تفاؤل الارادة اختار ان يكون الضمير، ومثل كل الذين يلعبون هذا الدور لا يقبلون النقد دوماً. لكنه يستطيع ان يكون عادلاً، وفي اوائل الثمانينات تعرض لهجمات من كل صوب لدفاعه عن حق روبير فوريسون في حرية الرأي. حوكم البروفسور الفرنسي لتزويره التاريخ ونفيه حصول المحرقة، فقال نعوم تشومسكي ان فرض الدولة الحقائق التاريخية وعقابها من ينكرها مسألة توتاليتارية. صحيح ان الحقائق الرسمية صحيحة في هذه الحال لكن ذلك لا ينفي الحق في معارضتها. تشومسكي الاميركي اليهودي قبل دعوة "البرلمان العالمي للكتاب" الى لقاء يعقد في مدينة رام الله لكسر الحصار الاسرائىلي والمطالبة بالعودة الى المفاوضات وحقوق الشعب الفلسطيني. في 1953 امضى ستة اسابيع مع زوجته كارول شاتنر في كيبوتز اسرائىلي، وفكرا جدياً بالعيش هناك. احب الحياة في الكيبوتز والعمل الجسدي الذي يجعلك تشعر بالانجاز "لكن الطريقة التي عومل بها العرب وحتى اليهود الشرقيون كانت بشعة كثيراً. ازعجتني ايضاً الوحدة الايديولوجية التي كانت ستالينية بعمق، ووجدت ان من المستحيل قبولها". في الثالثة والسبعين، هو الحي الوحيد بين المراجع العشرة الاكثر استشهاداً بها في العلوم الانسانية. صنع اسمه اولاً في فلسفة اللغة وكان للعلم المعرفي ما كانه غاليليو للفيزياء. في التاسعة والعشرين ثور دراسة اللغة في 120 صحفة. لم تكن هذه سلوكاً نتعلمه بل ارث انساني هو اكثر ما يميزنا عن الحيوان او الآلة. بات تعلم اللغة شأناً نفسياً وبيولوجياً، وعلى رغم كثرة اللغات يشترك البشر بامتلاكهم قدرة لغوية مرتبطة بالجسد. في مقاله "اللغة والحرية" قال ان الاولى نقطة الانطلاق للبحث في الطبيعة البشرية التي نفى اليسار الماركسي لا ماركس وجودها، وقالوا ان الانسان يتشكل بظروفه التاريخية وبيئته. "لا معنى لذلك، لكن هذه الافكار تلائم الطامحين الى السياسات الادارية لأنها تزيل الحواجز الاخلاقية وتسهّل الاستغلال والقهر". هاجس المسؤولية الاخلاقية هزّه باكراً. في العاشرة كتب افتتاحية لصحيفة المدرسة عن صعود الفاشية بعد سقوط برشلونة في الحرب الاهلية الاسبانية. "كنت دائماً مع الخاسرين، وبدأت في الثالثة عشرة جمع المؤلفات الفوضوية". نشط في الصراع العربي - الاسرائىلي ودعا الى قيام دولة من امتين، عربية ويهودية. المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد يرى عمل نعوم تشومسكي "حرباً طويلة بين الحقيقة وسلسلة الخرافات" ويجده من اهم المتصدين للسلطة الظالمة والاوهام. من اميركا اللاتينية الى الشرق الاوسط وأندونيسيا يزيل الاوهام التي يجامل الاميركيون انفسهم بها ويصدقونها. يتحدث عن ديكتاتورية السنوات الاربع الرئاسة وعبودية المثقفين للسلطة وغسل الدماغ في الاعلام الذي يخطب في الحريات. يتمتع الاميركيون بقدر من الحريات اكبر من غيرهم، صحيح، لكن هذه تتعايش مع امبريالية همها تأمين عالم آمن للرأسمال الاميركي من دون ان تنشغل بدم الفظائع التي تلطخ ايدي الاميركيين. عاش ابواه المهاجران اليهوديان من روسيا وليتوانيا في غيتو في فيلادلفيا، وشاهد الناس يدقون الابواب في حقبة الركود الكبير ليبيعوا السجاد، والعاملات المضربات يتعرضن للضرب خارج معمل النسيج. سمع خطب هتلر ورأى الرد عليها في وجه امه، وعندما ألقت اميركا القنبلة الذرية على هيروشيما صدم لأن احداً من المشاركين في مخيم المراهقين اليهود لم يهتم. عارض حرب فيتنام فالتحقت زوجته بالجامعة ونالت الشهادة لكي تعيل العائلة اذا دخل السجن. ثم رفض دفع الضرائب فسجن عندها وكان همه الأول عجزه عن اعطاء الدرس لطلابه يوم الاثنين. يتهم الاعلام بجعل القارئ والمشاهد سلعة يبيعها للمعلن، وفي "ردع الديموقراطية" قال ان الولاياتالمتحدة تجهض المحاولات الديموقراطية في العالم، وتميز بين من يستحق ومن لا يستحق ان يكون ضحية الفظائع استناداً الى كونه من دولة عدوة او اخرى زبونة للاقتصاد الاميركي. اميركا قوة عظمى خارجة عن القانون، يقول، ويريدها اكثر مسؤولية أخلاقية من غيرها. معقول؟ يعود الى غرامشي: "تشاؤم الفكر، تفاؤل الارادة". الروّاد منع دانيال بارنباوم من زيارة رام الله الاربعاء 6 آذار مارس بعدما اعلن الجيش الاسرائىلي انه لن يستطيع ضمان سلامته. مدير اوركسترا شيكاغو السمفونية قال ان الحدث اجِّل ولم يلغَ، وكان في القدس عندما اعلن ان لا حل عسكرياً للصراع الحالي، وان تسهيل الحوار واجب على من يمكنهم ذلك. الموسيقي الاسرائىلي يعيش في برلين ويرى القدس بيته "لكنني حزين لوضعها اليوم. الارض هي جوهر المشكلة هناك، والمسألة هي هل يستطيع الفلسطينيون والاسرائىليون التعايش وقبول ارتباط مصيرهم". بارنباوم ولد لمعلمي موسيقى روسيين في الارجنتين، وبدأ يعزف البيانو في حفلات عامة في الثامنة ويأخذ دروساً في قيادة الفرقة الموسيقية في الثانية عشرة. كان سيعزف في جامعة بير زيت واهتم ان يرى الاسرائىليون ان هناك مثقفين يحبون الموسيقى وليس مفجري قنابل انتحاريين فقط بين الفلسطينيين، وان يرى الفلسطينيون ايضاً ان هناك اسرائىليين مثقفين. الزيارة المجهضة لم تكن الاحباط الاول في سعيه الى السلام من طريق الموسيقى. ينظم ورشة موسيقية سنوياً في شيكاغو، والعام الماضي اشترك ثلاثة وسبعون موسيقياً شاباً اسرائيلياً وفلسطينياً ولبنانياً وأردنياً وسورياً درسوا وعزفوا وعاشوا معاً "لكسر حواجز الجهل. إذا عزفت مع شخص ما كيف تعتبره الشيطان بعد ذلك؟". لكن الورشة بدأت على هذا النحو بالنسبة الى الذين نشأوا وهم يرون الآخر الشر مجسداً. عندما بدأ المشروع أعتقد انه لن يجذب اكثر من ثلاثين شخصاً لكنه تلقى مئتي طلب من الشرق الأوسط فذهل ورأى حلمه امام عينيه. لكن اصواتاً ارتفعت في العالم العربي تقول ان عمله جزء من التطبيع فامتنع البعض عن الذهاب، لكن البعض الآخر غادر بلاده سراً لكي يستطيع المشاركة. "سأتابع بالطبع. هذا النوع من التعاون بين اليهود والعرب هو الطريق الوحيد الى الأمام، ونحن نستطيع ان نكون رواداً". انتقل الى إسرائيل مع اهله عندما كان في العاشرة ويراها ارضاً تتسع له وللفلسطينيين معاً. المحرمات القديمة تحد رؤية الجانبين، يقول، والجهل الكبير عندهما يحيّره. الصيف الماضي تحدى عداء الإسرائيليين لريتشارد فاغنر الذي كان الموسيقي المفضل لأدولف هتلر. عزف مقاطع من "تريستان وايزولد" عندما طولب بالمزيد في مهرجان اسرائيل الموسيقي فارتفعت أصوات تشتمه وغادر بعض الحضور البالغ ثلاثة آلاف. من بقي وفهم دعوته الى مراجعة الماضي والمحرمات صفق له في النهاية وقوفاً. ما زالت أصوات يهودية بريطانية تشكو اللاسامية التي تراها تجددت بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر وتصاعد العنف في اسرائيل. "ذا ميل اون صنداي" الصحيفة الشعبية الواسعة الانتشار نشرت مقالاً متظلماً لصحافية رفضت اتهام اسرائيل بالتسبب بالعنف ووجهته الى الفلسطينيين "الارهابيين". يتهم اليهود، تحت ستار انتقاد اسرائيل، بإدارة السياسة الأميركية وتمويل توني بلير وعدم الولاء لبريطانيا والتعصب احدهم للآخر والانتماء الى ماضٍ اجرامي والتسبب بالارهاب العالمي. ليست صهيونية، أوضحت، ولا تريد العيش في اسرائيل أو تعتبر ذلك مهمة اليهود التاريخية، لكنها تراها ملجأهم في "وطنهم التاريخي"، وهي بريطانية، لكن بريطانيا كانت أول من طرد اليهود في القرن الثالث عشر وتبعتها اسبانيا ثم المانيا التي شاءت محوهم عن سطح الأرض. يهود بريطانيون كثر ممزقون بين جنسيتهم البريطانية وماضيهم اليهودي المشترك، قالت، ولئن أصابهم الذعر من سلوك اسرائيل الذي توحش يخشون ان تكون في صراع يتعلق بوجودها. البريطانيون "العادلون المضيافون" لا يدركون ذلك ويلقون اللوم على اليهود، أمر يذكّر بالتهمة اللاسامية القديمة انهم يجلبون الشقاء على أنفسهم بأنفسهم. إذاً؟ تستشهد بجورج ستاينر الذي نصح اليهود الأسبوع الماضي بحزم حقائب جاهزة للرحيل في أي لحظة وتعليم أولادهم لغات أجنبية استعداداً للتشرد من جديد. يحاول اليهود استغلال عقدة الذنب مجدداً في السجال الدائر حول الصهيونية واللاسامية والعلاقة بين الانتماءين اليهودي و"المحلي". مجلة "نيوستيسمان" نشرت على غلافها في 14 كانون الثاني يناير رسماً لنجمة ديفيد تخترق العلم البريطاني وتساءل العنوان: مؤامرة كوشر؟ تغيب ردود العرب غالباً في زوايا القراء، وفي الرد على مقال لبيتر بيمونت في "ذي اوبزرفر" في 24 شباط فبراير رسالة لعربي واحد وثمانية يهود أحدهم بروفسور في جامعة أكسفورد. جو واغرمان، رئيسة مجلس النواب اليهود البريطانيين ذكرت ان الاعتداءات الكلامية والجسدية على اليهود ازدادت ثلاثة أضعاف في بريطانيا بعد 11 أيلول، وان اللاسامية استعادت احترامها في الجامعات والمدارس وحفلات العشاء. كبير الحاخامين البريطانيين جوناثان ساكس رأى ان ما يقوله مسلمون عن اليهود يذكّر باضطهاد الكنيسة لهم في القرون الوسطى، وذكر الأسبوع الماضي ان اعداء اسرائيل حاولوا توريطها بأزمات عسكرية وسياسية واقتصادية في الماضي، وها هم نجحوا في وضعها في أزمة أخلاقية.