أثبت الطرطوسي في "سراج الملوك" حواراً، اثناء فتح المسلمين لبلاد فارس، منه ان القائد المسلم طلب من القائد الفارسي مهلة للتشاور مع قومه في الشروط التي يطرحها عليه. فقال له الفارسي: "إننا لا نُؤمَر علينا من يشاور"، فرد القائد المسلمك "ولهذا فنحن ننتصر عليكم، فنحن لا نؤمر علينا من لا يشاور". والشورى وسيلة لموازنة الامر بعقول الرجال، وغربلة الرأي، بحسب المعارف والثقافات، اثباتاً لاكتمال الفرد بالأفراد، والرأي بالآراء، لتحقيق مصالح الأمة. وهذا ما فعله عمر بن الخطاب ر حين كان يستشير معظم طبقات المجتمع الاسلامي في القضية المصيرية الواحدة، غير مستخف برأي ولا متغاضٍ عن اجتهاده وكان يستفيد من موسم الحج في استشاراته، لافتاً الانظار ومقرراً ان العبادات هي الاخرى وسيلة لمصلحة الامة، لا مجرد تكليف للأمة. وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان المستشار مؤتمن، وانه اذا استشار احدكم اخاه فليُشر عليه، وان التشاور في حد ذاته مدعاة الى الهدى والحق، وانه ما تشاور قوم قط إلاّ هُدُوا لأرشد امرهم. وأما شكل الشورى فأمر يحدده الزمان، وتحدده المصلحة، وليس له قالب معين، لأن المعاني هي العبادة، اما التفصيلات فمتروكة للاجتهاد الزمني. والمتخصص مستشار، ورئىس القبيلة مستشار، كما ان الرجل الحكيم والطفل الحكيم والمرأة الحكيمة، كل مستشار في الامر الذي يرغب ولي الامر ان يصل الى الحق فيه. فالشورى عبادة يؤطرها الزمن، وتحددها المصلحة. وقد علّمنا الباري عز وجل ان الشورى عبادة: "والذين استجابوا لربهم وأقامو الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون"، وان الشورى جزء اساسي من المجتمع الاسلامي، ليس للمصلحة فحسب، ولكن في الجوهر، لبلورة جوهر المجتمع الاسلامي ونظامه السياسي. والشورى من هذا المنظار هي البوابة الرئىسة لمقابلة العالم بنضوج. وليس بغريب ألا تكون سلطة الشعب هي الحاكمة الفاعلة في المجتمع الاسلامي، على غرار التصور اليوناني القديم والاوروبي الحديث للديموقراطية، فالله سبحانه وتعالى هو مركز الكون، وله وحده الحاكمية فيه. اما ان يصبح الانسان، او ان تصبح الشعوب هي مركز الكون وصاحبة الحاكمية فيه، فليس ذلك من الاسلام في شيء. وعلى هذا تصبح الشورى سمة لازمة للنظام الاسلامي، وتصبح الانظمة السياسية الاخرى، مهما كانت شعبية، ملازمة للنظام المادي الوضعي الذي لن يحقق للانسانية سعادة ولا مصلحة ولا انتشاراً لأن الكثرة لا تعني الحق، ولأن الكثرة لا تستطيع ان تُشرّع، وان تصوغ للبشرية نظماً صالحة لتحقيق مصالحها، لأن المشرّع هو الله وحده، مصداقاً لقوله تعالى: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله امراً ان يكون لهم الخيرة من امرهم ومن يعصَ الله ورسوله فقد ضل ضلالاً بعيداً" الأحزاب: 36. الرياض - د. محمد بن حمود الطريقي