تقيم نوال السعداوي في نيويورك قبل 11 ايلول سبتمبر 2001 وبعده، أستاذة جامعية، ومن هناك كتبت وتكتب ملاحظات فكرية وسياسية حافلة بالمشاهدات والمقارنات والآراء ذات الهدف الإنساني. في هذا المقال - التحقيق وجوه للتماثل والتباعد بين عادات شرقية وغربية، وإشارات الى سيل الإصدارات الأميركية عن الإسلام والمسلمين مع تخصيص مناقشة لكتاب برنارد لويس "ما هو الخطأ في علاقة الإسلام بالغرب؟"... فضلاً عن جولة للكاتبة في الأعمال المعروضة في مسارح برودواي، وملاحظتها انتشار الدراما الدينية التي تنافس الدراما الجنسية هناك. وفي ما يلي المقال - التحقيق: أتمشى على شاطئ نهر هدسون ما بين نيويورك ونيوجيرسي، الشمس تظهر وتختفي تحت السحب، نحن في شهر شباط فبراير العام 2002، يقولون عنه الشتاء الدافئ، كانت الشمس ساطعة معظم الوقت، وأنا أحب هذه الشمس الدافئة، تلامس وجهي كأنامل أمي، تذكرني بالوطن والحب والسجن، ربما تكون هناك علاقة بين الحب والسجن، أهي الحرية نفقدها حين نعيش الحب؟ أو الوطن والحب معاً؟! جاءني في الصباح صوت ابنتي من القاهرة، يشبه تغريد عصفورة عند ظهور خيوط الفجر الأولى: - كل سنة وانت طيبة يا أمي. - النهارده ايه يا مُنى؟ - عيد الحب يا أمي. إنها ابنتي الكاتبة الاديبة منى حلمي، الوحيدة في اسرتي التي تذكرني بالأعياد، ولا أحد يتذكر عيد ميلادي الا هي، ربما يتذكره احياناً زوجي الروائي شريف حتاتة حينما لا يكون مشغولاً بشيء أهم، أما ابني عاطف حتاتة - المخرج السينمائي، فهو ضعيف الذاكرة في ما يخص اعياد ميلاد أمه وأبيه وأخته وغيرهم من اعضاء الاسرة البيولوجية، وكنت مثل ابني منذ اربعين عاماً وأنا في ريعان الشباب. لم أكن أتذكر عيد ميلاد أمي او أبي، او عيد ميلادي، كان بيتنا يشهد كل عام مولد طفل جديد، وابي يزمجر حين يُطلب منه الاحتفال بعيد ميلاد طفل من أطفاله، ويقول ساخراً: - يعني اعمل عيد ميلاد كل شهر واللا ايه؟! أما أمي السيدة زينب هانم شكري حفيدة طلعت باشا في اسطنبول فكانت ترى أن ابي افضل من ابيها، وانها لم تتزوج ابي إلا لتهرب من بيت ابيها شكري بك! على رغم كل ذلك كانت طفولتي سعيدة مملوءة بالحب والدفء، اكثر سعادة من طفولة زميلاتي الاميركيات هنا في نيويورك ونيوجيرسي، واحدة منهن تقول لي في عيد الحب يسمونه هنا عيد فالنتين، وهي استاذة في جامعة نيويورك متخصصة في الدين الاسلامي، "نشأتُ منذ الطفولة يا نوال في اسرة كاثوليكية وكان ابي قساً تمرد على الكنيسة واعتنق الاسلام، إلا انه كان محافظاً متزمتاً لا يعترف بشيء اسمه "الحب". وكان ابي نقيضاً لأبيها يؤمن بالحب، ربما كان يعوّض بالحب والحنان ما يفتقده الفقراء من ماديات الحياة، وقد أغرق أبي في الحب أمي، حتى اصبحت تلد طفلاً كل عام، ثم ماتت وهي في ريعان الشباب، ممسكة يدي في يدها، وعيناها تملأهما دهشة طفولية. - كل سنة وانت طيبة يا ماما. إنه صوت ابنتي المغردة في الصباح الباكر، وقد أدبر عيد الحب منذ اسبوع وجاء عيد آخر هو "عيد الاضحى"، "يوم 22 شباط 2002"، ضحكت مع ابنتي وسألتها: ذبحتم خروفاً يا مُنى؟ لم يكن العيد في طفولتي عيداً من دون ذبح الخروف، الذي كان يرمقني وهو يُذبح بعينين متسعتين تملأهما دهشة طفولية، واتصوره طفلاً مثلي يذبحه أبي في العيد، وسوف يأتي الدور عليّ حتماً. كنت في الثامنة من عمري لا أواظب على الصلاة، وفي ايام القيظ في رمضان اختلس من وراء ابي رشفة ماء من قُلةٍ فخار باردة لذيذة، إنه ابليس يوسوس لي: "رشفة ماء يا نوال لن يلتفت اليها ربنا الله الرحيم الغفور لجميع الذنوب إلا أن يُشرك به". لكن ابي كان يؤكد لي أن الله يلتفت الى كل صغيرة وكبيرة في هذا الكون، ولا شيء يفوته وإن كان رشفة ماء أو كلمة واحدة يهمس بها ابليس اليه، وهكذا تحمّل ضميري منذ الطفولة عبء ذنوب كثيرة، وتصورت انه سوف يأتي عيد الاضحى في العام المقبل أو الذي بعده ويأمر الله ابي بذبحي بدلاً من خروف العيد. وغضبتُ من زميلتي الاستاذة الاميركية المتخصصة في الدين الاسلامي، والتي كتبت مقالاً تقول فيه إن مشكلة "العالم الاسلامي اليوم هي ان الاسلام لم يتحضر او لم يتطور بالقدر الكافي كما حدث لليهودية والمسيحية"، وسألتها: - وماذا تعنين بهذا التحضر يا سيدتي؟! - قالت: "اعني المودرنيتي أو Modernity باللغة الانكليزية. وطال الحوار بيني وبينها عن معنى الموديرنيتي أو "الحداثة" باللغة العربية، سألتها ماذا تعني بالحداثة؟ وهل اثر هذه الحداثة على "اليهودية" ما يحدث اليوم في اسرائيل من ذبح للفلسطينيين الاطفال مثل خروف العيد؟ وهل اثرت هذه الحداثة على "المسيحية"، ما يحدث اليوم في افغانستان من قتل المدنيين نساءً ورجالاً؟ - وقالت الاستاذة الاميركية: "هناك فرق بين "اليهودية" ودولة اسرائيل"، وهناك فرق بين "المسيحية" وحكومة الولاياتالمتحدة الاميركية". - وقلت: "وبالمثل ايضاً يا سيدتي، هناك فرق بين الاسلام وبين الدول الاسلامية أو العربية". إلا أن هذه الاستاذة المتخصصة في الدين الاسلامي والتي يدعونها الى بلادنا العربية لتكون ضيفة الشرف في الاحتفالات والمهرجانات الثقافية والاعياد بما فيها اليوم العالمي للمرأة، وهي متخصصة ايضاً في موضوع المرأة والاسلام هذه الاستاذة لم تدرس الاسلام دراسة صحيحة، لأن دراسة الدين الاسلامي في الولاياتالمتحدة وفي جامعات اوروبا ايضاً تقوم على دراسة القرآن والأحاديث وغيرهما مما يتعلق بالاسلام والتاريخ الاسلامي فحسب، ويتخرج الاساتذة نساءً ورجالاً ويصبحون خبراء في الدين الاسلامي من دون أي دراسة مقارنة بين الاديان السماوية الثلاثة. لكن الدراسة المقارنة للأديان هي الوسيلة الوحيدة لفهم هذه الأديان، خصوصاً الأديان السماوية الثلاثة، وقاسمها المشترك هو "النبي ابراهيم" وتتشابه مبادئها تشابهاً كبيراً. سيل الكتب عن الإسلام والمسلمين منذ أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001، وضرب مركز التجارة العالمي في نيويورك والبنتاغون في واشنطن، وهناك سيل من المقالات والكتب المنشورة في الولاياتالمتحدة حول الاسلام وعلاقته بالغرب، هناك مقالات وكتب تصور الاسلام دون غيره من الاديان السماوية وغير السماوية كأنما هو دين "متعطش للدماء" يحرص على قتل المخالفين له باعتبارهم "الكفار"، ويحرّض على "الارهاب" تحت اسم "الجهاد في سبيل الله"، ويقهر "النساء" ويفرض عليهم الحجاب، والختان، وتعدد الزوجات، وضرب الزوجات. إلا أن الدراسة المقارنة للأديان تؤكد الجهل الذي يغرق فيه المتخصصون في الدين الاسلامي، ذلك ان الديانة اليهودية مثلاً بحسب الآيات في كتاب "التوراة" تحرّض "شعب الله المختار" على قتل اهل كنعان فلسطين الكفار، والاستيلاء على أرضهم تحت اسم "الارض الموعودة من الله الى آل ابراهيم" مقابل قطع العزلة او ختان الذكر، كما ان فكرة "حجاب المرأة" نشأت من آية في التلمود تؤكد أن "شعر المرأة العاري مثل جسدها العاري"، وأن "حواء" هي سبب "الإثم" وخروج آدم من الجنة، وقد عاقبها الله "بالأسى والألم" في ولادة الأطفال والخضوع لزوجها. على رغم ذلك فإن الكتب والمقالات تنهمر كالسيل "منذ احداث أيلول" تصور الاسلام والمسلمين كأنما هم قوم من القتلة والجهلة المتخلفين، وأن علاجهم الوحيد هو "التحضر" أو المودرنيتي، باللغة العربية "الحداثة". حاولتُ الرد على بعض المقالات التي نشرت في "نيويورك تايمز" والتي لا تزال تنشر حتى اليوم، إلا أنهم لا ينشرون مقالاتي على رغم تشدقهم بالديموقراطية والليبرالية. إن الديموقراطية الاميركية هي الديموقراطية "الوحيدة" في العالم، كما يقولون هنا، وكذلك الديموقراطية الاسرائيلية، يقولون إنها الديموقراطية "الوحيدة" في الشرق الاوسط. ويضحك الطلاب والطالبات في "اللجنة ضد الحرب" التي شكّلت في الجامعة والتي أحاضر فيها في ولاية نيوجيرسي، ويقولون: "أجل أيها السادة، هذه الديموقراطية الاميركية والاسرائيلية تشبه ديموقراطية الحكومة العنصرية "الابارتهايد" في جنوب افريقيا، التي صورت نفسها للعالم سنين طويلة على أنها الديموقراطية "الوحيدة" في قارة افريقيا". ولا شيء يواسيني عن البعد عن الاهل والوطن إلا هؤلاء الطلبة والطالبات. أشعر بالبهجة حين أدخل الفصل وأرى وجوههم الباسمة، وعقولهم المتفتحة للإبداع، قلت لهم في أول حصة: "أنا أكره التدريس، كما أن الإبداع لا يمكن تدريسه، وكل ما سأفعله هنا في الفصل هو: أن أساعدكم على نسيان ما لقنه لكم المدرسون منذ طفولتكم". وفي احتفال الجامعة بقدومي من مصر في اول ايلول 2001، وكانت الإدارة كلها حاضرة، "صاحبة السلطة"، ردّدت هذه العبارة السابقة، التي أدت الى "عدم تجديد عقدي" مرة أخرى. إنهم يدفعون لي راتباً كبيراً كي ألقن الطلاب الاميركيين دروساً تمكنهم من الإبداع، لكنني لا أؤمن بالتلقين، وقد مارستُ الإبداع في حياتي من دون تلقين من أحد، اللهم إلا جدتي الفلاحة في قرية كفر طحلة التي كنت اراها "وأنا في الخامسة من العمر" واقفة أمام العمدة حافية القدمين، شامخة الرأس، مكشوفة الوجه، تشوح بيديها الكبيرتين المشققتين المحروقتين بالشمس في وجهه وهي تقول: "إحنا مش عبيد يا عمدة وربنا هو العدل عرفوه بالعقل". غياب الذكاء الفطري لم تكن جدتي الفلاحة قد ذهبت الى المدارس وتعلمت القراءة والكتابة، لم تقرأ جدتي القرآن او أحاديث الرسول الكريم، لكنها أدركت بالذكاء الفطري أن الله هو العدل، وأن العقل هو منبع الايمان بهذه الفلسفة الريفية المستوى، والتي لا يفطن لها غالب الاساتذة من حاملي الدكتوراه، والذين يفقدون الابداع او الذكاء الفطري من طريق التلقين في المدارس في الغرب والشرق. ويدور حوار من خلال شاشة "الانترنت" في جامعتنا حول أمور السياسة والفكر والابداع وغيرها. أصبحت الشاشة الصغيرة في مكتبي أو بيتي تنقل اليّ من كل انحاء العالم مختلف الآراء والافكار، أدوس على "الزر" كل يوم، وتضيء الشاشة أمامي، وأتابع كل ما يحدث في العالم، وكل ما يصدر من كتب جديدة، ومناقشات حولها. أحدث هذه الكتب من تأليف استاذ أميركي برنار لويس وهو متخصص في الدراسات الاسلامية، الكتاب عنوانه "ما هو الخطأ في علاقة الاسلام بالغرب؟" يغلف المؤلف أفكاره المبتورة غير الموضوعية بكلمات عامة رنانة عن عشقه للشرق والاسلام، والحضارة الاسلامية التي ازدهرت في القرون الوسطى حين غرقت اوروبا في الجهل والتعصب ومحاكم التفتيش والحروب الصليبية.. ثم يتساءل ما الذي حدث لينقلب الوضع وتتفوق المسيحية والحضارة الغربية على الاسلام والمسلمين؟! لماذا حدثت جميع الاكتشافات العلمية في الغرب المسيحي وليس في الشرق الاسلامي؟! إنها اسئلة واردة للعقل يمكن الرد عليها بالذكاء الفطري، فالمشكلة ليست دينية او الاختلافات في الأديان او الثقافة او اللغة، بل هي مشكلة سياسية واقتصادية اساساً، ذلك أن الاستعمار القديم والجديد تعاون مع بعض حكوماتنا المحلية من أجل إضعاف قدراتنا الابداعية في العلوم والفنون، أصبح التعليم في بلادنا أحد الاجهزة البوليسية لقمع الخلق والابداع وتدمير الذكاء الفطري منذ الطفولة. يكفي أن كل مفكر مبدع في بلادنا عرف زنزانة السجن مرة واحدة على الأقل في حياته، ينطبق ذلك على النساء والرجال، إنه المجال الوحيد الذي تتساوى فيه المرأة بالرجل، ويكفي أن متوسطي الذكاء هم الذين يصعدون الى مقاعد الحكم، وهم الذين يحصلون على الجوائز التقديرية، والحوافز والمناصب وكل شيء، حتى الاضواء الاعلامية. لكن السيد برنارد لويس مثل غيره من فلاسفة ما بعد الحداثة يتجاهل وجود شيء اسمه استعمار او احتلال أجنبي، ويفصل بينه وبين الحكومات المحلية، كأنما هي فقط وحدها مسؤولة عن المشكلة، او الشعوب ذاتها هي المسؤولة، وهو يضع كل المسلمين في العالم في سلة واحدة ثم يصدر أحكامه المبتورة، واتهاماته للمسلمين، بأنهم تخلفوا عن موكب الحضارة لأن العيب فيهم هم وليس فى القوى الخارجية، ويقول في كتابه: "لقد انتهى الاستعمار منذ نصف قرن واصبح العالم الاسلامي يعيش في عصر ما بعد الاستعمار post colonial لكن المسلمين لا يزالون يعلقون المشكلة على شماعة الاستعمار ويتساءلون على الدوام "مَن فعل هذا بنا؟" كأنهم ضحايا طوال الوقت للقوى الخارجية، والمفروض ان يسألوا أنفسهم ما الخطأ فينا نحن، وماذا نفعل لتغيير أنفسنا، أما أن يحملوا الخطأ على غيرهم فهذا هو الخطأ. وهناك بعض الحقائق التاريخية في كتاب برنارد لويس، كما أنني اتفق معه في أن النقد الذاتي ضروري، لكني أختلف في فكرته اننا نعيش "عصر ما بعد الاستعمار هذه خديعة فكرية كبيرة لأننا نعيش عصر "الاستعمار الجديد" new colonial وليس يا يسمونه post colonial. في الجامعات الاميركية يسود هذا التعبير الخاطئ عن "عصر ما بعد الكولونيالية" وتنقله الجامعات العربية والافريقية عن الجامعات الاميركية من دون تحليل أو نقد علمي. وتكمن الخديعة ايضاً في أن برنارد لويس يعتبر هنا في اميركا من أهم الخبراء في الاسلام واكثر المدافعين عن الدين الاسلامي والحضارة الاسلامية في العصور الوسطى، وهو يختلف هنا عن مفكرين آخرين منهم صمويل هنتنغتون وفرانسيس فوكوياما اللذين يرون أن المشكلة في الاسلام ذاته، وانه دين يناقض الحضارة والتحضر، وفي حاجة الى تغيير جذري حتى يتحضر. ويدافع بعض النخب العربية والاسلامية عن برنارد لويس وأمثاله لأنه لا يدين الاسلام ذاته، لكن منطق برنارد لويس لا يقل خطورة عن منطق الآخرين، لأنه يتجاهل اهم الاسباب التي ادت الى ضعف البلاد العربية والاسلامية في مواجهة اوروبا واميركا، على رأسها الاستعمار الاوروبي والاميركي الاقتصادي والسياسي والعسكري والفكري والحكومات المحلية المتعاونة مع هذا الاستعمار والقاهرة لشعوبها رجالاً ونساء واطفالاً. التجول في مسارح برودواي علاقتي بمدينة نيويورك قديمة منذ صيف العام 1965، بالضبط في آب اغسطس 1965، فقد جئت لأحصل على درجة الماجستير من جامعة كولومبيا، وعشت في نيويورك احداث حرب فيتنام، وخرجت مع الطلبة والطالبات في التظاهرات ضد هذه الحرب، التي انتهت بانتصار الشعب الفيتنامي نساءً ورجالاً، وكنت أرى الفتيات الفيتناميات الصغيرات مثل الاطفال الفلسطينيين اليوم يرشقون الطائرات الحربية الاميركية الضخمة ويسقطونها الى الارض ببندقية فيتنامية صغيرة. لقد انتصرت ارادة الشعب نساءً ورجالاً على أقوى الأسلحة العسكرية في العالم، فلماذا لا يتكرر هذا في ما يخص الشعب الفلسطيني؟! سوف يتكرر! لا بد! وها هي دولة اسرائيل وجيشها المدعوم اميركياً تقاوم الانتفاضة الفلسطينية محاولة القضاء عليها من دون جدوى. منذ جئت هذه المرة الى نيويورك ونيوجيرسي في اوائل ايلول وأنا أبحث عن رواية جديدة او مسرحية تستحق الرؤية، او فيلم سينمائي جيد، او أي شيء من الابداع الفني، من دون جدوى، هناك جدب غريب يسود العالم غرباً وشرقاً، في ما يخص الاعمال الابداعية الجديدة، حتى الصحف في نيويورك والمجلات اصبحت خاوية خالية حتى من الاخبار الصحيحة، فكنت في العام 1965 اجدها دسمة مملوءة بالمقالات النقدية العميقة. والسؤال يدور في رأسي وأنا أتجول بين مسارح برودواي وشوارعها: هل كنت في العام 1965 فتاة غريرة تبهرها مسارح نيويورك وأنشطتها الثقافية على رغم سطحيتها؟ أم أنني اليوم في العام 2002 امرأة ناضجة العقل لا يبهرها شيء وإن كان عميقاً؟ هناك تنافس واضح بين مؤلفي الدراما الدينية والدرما الجنسية على مسارح برودواي، والعناوين الضخمة تشبه الاعلانات التجارية عن بضائع الشركات المتعددة الجنسيات، وقررت اخيراً مشاهدة مسرحية دينية واخرى جنسية من أجل الترويح عن النفس. لم أحصل في حياتي على اجازات من العمل خارج البيت أو داخله. حين كنت طالبة في جامعة كولومبيا، منذ سبعة وثلاثين عاماً، لم تكن الجامعات في نيويورك تحترم اجازات المسلمين، وكان علينا أن نشتغل في أيام العيدين الكبير والصغير، ثم نأخذ اجازات في اعياد المسيحيين واليهود، يمكن القول إن نيويورك مدينة يهودية - مسيحية، إلا أنها تغيرت بعد احداث 11 ايلول وسقوط برجي التجارة العالمية في مانهاتن، بدأت جامعات كثيرة تهتم بدراسة الاسلام والمسلمين والعرب، بل ارتفعت أصوات تطلب إدخال اللغة العربية ضمن المقررات في المدارس الاميركية على أساس: اعرف عدوك! راجت الكتب التي تحمل عناوين من نوع الاسلام والغرب، الاسلام والمرأة، الاسلام والارهاب، الاسلام والعنف... وايضاً بدأت بعض الجامعات تعطي اجازة في اعياد المسلمين للطلبة والاساتذة، وربما هذه واحدة من ايجابيات ما بعد سقوط البرجين في 11 ايلول، فقد بدأ الاميركيون يحترمون المسلمين وأعيادهم باعتبار أنهم اصبحوا قادرين على توجيه ضربات اليهم تسقط أعلى أبراجهم الشامخة في السماء. دارت المسرحية الدينية حول فتاة صغيرة اسمها "كاتي" وُلدت من أم مسيحية وأب يهودي، واصبحت الفتاة حائرة بين الدينين المسيحي واليهودي، ثم زادت حيرتها حين أمرها ابوها ذات يوم ب"ألا تذكر اسم المسيح" أمام جدتها. واندهشت الفتاة وسألت عن السبب، فقال ابوها: "لان جدتك لا تحب المسيح"، وتصورت الفتاة الصغيرة ان جدتها العجوز قابلت في شبابها المسيح ولم تحبه منذ ذلك الحين. توحي المسرحية منذ هذه البداية الدرامية بالعمق الفلسفي إلا أنه للأسف تضيع الفلسفة ويضيع العمق ربما بسبب الرقابة الخفية التي تمارسها ادارة جورج بوش. إن جورج بوش الابن ورث عن أبيه النزعة الدينية، والايمان بأن التيارات الاصولية الدينية هي خير من يحمي مكاسب الرأسمالية الدولية، ويضرب قوى الشر والشيطان في الخارج والداخل في الداخل تتجسد قوى الشر في الحركات الطالبية المعارضة للحرب والحركات النسائية المطالبة بتحرير النساء الاميركيات من اليمين الاميركي بزعامة الحزب الجمهوري. تتهكم الفتاة الصغيرة على ما تقرأه في الكتب عن ان الكاثوليك لا يستحمون! أما والدها اليهودي فقد تخلى عن دينه من أجل زوجته المسيحية، "لورا" وكانت لورا تخفي ماضي زوجها عن الناس كأنما هو "عورة". وتحاول كاتي الصغيرة ان تشرح للشاب الذي تحبه لماذا يذهب الكاثوليك الى كرسي الاعتراف أمام القسيس في الكنيسة، ويسألها صديقها: "ولماذا يذهبون للاعتراف؟". وترد الفتاة الصغيرة من أجل ان يقترفوا كل الآثام ثم يمسحونها بالاعتراف من حين الى حين. ويذكرني هذا المشهد بقصة كتبتها العام 1944، وأنا تلميذة صغيرة، عنوانها "مذكرات طفلة اسمها سعاد". كانت سعاد تعيش في اسرة شديدة التدين، تلقت تعاليم الصلاة والصوم منذ السابعة من عمرها، وايضاً تعلمت التوبة، وكيف تتوب عن ذنوبها من طريق الطقوس المتكررة، وهكذا تكررت آثامها وتكررت توبتها لتمسح الذنوب من حين الى حين نُشرت القصة بالعنوان ذاته بعد ثلاثين عاماً من كتابتها. اما صديقها الفتى الصغير فيقول لها في براءة إن مشكلات اليهود تكمن في أن الغدد في أجسامهم تفرز هرمونات أكثر من المسيحيين، ويضحك الجمهور الاميركي على تلك الفتاة الصغيرة "كاتي" التي تحتفل بعيد ميلادها حين تبلغ الرابعة عشرة من عمرها بأن تتوقع من صديقها ان يفض بكارتها في أول ممارسة جنسية، كما تفعل كل زميلاتها في المدرسة. تحمل المسرحية عنوان "السلم الذهبي" ولم اشترك مع الجمهور في الضحك على هذه الفتاة الصغيرة الحائرة بين الاديان، والتي تحاول البحث عن هويتها الدينية، لقد طغت فكرة تأكيد الهوية الدينية في اميركا منذ اعتلى جورج بوش الرئاسة وبدأ يستخدم اللغة الدينية في جميع الأمور السياسية والاقتصادية بما فيها الحرب ضد محور الشر، والرقابة على الإعلام والفكر والرأي، مع اطلاق حريات الأديان والاموال في البورصة والشركات العابرة للقارات. اما المسرحية الثانية فهي تحمل اسم "مونولوج المهبل" ويعتبرونها مسرحية ناجحة بسبب الاقبال عليها، وكلمة "المهبل" كلمة طبية تعني أحد اعضاء المرأة التناسلية، ومنذ نجاح هذه المسرحية المؤلفة والممثلة امرأة اسمها ايف إنسلر بدأت مسرحيات أخرى تزحف الى برودواي تحمل اسماء الاعضاء الجنسية للرجال والنساء، وايضاً الجهاز البولي، هناك مسرحية اسمها "مدينة البول" urine town، ومسرحية اخرى تحمل اسم "ديالوج القضيب" وغيرها. ويتساءل الناس في نيويورك ونيوجيرسي، أهو التدهور الذي أصاب الفكر والثقافة بعد ضربة 11 ايلول أم أنها الحضارة الرأسمالية تتهاوى مع تهاوي رمزها التجاري؟ * كاتبة مصرية.