سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
اسئلة على السياسة الاقتصادية اللبنانية ومصادر ديونها المتعاظمة والمتراكمة الى غير أجل . البيئة السياسية المتحررة من المصالح والإرادات المحلية تنتج بيئة اقتصادية تزدري معايير السوق والإنتاج
أغفل محاورو السيد رفيق الحريري، رئيس الحكومة اللبنانية في 4 آذار مارس على شاشة شبكة تلفزيون "المستقبل" الذي يملكه السيد الحريري كاملاً، طرح ستة اسئلة عليه يبعث إغفالها على العجب، إذا صدق قول المحاوَر ان "هذه الندوة هي لنقول للمواطنين ما عندنا وما نفعل، وأن تنقلوا هواجس الناس...". السؤال الأول الذي كان يمكن طرحه على الرئيس رفيق الحريري يتناول بعض مصادر تراكم الدين العام الى حين بلوغ نفقات خدمته السنوية 4500 مليون ليرة لبنانية اي حوالى ثلاثة بلايين دولار اميركي اليوم. فالاستخفاف بتكلفة صندوق المهجرين نحو 100 بليون ليرة لبنانية في السنة، او 65 مليون دولار ومجلس الجنوب مئة مليون دولار أو أكثر بقليل، والتهوين من ثقل نفقاتهما بإزاء البلايين الثلاثة السنوية، يتستران على أبواب التبديد والتبذير العامة. فأجهزة الدولة، العسكرية والأمنية والإدارية والفنية الطاقة، المواصلات، الاتصالات، التعليم، الصحة، هي مرافق توظيف واستخدام واسعين، من وجه، وهي تتولى، من وجه آخر، إعالة شطر من المواطنين من طريق غير مباشرة، على خلاف التوظيف والاستخدام. والحق ان هذه الإعالة لا تعلن صفتها. فالتهرب من تسديد اشتراكات الكهرباء والمياه، أو من تسجيل الاشتراك اصلاً، لا يتخذ صفة الإعفاء المحسوب، ولا صفة التسعير المتدرج والمتعاظم التكلفة، بل يسلك سبيل الإعالة المواربة و"السياسية" على معنى إعالة الأنسباء والأقرباء وأهل العصبية والولاء. وإذا كانت خسائر مصلحة الكهرباء قريبة من البلايين الثلاثة العتيدة فالتجهيز الكهربائي ابتلع حصة راجحة من "رؤوس" الدين، واستهلكها حين تكوينه. وتحجم الإدارة اليوم، عن جباية عامة، ولو مخفضة، لعائد الاستثمار في المرفق الحيوي هذا. ويتناول السؤال الثاني شطراً من السؤال الأول يدخل في باب التوظيف. ويؤثر اهل السياسة اللبنانيون تلافي الخوض في هذا الباب. فيسأل بعضهم عن جدوى الخدمة العسكرية قياساً على ثمنها. ويندد بعضهم الآخر ببلوغ تعويضات نهاية خدمة بعض الضباط ثلاثمئة ألف دولار أي 1500 ضعف الحد الأدنى للأجر الشهري في لبنان، ونظير 125 سنة رواتب تقاعدية بالقيمة نفسها. ويعجب بعض ثالث لاستمرار التلويح بالاضطرابات الأهلية، إذا انسحبت القوات السورية، والقوات المسلحة اللبنانية تعد الأربعين ألف جندي محترف، ومضى على "تأهيلها" نيف وعقد من السنين. وينكر بعض رابع كثرة اجهزة امنية لا تقوى على الحؤول دون اغتيالات سياسية في مواضع ونواحٍ قريبة من مراكز السلطة ورؤوسها. ويقارن بعض خامس بين تسريح نيكاراغوا جيشاً "عقائدياً" من تسعين ألف رجل، واختصاره الى 15 ألفاً، وخفض دين الخزينة جراء ذلك من 13 بليون دولار في 1994 يوم كان الدين اللبناني قريباً من هذا الرقم الى 3 بلايين في اثناء سنتين، وبين زيادة القوات المسلحة المحلية ثلاثة اضعاف عديدها، منذ اتفاق الطائف 1989 والإجماع المفترض على "الوفاق الوطني" والأهلي. ولا تقتصر المصروفات العسكرية والأمنية على الرواتب، على ما نبه السيد الحريري نفسه غداة صرفه في 1998 من رئاسة الحكومة وإلقائه تبعة الهدر على جهاز ضخم، فهي تتطاول إلى تكلفة انشاء "مرتبة" على حدة ومتميزة من المواطنين، طبابة وسكناً ودراسةً ونقلاً وهذه كلها موضوع تعويضات كبيرة قياساً على تعويضات فئات الموظفين الأخرى. وأما السؤال الثالث فموضوعه تكلفة انجاز المرافق العامة التي انجزت في اثناء تولي السيد الحريري رئاسة الحكومة وولايات الرجل الحكومية تبلغ ثمانية اعوام من عشرة مضت على أول انتخابات نيابية في 1992. فمن مطار بيروت الى المرافئ، ومن شبكات الكهرباء والماء والهاتف والصرف الصحي الى الطرق والجسور والأنفاق والمباني، انشئت "بنى تحتية" قد لا يشك احد في الحاجة إليها، ويشك كثرة من الناس في اجراء تكلفتها على معايير جدوى وأمانة دقيقة أو متوسطة. ولا يتخفى نظام المناقصة الغالب على ذهاب 20 الى 25 في المئة من تكلفة المشروعات الى الشركات المناقِصة على صورة عائدِ وساطة ودالة وضمانة معنوية ومادية. فالشركات المحلية تتولى التنفيذ فعلاً في إشراف الشركات التي حازت المناقصة، لقاء اقتطاع حصة هي ثمن التوسط الأجنبي. وهذا هو الشطر المعلن من الإفراط في التكلفة. وأما الشطر الخفي وغير المعلن فقد يبلغ مبلغ المعلن. ويُخلص من جمع الشطرين الى بلوغ تكلفة المشروعات "التحتية" الفعلية ضعفي تكلفتها المفترضة والجائزة. وموضوع السؤال الرابع المحتمل هو تكلفة تحويلات العاملين السوريين الموسميين عوائدهم بالليرة اللبنانية اي بالدولار الأميركي في سوق صرف حرة وبسعر صرف ثابت الى بلادهم. فمهما قل تقدير عدد العاملين هؤلاء أو تواضع، ولا ريب في ان عددهم منذ اربعة اعوام او خمسة نزل الى نصف ما كان عليه في سنوات "الازدهار" 1993- 1997 أو أقل، يرتب تحويلٌ يتقاضونه بالعملة اللبنانية الى العملة الأميركية، في سوق مشرَّعة على الدولرة وملتزمة سعر صرف ثابتاً، اعباءً جديدة على السلطة النقدية الوطنية. فبعض تدخل مصرف لبنان شارياً الدولار بسعر صرف قريب من الحد الأعلى يعود الى الطلب الداخلي السوري. ويرتاب لبنانيون كثر، وغير لبنانيين، في ان تثبيت سعر الصرف على حده الجاري، وهو يفوق بحسب بعض الخبراء حده الحر المحتمل بنحو 15 في المئة فيبلغ سعر صرف الدولار نحو 1250 ليرة لبنانية عوض 1507، يرجع بعض السبب فيه الى رعاية قيمة التحويلات السورية. وعلى هذا تفوق تكلفة هذا الشطر من الدولرة الخمسين مليون دولار التي أعفى الساسة السوريون الماليةاللبنانية من تسديدها لقاء شراء لبنان محروقات وكهرباء من الدولة الجارة. ولا يحمي سعر الصرف الثابت الدخول والعوائد المتواضعة وحدها، بل يحمي كذلك الاستهلاك الفاخر الذي يعزو إليه رئيس الحكومة خلل الميزان التجاري. وبعض الاستهلاك الفاخر هذا 800 مليون دولار ثمن استيراد السيارات في السنة هو من سمات الاقتصاد "الحريري". ولا شك في ان ما تخسره الزراعة اللبنانية، والمزارعون اللبنانيون، جراء تهريب المزارعين السوريين منتوجاتهم الزراعية الى لبنان من طريق حدود "طويلة، طويلة"، على قول وزير الاقتصاد السوري الباسم، يفوق الخمسين مليوناً العتيدة. وهذا كان موضوع سؤال خامس محتمل لم يسأله صحافيون محترفون ومتملقون يغلبون على الصحافة اللبنانية، وزادهم السيد الحريري غلبة. ولا تقتصر الخسارة على الكساد الذي يلحق النتاج اللبناني. فالخسارة المترتبة على انكماش السوق المحلية تتطاول الى الأبنية الزراعية جملةً، استثماراً وعمالةً وتطويراً. ويزعم المزارعون اللبنانيون ان وزراء الزراعة المتعاقبين، وهم كلهم من لون "عصبي" أو جغرافي واحد شأن وزراء العمل، إنما يتولون "تصفية" الزراعة اللبنانية ووأدها، بذريعة ضعف ميزتها التفاضلية والتنافسية. و"العشرون مليوناً" الذين ينبغي ان تعدهم السوق اللبنانية والسورية المشتركة هم ايذان بنعي نحو ربع اليد العاملة اللبنانية وأرضهم وعملهم. ويلخص السفير الأميركي في لبنان السؤال السادس المغفل. فهو لاحظ في كلمته في مؤتمر غرفة التجارة الأميركية - اللبنانية في 12 آذار ان الشركات الدولية "تستثمر في بيئة اقتصادية يمكن التكهن في اطوارها، وفي مناخ من الشفافية دعامته اطار قانوني مستقل". فإذا فُقدت هذه العوامل أو ضعفت، على زعم السيد فنسنت باتل، ارتفعت العراقيل والمعوقات بوجه الاستثمار والنمو والتجارة، وطلبت الشركات استثمار مواردها "في جهات اخرى"، على ما يحصل فعلاً على رغم البليون دولار التي تدل "ايدال" المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات بتوظيفها المزمع في السوق السياحية والفندقية اللبنانية. ويجوز التكهن في أطوار بيئة اقتصادية وتوجهاتها حين لا يملك رجال الأعمال اقتناص الفرص، ولا يستقوون بحظوتهم السياسية وعلاقاتهم الشخصية على مصادر التسليف والقروض والإيداع، ولا على المساهمين والمستهلكين والعاملين وحصل مثل هذا الاستقراء في بعض المصارف المفلسة، وهي ذات لون طائفي "إصلاحي" وجديد. وهذا معنى الإطار القانوني المستقل الذي يتولى المراقبة والمحاسبة والاقتصاص من المقامرين والفاسدين والمفسدين. ولكن مثل هذا التكهن مستحيل، ولو توفر القضاء المالي المستقل، إذا أفلتت البيئة السياسية من كل عقال، أو إذا تحكم فيها نافذون لا يدينون بالحساب لناخبين راشدين يملكون امرهم، وفي مستطاعهم صرف النافذين أو تبديلهم أو استبقاءهم في ضوء "جردة حسابهم" الدورية. وحين أُبلغ اللبنانيون، سياسيين وعامةً، في خريف 1995 أنهم "اختاروا" تمديد ولاية السيد الياس الهراوي، وهم لا علم لهم بما اختاروا، انسلت الأموال والودائع من لبنان وهربت، على ما روى السيد فؤاد السنيورة، وزير مال السيد الحريري المزمن، في فذلكة موازنة العام التالي. وحصل مثل هذا، وعلى نحو أشد وطأة، حين ارتأى "جنرالات" "حزب الله"، ومن يشير عليهم من خبراء الاستثمار والنمو والتجارة، ان ربيع 1996 هو الوقت المؤاتي لقطع الطريق على السيد شمعون بيريز، المتنطح الى استفتاء الإسرائيليين في شأن انسحاب مزمع من الجولان السوري. فعمد الجنرالات والخبراء الى "تغيير المعادلة" بواسطة "الكاتيوشا"، مهوى الأفئدة الحزب اللهية ووَصْفتهم القاطعة. وجنى اللبنانيون كساداً داباً لم يفتأ يدب الى حين اجراء الندوة التلفزيونية، وتصدي السيد الحريري وحده الى اسئلة اربعة من مريديه وأنصاره، وموظفيه على قول ألسنة السوء. في 14 آذار الجاري علم اللبنانيون من طريق السيدين حسن نصر الله وإميل لحود، انهم يسهمون في "الانتفاضة"، وفي البرنامج الفلسطيني، من حيث لم يتكهنوا، ولم يتكهن السيد الحريري نفسه. ولعل ثمن استحالة التكهن في اطوار البيئة السياسية وتوجهاتها - جراء قوانين انتخابية تملي على الناخبين النوابّ عنهم، وتجنيس منح الجنسية الوطنية وحقوقها المدنية والسياسية ينتقي شطراً من هؤلاء الناخبين المطواعين ويستبق كيفية اقتراعهم، وجراء قيام معازل جغرافية ومذهبية وأمنية واجتماعية حصينة ومستقلة بإدارتها الذاتية و"المدنية"، وهبوط السياسيين على مقاعدهم من "المحال الأرفع" وهذا ما يسميه احد أعوان السيد الحريري، وأحد ألسنته الصحافية و"الفكرية"، تعديلاً في الميزان السياسي والطائفي يستدعي نظيراً اقتصادياً على القدر نفسه من التلقائية - لعل ثمن استحالة التكهن هذه هو فرار الاستثمارات والأعمال وأصحاب هذه وتلك. فحيث لا يطمئن المواطنون الى قوة الأصول الحقوقية والقانونية التي ترعى اعمالهم وسعيهم، وحيث تعلو الأصولَ هذه إرادةٌ متعسفة ومراوغة لا يُتكهن في ميولها، يقتصرون على العاجل من امورهم وشؤونهم. وهذا خلاف خلاف احتياجات الاستثمار. والأسئلة الستة هذه لا تستنفد الأسئلة المكتومة والمسكوت عنها الأخرى. ولكن إغفالها، على رغم بداهتها وشيوع الانتباه إليها، يدل ربما على اشتراكها في الصدور عن سياسة واحدة هي السياسة التي نصبت السيد الحريري، وبعض الآخرين، ولاة على اللبنانيين ودولتهم. فمن تعيلهم الإدارات والمرافق، من طرف غير معلن، ولا محتسب، إنما هم "جيش" العروبة السياسية الطائفي والمذهبي في لبنان، وأنصارها وعصبيتها. وإعالتهم على هذا النحو الباهظ هي ثمن ولائهم ومبايعتهم الثابتة عمَّال السياسة العروبية، اي السورية على قول "روحاني" راحل، على الدولة اللبنانية. ويرفد الجيش العسكري، إذا جازت العبارة، الجيش السياسي و"الشعبي" والاجتماعي. فهذا لا يغني عن ذاك على نحو ما لا يغني ذاك عن هذا. ويشتري إنجاز المرافق العامة، على النحو الذي ينجز عليه، صداقات دولية وإقليمية ومحلية، ويستميل اهل نفوذ مالي وسياسي لا مناص من صداقاتهم ونفوذهم، إذا عز السند المحلي. وحماية التحويلات السورية، والدولرة اللبنانية، جزء من عائد تتوخاه السياسة التي تنتهج منذ نحو ربع القرن في لبنان، ووجه من وجوه تسويغ هذه السياسة في سورية نفسها. اما اضطراب البيئات الاقتصادية والسياسية والقانونية، وعصيانها التكهن والمنطق جميعاً، فشرطان ملازمان لتداعي الدولة والحياة السياسية، وتخبطهما في الأزمات والمنازعات الجزئية والعقيمة، وفي "وحدة وطنية" يتولاها طَعَنَة محترفون، على قول روائي صقلي كبير. * كاتب لبناني.