ينشغل السودانيون هذه الأيام بما تخبئه الأيام، أو الأشهر القادمة، لمصائرهم عقب تداعيات الحادي عشر من ايلول سبتمبر، وتولي الولاياتالمتحدة النظر بقوة في امور كانت لا تهمها كثيراً في السابق، مثل الحرب الأهلية الدائرة في السودان التي تقترب حثيثاً من عامها العشرين. وزاد الأمر تعقيداً ما يتبادله الناس من معلومات حول بروز "الكونفيديرالية" من جديد، وهذه المرة حلاً اخيراً بتعهد اميركي كما يقال، بعد ان استعصت الحلول الهادفة الى ايقاف الحرب وإحلال السلام والعدالة، وربما الديموقراطية والتنمية المستدامة. وليس سراً ان الطرف الأكثر توجساً من هذه "الكونفيديرالية"، اي دولة واحدة بنظامين مختلفين، هو حزب الأمة السوداني بزعامة الصادق المهدي، فهي تلقي بظلالها على صراع قديم متجدد مع مجموعة سياسية اخرى اصبحت، في العقدين الماضيين، رقماً سياسياً وعسكرياً من الصعب تجاوزه ألا وهو "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بزعامة جون قرنق. فحزب الأمة والحركة جمعتهما سنوات قليلة من التعاون في عقد التسعينات المنقضي في صراع مشترك ضد نظام الخرطوم القائم، وسنوات اكثر بكثير من الحذر والتشكيك والاتهامات المتبادلة. والصراع الأزلي بينهما يعود في جزء كبير منه الى التناحر الجغرافي على الأرض والمرعى في فترات الجفاف الموسمية التي تضرب الجزء الجنوبي الغربي بما يعرف بالشمال الاصطلاحي للسودان. وهذا الجزء تقطنه قبائل تشتغل برعي البقر يسميها السودانيون في ثقافتهم "البقارة". وهذه القبائل تدين في معظمها بالولاء لطائفة الأنصار وزعامة حزب الأمة. وهذا الجزء يُعرف ايضاً بمناطق "التماس" والتداخل مع قبائل الدينكا الجنوبية كانت من اكبر القبائل عدداً في السودان قبل الحرب الموالية للحركة الشعبية وزعيمها. ومناطق التماس هذه هي المعنية، حالياً، باتهامات الرق الذي لفت نظر الدوائر الأميركية، وأثار فيها مجموعات الضغط الدينية والحقوقية والأفرو - اميركية. ولا ننسَ ان هذه المنطقة، او المناطق المتنازع عليها، دخلها اخيراً قبل اربعة اعوام عامل آخر هو النفط بتداعياته الخطرة، وحروبه التي تنقسم بين حماية الحقول والحق الجغرافي والقبلي فيها، وانعكاساته الدولية على تمويل الحرب وإطالة امدها. وانسحاب حزب الأمة من "التجمع الوطني الديموقراطي" وعودة الصادق المهدي الى الخرطوم في اواخر 1999، زاد شكوك الجنوبيين تجاه زعيم حزب الأمة وأسرته، الى درجة ان تلك الشكوك والمحاذير امتدت الى غير المنضوين تحت راية الحركة الشعبية، وإلى الفصائل المتعاطفة معها في منطقة جبال النوبة الحدودية بين ما يعرف بشمال السودان وجنوبه. فالحركة حاورت جميع الفصائل السياسية، بما فيهم الحكومة، ووسعت من قنواتها حتى أنها وقّعت قبل عام على "مذكرة تفاهم" اودت بزعيم الجناح المنشق من حزب الحكومة، اي حسن الترابي، الى السجن او الاعتقال المنزلي الذي لا يزال فيه. غير ان اي لقاء او حوار مع حزب الأمة معدوم. وفي رسالة بعث بها قرنق الى الصادق المهدي في 1998 فاجأ قرنق الجميع بإيراده وقائع حدثت منذ فترة بعيدة، نسبياً، وإن كان يجهلها كثر من المعاصرين في الشمال، فيما هي - اي تلك الوقائع ومثيلاتها - بقيت محفورة في الذاكرة الجمعية لعموم الجنوبيين. وكان عنصر المفاجأة التي جاءت في شكل توثيق محكم لحادثة وقعت في عام 1966، عندما كان الصادق رئيساً للوزارة للمرة الأولى في حياته السياسية الناشئة. ومجمل الواقعة ان طوفاً من الجيش تعرض لكمين في منطقة بأعالي النيل في الجنوب قتل فيه بعض العسكريين. وكان من بين القتلى ضابط صغير السن برتبة ملازم. وأشارت الصحف في الخرطوم الى الحادثة، ونشر بعضها نعياً للقتيل، مع صورته. غير ان ما لم تنشره الصحف - وكانت تتمتع في حينه، في ظل الديموقراطية الثانية، بحرية واسعة للتعبير - ولم يسمع به غالبية الناس في الشمال، هو ان الجيش قاد إثر مقتل الضابط المذكور حملة انتقام ومذابح راح ضحيتها عدد من سلاطين قبائل اعالي النيل في الجنوب. وكان المأخذ الذي وثّقه الجنوبيون، وأبرزه قرنق في رسالته المنشورة الى الصادق، انه بصفته رئيساً منتخباً للوزراء قام بزيارة الى المنطقة بعد ايام قليلة على تلك الحادثة، ووقف هناك على قبر الملازم القتيل وأجهش بالبكاء. وكان التساؤل الذي أورده زعيم الحركة الشعبية في رسالته تلك: "وماذا عن السلاطين الذين ذبحهم الجيش الحكومي؟ ألم يكونوا جديرين بلفتة من رئيس الوزراء الذي من المفترض ان يكون المسؤول التنفيذي الأول لكل السودانيين بغض النظر عن جهويتهم أو أعراقهم أو ديانتهم؟" كان السؤال صاعقاً ومدهشاً في آن. ويبدو مبعث الدهشة ان كثيراً من السودانيين الشماليين انتبهوا ان للجنوبيين ذاكرة وثائقية، وأن جرائم ارتكبت في عقود ماضية ظلت مطوية لسنين عدة. وما ايراد اسم الضابط القتيل ورد اسمه في الرسالة كاملاً سوى مثال على دقة التوثيق. ولم يتبق إلا ذكر خلفيته العرقية والاجتماعية والسياسية. والود المفقود بين الإدارة الأميركية والصادق المهدي يعود الى علاقاته القديمة مع رجال الدين في طهران ومع القيادة الليبية. وزيارته الأخيرة لأميركا شباط/ فبراير 2002 يشك كثر في انها جاءت بدعوة منهم. وهم يرون ان الإدارة، بشقيها الديموقراطي سابقاً والجمهوري حالياً، لديها "رأي" فيه. وهو الأمر الذي يزعجه كثيراً. وعبر عنه في الآونة الأخيرة برفضه "للأجندة غير الوطنية والحربية"، في اشارة مضمرة الى الحركة الشعبية، أو "الحلول التي تُفرض فوق رؤوس السودانيين"، في اشارة الى الولاياتالمتحدة. فالاتفاق الأخير على وقف النار في جبال النوبة بين الحركة والحكومة، كما يقول هؤلاء، ما هو إلا "بروفه" اولية للحل القادم في الجنوب، وهو إرهاص بكونفيديرالية تلوح في الأفق، ومن المبكر جداً التكهن بصيرورتها. ويضيفون ان الكونفيديرالية درس، بعد فوات الأوان، موجه للصادق وحزبه منذ اللحظة التي تقرر فيها الانسحاب من "التجمع الوطني" المعارض لحكومة البشير، في الداخل والخارج، ودرس كذلك لكل من يحاول التقليل من شأن الحركة الشعبية وتمرسها في العمل السياسي والعسكري في السودان بشماله وغربه وشرقه وجنوبه، وعلى الأخص بعد الحادي عشر من ايلول. السعودية - عبدالفتاح عبدالسلام كاتب سوداني ومترجم بسفارة ايرلندا في الرياض