كان من الممكن أن يمر خبر الحفلة التي سيقدمها الموسيقار اليهودي وعازف البيانو الشهير دانيال بارنباوم في القاهرة غداً مرور الكرام، لولا جدال تفجر حول الزيارة أعاد إلى الواجهة الحديث عن محاولات استدراج المثقفين المصريين إلى التطبيع مع إسرائيل، فضلاً عن نقاشات أخرى ربطت بين إقامة الحفلة ورغبة وزير الثقافة المصري فاروق حسني في استقطاب مزيد من المثقفين العالميين الداعين إلى تنشيط قنوات الحوار العربي - الإسرائيلي. هذه الرغبة رآها البعض مربوطة بحملة حسني لدعم موقفه كمرشح لرئاسة منظمة «يونيسكو» الدولية، في ظل حملة مضادة يواجهها من وسائل إعلام إسرائيلية. واللافت في النقاش حول زيارة بارنباوم أنه غيّب معلومات كان من شأنها أن تطوره في اتجاه مختلف يسعى إلى استثمار الزيارة بدلاً من مناهضتها، ومن تلك المعلومات الصلات التي تربط بين بارنباوم والمفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد ونشاطهما لتأسيس مؤسسة واحدة هي مؤسسة «بارنباوم - سعيد». والأغرب أن الجدال تفجر من خلال صحيفة «الوفد» ذات الاتجاه الليبرالي، إذ قاد محررها الموسيقي أمجد مصطفى حملة لوقف الزيارة، فيما تولى الناقد السينمائي المصري سمير فريد والناقدة الأدبية فريدة النقاش، وهما قادمان من «ميراث يساري» ومن تاريخ طويل في مناهضة التطبيع مع إسرائيل، إدارة حملة أخرى تدعو إلى استثمار زيارة بارنباوم ودعمها، لكي يتمكن الأخير من مواصلة جهوده في الاحتجاج على ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في الأرض الفلسطينية. والحملة الأخيرة عُبّر عنها في مقالات صحافية ذكرت بتاريخ بارنباوم الأرجنتيني الأصل الذي يحمل جواز سفر إسرائيلياً، إلى جواز سفره الفلسطيني، في فضح إسرائيل وممارساتها وآخرها الاحتجاج على جهدها في «عرقلة مهرجان الثقافة الفلسطينية في القدس». إذ وصف بارنباوم خطوة إسرائيل باعتقال 20 من العاملين في المهرجان بأنها «إشارة تدل الى الخوف من التعبير الثقافي للفلسطينيين»، معتبراً ان الحكومة الإسرائيلية تظهر نفسها بهذه الخطوة ك «عدو للثقافة». الداعمون للزيارة تبنوا خطاباً عقلانياً مؤسساً على معرفة بتاريخ الرجل وطبيعة عمله. وعبّرت النقّاش عن هذا المنطق قائلة: «بارنباوم يتخذ موقفاً شجاعاً معادياً للصهيونية وللممارسات الإسرائيلية العنصرية ضد الشعب الفلسطيني الذي يؤيد بكل قوته حقه في الحرية والاستقرار وبناء دولته، لذلك منحته السلطة الفلسطينية جنسية الدولة الوليدة (جنسية فلسطين). وفي أكثر من مناسبة عبر عن اعتزازه بهذه الجنسية، وتفاخر بها». وأشارت النقّاش إلى ان الصداقة بين بارنباوم وسعيد حققت فكرة «ديوان الشرق والغرب»، تلك الفرقة الموسيقية التي أنشآها معاً من عرب مسلمين ومسيحيين ويهود، ليكشف عازفوها معاً تلك الأرض الحلم، أي التعايش على أسس عادلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، معتبرة أن الفكرة ذاتها تعتبر «التجسيد الأرقى لمشروع التحرر العربي». ووصفت النقاش معارضي زيارة بارنباوم لأنه يهودي بأنهم «يشوّهون الصراع ضد المشروع الصهيوني، باعتباره صراعاً دينياً بين الإسلام واليهودية». في المقابل، اعتبر المحرر الموسيقي ل «الوفد» أمجد مصطفى أن دعوة بارنباوم تأتي في إطار استرضاء وزير الثقافة المصري لليهود والإسرائيليين في حملته الانتخابية للفوز بمنصب مدير عام «يونسكو»، قائلاً: «المنصب الذي يؤدي إلى عمل ضد رغبة أهل مصر يذهب إلى الجحيم». من جهته، ذكّر فريد بعزف بارنباوم سوناتات بيتهوفن الكاملة (32) على مدى ثلاثة أسابيع في نيسان (أبريل) 2008 في لندن، وهو تحدّ غير مسبوق لليهود، لافتاً إلى حوار نشرته معه جريدة «تايمز» البريطانية لمناسبة ذلك الحدث الموسيقي، قال فيه بارنباوم عن المشكلة الإسرائيلية - الفلسطينية: «يجب ألا ننسى أن اليهود كانوا 15 في المئة من سكان فلسطين الأصليين، بينما كانت نسبة العرب 85 في المئة». وانتهى فريد إلى وصف بارنباوم ب «الفنان العظيم» الذي يجب أن يكون في استقباله رموز مصر من العلماء والفنانين والكتاب الذين يؤمنون بالسلام والعدل ويعبرون عن مصر الحضارة والخير والجمال. بينما واصل محرر «الوفد» حملته مشدداً على أنه سبق لمصر أن رفضت وجوده الفني كقائد أو عازف بيانو، فلماذا تقبل به اليوم ليعزف مع أوركسترا تضم عازفين إسرائيليين. وأكد مصطفى أن أكاديمية الفنون التابعة لوزارة الثقافة المصرية منعت التعامل معه ورفضت المنح الطالبية التي كانت ترسل إلى المدرسة التي أنشأها في إحدى المدن الألمانية بعدما اكتشفت الأكاديمية أنه «يغسل أدمغة» الطلاب المصريين لكي يتعاملوا مع الآخر. وبعيداً من هذا الملف، بات مؤكداً أن بارنباوم سيقود أوركسترا القاهرة السيمفونية في دار الأوبرا المصرية غداً، وسيعزف مقطوعات منفردة على البيانو، إضافة إلى السيمفونية الخامسة لبيتهوفن. وتأتي الحفلة التي تدعمها النمسا وإسبانيا في إطار مساعيه لدعم الحوار في الشرق الأوسط. وكان من المقرر أن تعزف الفرقة في أوبرا القاهرة في 10 كانون الثاني (يناير) الماضي، احتفالاً بمرور عشر سنوات على إنشائها، ولكن بارنباوم ألغى الحفلة بسبب العدوان الإسرائيلي على غزة، الذي استنكره، وقال آنذاك: «يثبت العدوان الإسرائيلي مجدداً قصر نظر من يؤمنون بالحلول العسكرية».