضدنا امر لا يمكن أن ننساه له ونحن نستمع الى اغانيه، فحتماً سنتذكر موقفه العنصري تجاهنا. فرق الفنادق واذا كان الشاب المصري يغير ذوقه في الاستماع العربي والغربي بين موسم وموسم، فإن ظاهرة اخرى تكتنف علاقته بالغناء، وهي تكوين الفرق الموسيقية التي تغني في الفنادق ذات النجوم الخمس، أو في القرى السياحية في الساحل الشمالي والغردقة وشرم الشيخ. يقول احمد رشوان 27 سنة والذي كون احدى هذه الفرق بفندق قاهري "خمس نجوم": الهوس بالفرق الموسيقية اجتاح ذوق الشباب المصري بعد ظهور "البيتلز"، وشهدت مرحلة السبعينات ظهور عدد ضخم من هذه الفرق، ومعظمها يغني اغنيات اجنبية. ومنذ أواخر التسعينات والى الان أطلت الظاهرة برأسها مجدداً، ولكن في شكل مختلف، فبعض هذه الفرق يغني الأغاني الغربية، وبعضها يقدم الموسيقى البحتة من دون غناء سواء أكانت شرقية أم غربية، وآخرون يقدمون اغنيات عمرو دياب ومحمد فؤاد وشعبان عبد الرحيم، أما الفارق الحاسم بين فرق المرحلة الراهنة وفرق السبعينات فهو ان فرق السبعينات تأسست تأثراً بالهوس الغنائي الغربي في تلك المرحلة، أي لهدف فني، فيما فرق اليوم لا تسعى الا للربح، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياحة، وأنا شخصياً كونت فرقتي هذه التي تقدم موسيقى غربية هادئة للساهرين، سعياً وراء الربح، فاعتقد اننا لا نلحق ضرراً بأحد، ففي الفرقة عازفون ماهرون، ولا أحد منهم يدعي لنفسه العبقرية!. ولكن نشوى ضياء 24 سنة مغنية في احدى هذه الفرق، تختلف مع احمد رشوان برأيه قائلة: الربح هو هدف كل انسان في العالم الآن، فالظروف الاقتصادية للعالم معقدة جداً، ولكن بعض الفرق تحاول التعبير عن اصوات شبابية "مكتومة" لأن المجتمع لا يتقبلها الان، فرقتنا - مثلاً - تقدم نوعاً جديداً من الغناء يخلط بين الألحان العربية والألحان الاجنبية في امتزاج خاص، ونقدم كلمات تختلط فيها العربية باللغات الأجنبية، وهو لون جريء من "الفرانكو آراب" اعتقد بأنه سيحظى بمستقبل جيد في السنوات المقبلة. أما "التكنو" - أو الموسيقى الالكترونية - فقصتها مع الشباب المصري مليئة بالمتناقضات. فقبل أربعة أعوام، أعلنت دار الاوبرا المصرية عن حفلات لفرقة موسيقية تقدم "التكنو"، وظن القائمون على أمر الحفلات أنها ستحطم كل التوقعات وسيتهافت عليها الشباب، غير أنهم ما لبثوا أن أصيبوا بخيبة أمل كبرى، حينما لم يحضر الحفلات الا عدد محدود من هواة "التكنو". وفيما انصرف الشباب عن حفلات "التكنو" في دار الاوبرا، تبنوها بقوة في حفلات "الديسكوتيك"، فمنذ شهور تم معالجة بعض اغنيات أم كلثوم وعبد الحليم بأسلوب "التكنو"، فاندلعت هذه الصرعة بين الشباب والفتيات من رواد "الديسكوتيك"، والصالات تمتلئ بهم - راقصين - اذا أديرت أي من هذه الاغنيات، اذاً، نجحت "التكنو" في صالات الديسكو فيما أخفقت في صالات ومسارح الأوبرا. يقول مجدي عبد العليم 28 سنة وصاحب فرقة ايجيتكنو الموسيقية: حفلات الفرقة تلقى نجاحاً كبيراً، ويزداد الطلب عليها لا سيما في فصل الصيف، حيث يكثر استدعاؤنا في القرى السياحية والمدن الساحلية لإقامة حفلات ساهرة للشباب، يرقصون فيها حتى الصباح. فيما يرى مجدي عبد العليم أن ذوق الشباب المصري لم تستهوه "التكنو" بعد، نظراً لاعتمادها على تقنيات عالية، تنتج موسيقى لم تألفها الاذن المصرية بعد، أما سر نجاحها في الحفلات الراقصة وصالات الديسكو فهو كونها قادرة على تحريك الجسد في اتجاه الرقص، فهي صاخبة وذات ايقاعات متميزة جداً، تحض على الرقص حقاً، لا سيما اذا تم تركيبها على أنغام أو ألحان عربية شهيرة وأصيلة كألحان اغنيات ام كلثوم وعبد الوهاب وحليم.